79

ويقال ذلك في المساعي الكبار التي يضطلع بها المردة الجبارون، ولا يقوى على هذا الاضطلاع بها من دونهم من ذوي الأجسام المحسوسة.

وحيث تسري الخواطر إلى تصور الخفاء والدقة والقدرة الخارقة لا جرم تنتهي بمسراها إلى العوالم الخفية التي لا ترى بالعيون، ولا تحد قدرتها بما يحد الأيدي والأقدام من أجسام بني آدم وحواء.

ولهذا الاستطراد الطبيعي في تتابع الخواطر توافقت بداهة البشر على علاقة البلاغة بالجن، بل على علاقة كل «بالغ» من الأقوال والأعمال بتلك الخلائق المستترة التي لا تحدها نقائص اللحم والدم؛ لأنها متلبسة في الأذهان بخلقة النار والريح ومادة «الجو اللطيف» مما لا يحصر ولا يحال بينه وبين مسعاه.

والعرب تزعم أن شعراءها تستوحي الجن، وأن كل شاعر منهم يستعين بشيطان يصاحبه ويعرفه باسمه، فهبيد اسم شيطان عبيد، ومسحل اسم شيطان الأعشى، وجهنام اسم شيطان عمرو بن قطن، وسنقناق اسم شيطان بشار. ويزعم الفرزدق أن الشعر منقسم بين شيطانين؛ أحدهما يسمى الهوجل، وهو موكل بالجيد من الشعر، والآخر يسمى الهوبر، وهو موكل برديئه وسقطه. وأنشده رجل من تميم بيتا يقول فيه:

ومنهم عمر المحمود نائله

كأنما رأسه طين الخواتيم

فضحك وقال: «إنهما قد اجتمعا لك في هذا البيت، فكان معك الهوجل في أوله فأجدت، وخالطت الهوبر في آخره فأفسدت.»

وكان أبو النجم الرجاز يفخر على الشعراء ويقول: إن شياطينهم جميعا إناث ما خلا شيطانه، فهو شيطان ذكر:

إني وكل شاعر من البشر

شيطانه أنثى وشيطاني ذكر

Página desconocida