55

ولا يتوقف تاريخ اللاهوت بعد أوريجين على أسماء أكبر من أسماء القديس أوغسطين، والقديس توما الأكويني، ومارتن لوثر رافع علم الثورة الذي سمى هو نفسه شيطانا، وسمى الحبر الأعظم في زمانه بالشيطان. •••

عاش القديس أوغسطين بين أواسط القرن الرابع وأوائل القرن الخامس للميلاد (354-430)، وأحاط بما تقدمه من الشروح والفروض في موضوع الشيطانيات، وذهب في علة سقوط الشيطان مذهبا كمذهب أوريجين، فقال إنه خلق للخير، ولكنه أشقى نفسه بحسده وكبريائه، فأنزله الله من سماء الأثير الصافي إلى هواء الأرض الكثيف، ولا يمتنع عند أوغسطين أن يكون هذا الجسد ملائما للتناسل من الأجساد البشرية؛ لأن الحديث عن علاقة الشياطين بالنساء الآدميات متفق عليه بين الوثنيين عباد الشياطين، وبين المؤمنين الذين يلعنونها ويؤمنون بوجودها.

واطلع أوغسطين على أطراف من الفلسفة اليونانية كما اطلع عليها أوريجين، فلم يستبعد أن يكون جسد الشيطان أرفع من جسد الإنسان، كما زعم الفيلسوف الأفلاطوني أبوليوس “Apuleius” ، الذي كان له بعض الحظوة بين المثقفين من رجال الدين، ولكنه أبى أن يقول إن امتياز الشيطان بالجسد يرفعه رتبة على الإنسان، فإن الحيوان ليمتاز على الإنسان بالحس، كما يمتاز النسر بالنظر، والكلب بالشم، والطير بالخفة، ولا يقال إنها أرفع منه رتبة لرجحانها عليه في هذه الحواس. وقد يخف جسم الشيطان عن الجسم البشري، ولكنه يصلى بجسمه نار العذاب كما جاء في وعيد السيد المسيح.

وأوغسطين هو صاحب الكتاب المشهور عن «مدينة الله» أو عن ملكوت الله، وتقابله مملكة العالم التي قد يسيطر عليها الشيطان عنوة أو بالكيد والخديعة، وفي وسعه أن يتسلل إلى الأرواح من مسكنه في طبقات الهواء، أو يترصد لها وهي صاعدة إلى الملأ الأعلى ؛ فإنها في معراجها لا تني تعبر بالشياطين الملعونين والملائكة الأبرار، فإذا كانت في حياتها قد غلبت سيادة الشر بقمع الشهوات، والزهد في المطامع، فلا سلطان للشيطان عليها في معراجها إلى عليين، وإذا خرجت من الدنيا وفيها شائبة من غواية الشيطان عالقة بها، فتلك هي العلاقة التي يقنصها منها الشيطان! ويعوقها بها من الصعود، ويهبط بها إلى هوائه أو هاويته حيث يشاء.

ويرى أوغسطين كمن تقدمون وأتوا بعده أن الشيطان عليم بالسحر، قادر على نشر الأوبئة والمداواة منها، وأن الأوثان المعبودة شياطين لها هذا العلم، وهذه القدرة، وفي وسعها أن ترضي عبادها بقضاء المطامع، وترهبهم بالخوف والمرض، ولكنها قدرة محدودة تقصر عن عزيمة الإيمان إذا صدقت نية المؤمن عليها، ولم يترك المؤمنون سدى في حربهم معها؛ لأنهم معانون عليها بكفارة السيد المسيح.

وأعظم الأعلام في اللاهوت المسيحي بعد أوغسطين فيلسوف القرون الوسطى توما الأكويني (1227-1274)، الذي فلسف العقائد المسيحية على مثال لم يسبق إليه ولم يلحقه أحد بعده، ومحور فلسفته حرية الإرادة التي يملكها كل مخلوق عاقل، وأولهم الشيطان؛ لأنه كان في المنزلة العليا بين المخلوقات العلوية، وكان امتحانه من ثم أعسر من امتحان سواه، وكانت قدرته كذلك على الثبات والنجاة أعظم من قدرة الآخرين، فأذهلته العظمة عن كل شيء غير نفسه، وطمح إلى مساواة الله في عظمته، ومشاركته في وحدانيته، وتبعه ممن هم على غراره، فهوى من عليائه، وهوى معه تابعوه.

ويسمي الفيلسوف هؤلاء الشياطين جميعا بالكائنات العقلية أو الكائنات الذهنية؛ تمييزا لها عن الكائنات الحيوانية المولدة من التراب، ويقول إنها مسلطة على عقول البشر لاستدراجها واستخراج غاية ما انطوت عليه من الصدق والمناعة، وقد يحدث ذلك بإذن الله وقضائه، وقد تكون ذرائعه الكبرى مستقرة في غرائز الإنسان، ويكون الإنسان فيها عدوا لنفسه إذا غلب عليه هواه قبل أن يغلبه وسواس الشيطان.

ويجاري الفيلسوف من تقدموه في الاعتراف للشيطان بالقدرة على العجائب والأفانين التي تشبه المعجزات، ولكنه يحد هذه القدرة حد العالم الفيلسوف الذي يرفض عقله التسليم بالعبث في نظام الطبيعة ، فلا خوارق على التحقيق في طاقة الشيطان، ولا تعقل الخوارق إلا من عمل الإله الذي وضع للعالم نظامه وأجراه عليه، وإنما يستطيع الشيطان إثارة المادة بعناصرها، فيدمر بها من تراد له الفتنة، ولا يتعدى هذه العوارض إلى تبديل جوهر المادة، أو تبديل جوهر الروح، وكل ما يصنعه الشيطان مما يلتبس على الناس بالمعجزات، فإنما هو خداع لحس الإنسان حتى يرى الأشياء على غير صورها، أو تبديل لأشكال تلك الأشياء لا ينفذ إلى الصميم.

ولعل القديس توما الأكويني قد قال كلمة اللاهوت الأخيرة في هذا الموضع، فلم يحدث بعده رأي غير هذا الرأي في تصوير الشيطان، أو تصوير قدرته على بني الإنسان. •••

ويأتي أكبر الأعلام بعده في اللاهوت المسيحي على اتجاه غير هذا الاتجاه، ولكنه لا يغير شيئا من وصف الشيطان كما يغير الشيء الكثير من وصف الذين استهواهم الشيطان في رأيه بين رجال الدين ورجال الدنيا.

Página desconocida