مقدمة المؤلف
بِسم اللهِ الرحَمنِ الرحَيم
الحمد لله الذي أجرانا على عادة تفضله، وهدانا في جميع أحوالنا إلى طرق الخير وسبله، وخصّنا بإحسانه المتقادِم، ورزقنا من العقل ما ميّزنا به من البهائم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير بريته، وعلى الطاهرين من أهل بيته وذريته.
إعجاب المرء بنفسه يَشرع إليه ألسنة الطاعنين، وتطاوله على أبناء جنسه يجمع عليه ألسنة الشانئين؛ فلا نقيصة عندي أقبحُ سِمَةً من اغترار الإنسان بجهله، ولا رذيلة أبلغُ وصمةً من إنكار فضيلة من يقع الإجماع على فضله، ولا منقبةَ أجلب للشرف من الاعتراف بالحق إذا وضحت دلائله، ومن الانحراف عن الباطل إذا استُقبحت مجاهله، ولا دلالة على الحلم أبينُ من التوقّف عند الشبهات حتى ينجلي ظلامها، والتصرف على أحكام النّصَفة حتى تهديَك أعلامُها، وما أحسن أثر القاضي إذا عدل في الحكم وأنصف، وأقبح ذكره إذا مال عن الحق وجنف، والظلم قبيح، وهو من الحكام أقبح وأشنع، وجحود الفضل سخف، وهو من الفضلاء أسخف وأفظع، ومن لم يتميّز من العوامّ بمزية تقدم وتخصص سلق المحسنين بلسان ذمّ وتنقص، ومن عدم محاسن التمييز والتحصيل نظر إلى المُمَيَّزين بعين التقصير والتجهيل.
وأكثر آفات كتاب زماننا وشعرائه أنهم لا يهتدون لتعليل الكلام وتشقيقه، ويتبعون الهوى فيضلّهم عن منهج الحق وطريقه؛ فإذا سمعوا فصلًا من كتاب، أو بيتًا
1 / 19
من شعر ممن لا يكاد يجيل في الأدب قِدحا، ولا يعرف هجاء ولا مدحًا؛ فهو يحكم على قائله بالسبق والتفخيم، والإجلال والتعظيم، وليس يدري إن سألته هل ما رواه سليم اللفظ أو مختله، صحيح المعنى أو معتلّه، وهل ترتيبه مستحسن أو مستهجن،
وتقسيمه مطبوع أو مصنوع، ونظامه مستعمل أو مسترذل، وكلامه مستعذب أو مستصعب، وهل سبقه إلى ذلك المعنى أحد قبله، أو هو مبتدِع، أو أورد نظيره سواه أو هو مخترع استبدعوا كلامه، واتبعوا أحكامه، واعتمدوا على الاعتقاد دون الانتقاد، وقبلوه بالتقليد لا بالاختيار، وقابلوه بالامتثال دون الاعتبار والاختبار.
ثم إن بيّنت لهم عَوار ما رَوَوْه وزلله، وخطأ ما حكَوْه وخطله التزموا نُصْرة خطئه واقفين مواقف الأعتذار، ومائلين عن طريقة الانتصاف إلى الانتصار، وليست هذه الخصلة من خصال الأدباء الذين هذبتهم الآداب فصاروا قدوة وأعلامًا، ودرّبتهم العلوم فأصبحوا بين الناس قضاةً وحكامًا، إنما يذهب في مدح الكتاب والشعراء مذهب التقليد من يكون في علومه خفيف البضاعة، قليل الصناعة، صِفَر وِطاب الأدب، ضيّقَ مجال الفضل، قصيرَ باع الفهم، جديبَ رباع العقل، فأما من رزق من المعرفة ما يستطيع أن يميز به بين غثّ الكلام وسمينه، ويفرق بين سخيفه ومتينه، وأوتي من الفضل ما يحسن أن يَعدل به في القضية غير عادل عن الإنصاف، ويحكم بالسوية غير مائل إلى الإسراف والإجحاف، فالأولى به ألا ينظر إلى أحد إلا بعين الاستحقاق والاستيجاب، ولا يحل أحدًا من رتب الجلالة إلا بقدر محله من الآداب، ولا يُعظم الجاهليّة لتقدمهم إذا أخّرتهم معايب أشعارهم، ولا يستحقر المحدثين لتأخرهم إذا قدمتهم محاسن آثارهم، ويطرح الاحتجاج بالمحال طرحًا، ويضرب عن استشعار الباطل صفحًا، ويُجلّ من يَشْهد بفضائله شهودٌ عدول، ويُنزل مَن كلامُه عند التأمل منحولٌ معلول.
