118

من رام أن يعيب القيم الوجدانية التي دان بها الإنسان منذ جهالته الأولى، فهو - لا ريب - واجد فيها كثيرا مما يعاب ويفرط في المعابة، لكن السؤال الفصل هنا لا يكون: هل تعاب القيم الوجدانية أو لا تعاب؟ بل يكون: هل توجد هذه القيم الوجدانية لإنسان ناقص ينمو ويكبر، أو توجد لإنسان كامل معصوم من نشأته الأولى؟ إن عقيدة تصلحها عقيدة بعدها كالمعرفة تصلحها معرفة تليها وتقوم عليها، لا هذه تسقط العلم ولا تلك.

إننا فرضنا في مستهل هذه الخاتمة أن أدعياء العلم تسلموا النوع الإنسان منذ مائة قرن؛ ليرشدوه إلى طريق غير الطريق الذي اتبعه في التمييز بين الخير والشر، والقداسة واللعنة، فلندع هذا الفرض البعيد، ولنستغن عنه بما بين أيدينا من «الديانات العلمية» التي ارتضاها «الأنبياء العلميون» في القرنين الأخيرين بعد اختبار العقائد والمذاهب، والفراغ من أوهام الخرافات والأساطير، وللنظر في الديانة التي سموها الديانة المادية الاقتصادية، وقرروا فيها أن احتكار الفلوس هو الذي يخلق الأديان والأفكار، ويقوم القيم، ويرفع الطبقات، وأنه إذا جاء الوقت الذي ينقضي فيه احتكار الفلوس زالت الطبقات، وخلا المجتمع من السادة أبدا سرمدا بغير انتهاء.

ولم يمض على قيام هذه الديانة جيل واحد حتى سمعنا علما من أعلامها يأسف ويأسى، ثم ينعى على زملائه أنهم يختارون لإدارة المعامل وتنظيم الحكومة أذنابا من المقربين إليهم، ويقصون عنها ذوي الكفاية والغناء في العلم والعمل والسابقة المذهبية، ويبقى في نفوسهم بعد إلغاء الاحتكار باعث يرفع ويضع بغير مقدار إلا أن يكون مقدار الأثرة والإيثار.

وهؤلاء المتدينون «العلميون» هم الذين يصدقون مع هذا أنهم حكموا على المستقبل، ورسموا للنوع الإنساني طريقه في نظام المجتمع وبواعث الأخلاق أبد الآبدين، ودهر الداهرين، ألوفا من السنين، لا بل ملايين من القرون بعد ملايين.

وكل ما صدقه عجائز الخرافة، من عهد الكهوف إلى اليوم، يطير هباء أمام هذه الخرافة التي استقر عليها أدعياء العلم والنبوءات العلمية، وكفى بهذه المقارنة تعجيزا لمن يتطاول به الغرور فيخال أنه يصحح العقائد بمقاييسه ومقاييس علمه المزعوم.

وسيبقى أناس يتعوذون من إبليس يوم يضحكون من خرافة «المادية الاقتصادية»: كيف كانت؟ وكيف جازت على العقول؟ ونحن نقول في أول هذه الرسالة : إن ظهور إبليس في عقائد الناس كان علامة خير؛ لأنه علامة التمييز بين الشر ونقيضه، فنقول في ختامها: إن بقاءه بعد المادية الاقتصادية علامة خير أخرى؛ لأن الكون الذي يبقى فيه إبليس ملعونا أشرف من الكون الذي لا يميز بين القداسة واللعنة، ولا يعرف شيئا يلعنه؛ إذ كان لا يؤمن بإله غير الفلوس، وساء ذلك من إله، وتعالى الله عما يشركون.

عباس محمود العقاد

Página desconocida