ولقد جرى يومًا حديث المتنبي في بعض مجالس أحد الرؤساء، فقال أحد حاملي
1 / 20
عرشه: سبحانَ من ختم بهذا الفاضل الفحولَ من الشعراء وأكرمه، وجمع له من المحاسن ما بعثره في كل من تقدمه، ولو أُنصف لعلق شعره كالسبع المعلقات من
الكعبه، ولقُدّم على جميع شعراء الجاهلية في الرتبة، ولكن حرفه الأدب لحقته، وقلة الإنصاف محت أسمه من جرائد المتقدمين ومحقته، وإلا فهاتوا لأي شاعر شئتم جاهلي أو إسلامي مثل قوله في صفة الفرس:
رجلاه في الركض رجل واليدان يدٌ ... وفعله ما تريد الكف والقدم
أليس هذا أبلغ من قول القائل:
درير كخذروف الوليد أمَرّه ... تتابُعُ كفّيْه بخيط مُوَصَّل
1 / 21
لقد أبدع المتنبي ما شاء وأغرب، وأفصح عن الغرض وأعرب، فقلت للأقيشر ما يقارب هذا المعنى في نعت فرسه وهو قوله:
يجرى كما أختاره فكأنّه ... بجميع ما أبغيه منه عالم
رجلاه رجل واليدان يدٌ إذا ... أحضرته والمتن منه سالم
فصاح وقال: يا قوم أهذا شعر إنسان له مُسكة من عقل أو بُلغة من فضل؟ والله إن للمتنبي غلمانًا وأتباعًا أجلَّ من هذا البليد المجهول. من أي قبيلة هذا العاجزُ الذي تكلم بمثل هذا الفضول؟ فقلت: عافاك الله حديثنا في الإبداع لا في الأتباع، وفي الآداب لا في الأنساب.
ليس تغنى المتنبي جلالةُ نسبه مع ضعف أدبه، ولا يضرّه خلافُ دهره مع اشتهار ذكره، ولقد تأملت أشعاره كلَّها فوجدتُ الأبيات التي يفتخر بها أصحابه، وتُعتبر بها آدابُه من أشعار المتقدمين منسوخة، ومعانيها من معانيهم المخترعة مسلوخة، وإني لأعجب والله من جماعة يغلون في ذكر المتنبي وأمره، ويدّعون الإعجاز في شعره، ويزعمون أن الأبياتَ المعروفةَ له هو مبتدعها ومخترعها ومُحْدِثها ومفترعها، لم يَسبق إلى معناها شاعر، ولم ينطق بأمثالها باد ولا حاضر، وهؤلاء المتعصبون له المفتخرون باللُّمعَ التي يزعمون أنه أستنبطها وأثارها، والمعتدّون بالفِقرَ التي يدّعون أنه افتضَّ أبكارها، والمترنمون بأبيات سائرة يذكرون أنه أنفرد
بألفاظها ومعانيها، وأغرب في أمثلتها ومبانيها، والمتمثلون بها في مجالسهم ونواديهم، والمستعملون لها في خَلَواتهم وأغانيهم كيف لا يستحيون أن يقولوا بعصمته، ويتهالكوا في الدلالة على حكمته، وكيف يستجيزون لنفوسهم، ويستحسنون في عقولهم أن يشهدوا شهادة قاطعة، ويحكموا حكمًا جزمًا بأنها له غيرُ مأخوذة ولا مسروقة، وأن طرائقها هو الذي ابتدأ بتوطئتها غيرَ مسلوكة لغيره ولا مطروقة؟ فليت شعري هل أحاطوا علمًا بنصف دواوين الشعراء للجاهلية والمخضرمين والمتقدمين والمحدثين فضلًا عن جميعها؟ أم هل فيهم من يميز بين مستعملها وبديعها
1 / 22
حتى يطلقوا القول غير محتشمين بأن المتنبي من بين أولئك الشعراء أبدع معانيَ لم يَفطِن لها سواه، ولم يعثُر بها أحد غيره ممن يجري مجراه.
ولقد قال المرزباني فيما حكى عنه: إنه لما صنّف كتابه على حروف المعجم بأسامي الشعراء جمع دواوين قريب من ألف شاعر حتى أختار من عيونها ما أراد، وامتار من متونها ما ارتاد.
وذكر القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني أن البحتري على ما بلغه أحرق خمسمائة ديوان للشعراء في أيامه حسدًا لهم لئلا تشتهر أشعارهم، ولا تنشر في الناس محاسنهم وأخبارهم؛ فمن أين لهؤلاء المتعصبين للمتنبي أنه سبق جماعتَهم في مضماره، ولم يقتبس من بعضها محاسن أشعاره؟ وهل للذين يتدينون بنصرته بصائرُ بحسن المأخذ، ولطف المتناول، وجودة السرقة، ووجوه النقل، وإخفاء طرق السلب، وتغميض مواضع القلب، وتغيير الصيغة والترتيب، وإبدال البعيد بالقريب، وإتعاب الخاطر في التثقيف والتهذيب، حتى يدّعوا علم الغيب في تنزيهه عن السرقات التي لا تخفى صورتها على ناقد، وتبرئته من المعايب التي شهد عليه بها ألف شاهد؟ ولست - يعلم الله - أجحد فضل المتنبي، وجودةَ
شعره، وصفاءَ طبعه، وحلاوةَ كلامه، وعذوبة ألفاظه، ورشاقةَ نظمه، ولا أنكر اهتدائه لاستكمال شروط الأخذ إذا لحظ المعنى البديع لحظًا، واستيفائه حدود الحذق إذا سلخ المعنى فكساه من عنده لفظًا، ولا أشك في حسن معرفته بحفظ التقسيم الذي يعلق بالقلب موقعه، وإيراد التجنيس الذي يملك النفس مسمعه، ولحاقه في إحكام الصنعة ببعض من سبقه، وغوصه على ما يَستصفى ماءَه ورونقه، وسلامة كثير من أشعاره من الخطل والزلَل والدّخلَ، والنظام الفاحش الفاسد،
1 / 23
والكلام الجامد البارد، والزحاف القبيح المستشنع، واللحن الظاهر المستبشع، وأشهد أنه عن درجه أمثاله غيرُ نازل ولا واقع، وأعرف أنه مليح الشعر غيرَ مدافَع، غير أني مع هذه الأوصاف الجميلة لا أبرِّئه من نهب وسرقة، ولا أرى أن أجعله وأبا تمام الذي كان ربَّ المعاني ومسلم بن الوليد وأشباههما في طبقة، ولا ألحقه في عذوبة الألفاظ وسهولتها، ورشاقة المعرض، ومجانبة التصنع والتكلف بالبحتري، ولا أقيسه في امتداد النفس وعلم اللغة، والاقتدار على ضروب الكلام، وتصوّر المعاني العجيبة، والتشبيهات الغريبة والحكم البارعة، والآداب الواسعة بابن الرومي، ولا أتهالك في مدحه تهالك من يتعصّب له تقليدًا، ويغلو فلا يجعل بينه وبين هؤلاء الفضلاء أمدًا بعيدًا، ولا أطعن أيضًا في دينه ونسبه، ولا أذمه لاعتقاده ومذهبه، وكيف يسوغ لي أن أثلِبَه إلحاده، أو أعيبه لسقوط آبائه وأجداده، وأنا أتحقق أن أكثر من يُستشهد بأشعارهم المشركون والكفار والمنافقون والفجار، ومنهم اللُّكْن والفصحاء والهجناء والصُّرَحاء.
والأدب يجعل الوضيع في نسبه رفيعًا، كما أن الجهل يُصَيّر الرفيع في منصبه وضيعًا، والمتنبي كان يفتخر بأدبه لا بِنَسبه، ويعتَدّ بفضله لا بأهله، ويتطاول على أهل زمانه بفصاحة لسانه، وبِضرابه وطِعانه، لا بتوحيده وإيمانه، ولولا أنه كان يجحد فضائل من تقدَّمه من الشعراء، وينكر حتى أسماءهم في محافل الرؤساء،
ويزعم أنه لا يعرف الطائيين وهو على ديوانيهما يُغير، ولم يسمع بابن الرومي وهو من بعض أشعاره يمير، ويسبّهم ونظرائهم إذا قيل في أشعارهم إبداع، ويعيبهم مني ما أنشد لهم مصراع لكان الناس يغضُون عن معايبه، ويُغطَون على مساويه ومثالبه، ويَعدونه كسائر الشعراء الذين لا ينبش عظامهم إنسان، ولا يجرى بذمّهم وذامهم لسان.
ولقد حدّثني من أثق به أنه لما قتل المتنبي في طريق الأهواز وجُد في خرج كان
1 / 24
معه ديوانا الطائيين بخطه، وعلى حواشي الأوراق علامة على كل بيت أخذ معناه وسلخه، فهل يجمل به أن ينكر أسماء الشعراء وكُناهم، ويجحد فضل أولاهم وأخراهم.
وأنا بمشيئة الله تعالى وإذنه أورد ما عندي من أبيات أخذ ألفاظها ومعانيها، وأدّعى الإعجاز لنفسه فيها؛ لتشهد بلؤم طبعه في إنكاره فضيلة السابقين، وتَسِمَه فيما نهبه من أشعارهم بِسِمَة السارقين، ومن عند الله المعونة.
الجزء الأول
أَول الكتاب
أنشدنا ثقة من أهل الأدب بحلب لعبد السلام بن زُعبان الحمصي الملقب بديك الجنّ من قصيدة له أولها:
طَلَل تَوَهَّمَه فصاح مُسَلّما ... أضَنىً به أم ضَنّ أن يتكلما
دِعصٌ يُقل قضيبَ بان فوقه ... شمسُ النهار تُقِلّ ليلًا مظلما
قال المتنبي في قصيدة أولها:
كُفىّ أراني ويك لومك ألْوما ... هَمٌّ أقام على فؤاد أنْجَما
1 / 25
غُصْن على نَقَوَىْ فلاة نابتٌ ... شمس النهار تُقِلّ ليلًا مظلما
مثل هذا البيت تسميه أصحابُه التوارد، ويسميه خصمُهم النسخَ والتعمدّ، وأنا أعرف أنه تعب في نظم هذا البيت فله فضيلة التعب.
قال ابن الرومي في قصيدة أولها:
أرضى بصورته وضنّ فأغضبا ... فغدا المحبُّ منعَّما ومعذّبا
أغناه حسنُ الجيد عن لُبس الحُلَي ... وكفاه طِيبُ الخلق أن يتطيبا
قال المتنبي في أرجوزة يمدح بها أبا عليّ الأوارجي أولها:
ومنزل ليس لنا بمنزل
يصف فيها الظبي:
أغناه حسنُ الجيد عن لُبس الحُلِي ... وعادة العرى عن التفضل
قال العلوي الكوفي المعروف بالحِمّانى في أول قصيدة له يصف بريّةً أولها:
أعاده من عقابيل الصبا عيد ... وعاد للّوم فيه اليوم تفنيد
تيهاء لا يتخطاها الدليل بها ... إلا وناظره بالنجم معقود
قال المتنبي:
عقدت بالنجم طرفي في مفاوزه ... وحُرَّ وجهي بحرّ الشمس إذ أفلا
1 / 26
وقال دعبل في هذا المعنى، وأبلغ وأوجز وزاد على من تقدم:
ودويّة أنضيت فيها مطيتي ... وجيفًا وطرفي بالسماء موكل
وفي هذه القصيدة يقول دعبل:
سمعت به للجنّ في كل ساعة ... عزيفًا كأن القلب منه مُخبَّل
قال المتنبي:
لو كنتَ حشوَ قميصي نُمرِقها ... سمعت للجن في حافاتها زَجلا
وهذا مأخوذ من قول الأعشى في قصيدته:
ودّع هريرة إن الركب مرتحل
يقول:
وَبَلْدَة مثل ظهر الترس موحشة ... للجنّ بالليل في حافاتها زجل
لكثير عزة:
رمتني بسهم ريشه الهُدبُ لم يُصب ... ظواهر جلدي وهو للقلب صادع
1 / 27
أبو الشيص يقول:
يُصْمين أفئدة الرجال بأسهم ... قد راشَهُنّ الكُحل والتهذيب
قال المتنبي:
راميات بأسهم ريشها الهد ... بُ تشقّ القلوب قبل الجلود
قال ابن الرومي:
إذا تمشّى يكاد يُقعده ... رِدفٌ كمثل الكثيب رَجراجُ
قال المتنبي:
بانوا بخرعوبة لها كفلٌ ... يكاد عند القيام يقعدها
لبعض العرب ذكره ابن قتيبة في كتاب عيون الأخبار:
لي همة فوق السما ... كِ وباب رزقي الدهرَ مُغلق
هل ينفع الحرصُ الكثي ... يرُ لصاحب الرزق المُضَيَّق
1 / 28
إن امرأ أمِن الزما ... ن لمستغرّ العقل أحمق
قال المتنبي:
فالموت آتٍ والنفوس نفائسٌ ... والمستغر بما لديه الأحمق
ابن الرومي:
شكوى لو أنّىَ أشكوها إلى جبل ... أصمّ ممتنع الأركان لانفلقا
قال المتنبي:
ولو حُمّلتْ صُمُّ الجبال الذي بنا ... غداة افترقنا أوشكت تتصدّع
لم يقصر المتنبي؛ أبدل الانفلاق بالتصدّع.
أبو تمام من قصيدة أولها:
أما إنه لولا الخليط المودَّع ... وربعٌ عفا منه مصيفٌ ومربع
له منظر في العين أبيضُ ناصعٌ ... ولكنه في القلب أسود أسفع
العطويّ في معناه:
أبعدك الله من بياض ... بيّضت من عينيَ السوادا
المتنبي:
أبعد بعدت بياضًا لا بياض له ... لأنت أسود في عيني من الظلم
وقوله (أسود) في النحو ركيك، لم يسمع إلا في أبيات شواذَّ نوادر.
1 / 29
نصر الخبزأرزي:
وأسقمني حتى كأني جفونُه ... وأثقلني حتى كأني رَوَادفه
محمد بن أبي زُرعة الدمشقي، كان في أيام ديك الجن له من قصيدة:
أسقمني طرفة وحمَّلَني ... من الهوى ثِقلَ ما تحوى مآزره
للمئزر في هذا البيت حلاوة وطلاوة وطراوة.
ابن الرومي من قصيدة:
فكأن ليلَتَنا عليه لطُولها ... ثبتت تمخض عن صباح الموقف
لغيره:
يا ليل هل لك من صباحْ ... أم هل لنجمك من براحْ
محمد بن هاشم، وهو المكَنَّى بأبي نبقة الشاري:
سَهِرت لَيْلِى فنوم العين متبول ... كأن لَيْلِى بيوم الحشر موصول
لغيره:
ألا يا ليل هل لك من براحِ ... كأنك قد خُلِقت بلا صباح
قال المتنبي:
من بعد ما كان ليلى لا صباح له ... كأن أولَ يوم الحشر آخرُه
وأعاد المتنبي فقال:
لُيَيْلتنا المنوطة بالتناد
1 / 30
ديك الجن:
تغدو إلى سيد يُحصَى الحصى عددًا ... في الخافقين ولا تحصى فواضله
محمد بن حازم الباهلي أبو جعفر:
يُحصى الحصى ويُعد الرمل أصغره ... ولا تُعد ولا تحصى معاليه
قال المتنبي:
حُلوٍ خلائقه شوسٍ حقائقه ... تحصى الحصى قبل أن تحصى مآثره
العلوي الحِماني من أبيات له:
والسيف إن قسته يومًا بنا شَبَهًا ... في الروع لم تدر عزمًا أيّنا السيف
ربيع بن ثابت الرقى:
لست أدري أعزمةُ الدهر أمضى ... في الأعادي أم كيدهُ أم حسامهُ
محمد بن مهدي العكبري أبو جعفر:
تشابه الأمر لا ندري أعزمته ... سيفٌ أم السيف يوم الروع عزمته
قال المتنبي:
همام إذا ما فارَقَ السيفُ غمده ... وعايَنْتَه لم تَدْرِ أيهما النصل
البحتري:
1 / 31
وملأت أحشاء العدو بلابلا ... فأرتدّ يحسد فيك من لم يحسد
العبرتاي:
قمّع أحشاء حاسديه ولم ... يتب غليل الحَشا من الحسد
قال المتنبي:
قطعتهم حسدًا أراهم ما بهم ... فتقطعوا حسدًا لمن لا يحسد
أبو هفّان:
تعجبت دُرُّ من شيبي فقلت لها ... لا تعجبي فطلوع البدر في السدَف
وزادها عجبًا أن رحت في سَمَل ... وما درتُ درُّ أن الدُّرَّ في الصدف
الخبزأرزي:
حصلت منكم على ما ليس يقنعني ... وكيف يُقنع سوءُ الكيل والحشف
وليس سكناي نقصانًا لمنزلتي ... فيكم كما الدرّ لا يزرى به الصدف
قال المتنبي:
لو كان سُكْنَايَ فِيكَ منقصة ... لم يَكُنِ الدرّ ساكنَ الصَّدَف
أبو بكر النحوي المعروف ببرمة:
وبيض تسافر ما إن تقي ... م لا في الرقاب ولا في القُرُب
بطئ رضاهن لكنها ... غداةَ اللقاءِ سراعُ الغضب
1 / 32
ابن الرومي:
ما ضمّ سيفًا له غمد ولا برحت ... ضريبتاه من الأعناق والجَزَر
قال المتنبي:
وبيضٍ مسافرة مَا يُقمْ ... نَ لا في الرِّقاب ولا في الغمود
لقد تصبب عرقًا، وتقلب أرقًا، حتى أستنبط هذا المعنى البديع.
قال البحتري:
جَلّ عن مَذْهَب المديح فقد كا ... د يكونُ المديحُ فيه هجاَء
الخبزأرزي:
أنا في بحر جَدْواه ... غريقٌ بين أمواج
ومن قِلة ما أثنى ... عليه صرت كالهاجي
قال المتنبي:
وعُظم قدرك في الآفاق أوهمني ... أني بقلة ما أثنيتُ أهجوكا
ابن الرومي:
أقسمت بالله ما استيقظتم لخنًا ... ولا وُجدتم عن العليا بنوّام
بشار بن برد:
وسهرتمُ في المكرمات وَكَسْبِها ... سهرًا بغير هَوىً وغيرِ سَقام
قال المتنبي:
كثيرُ سهادِ العين من غير علّة ... يؤرّقه فيما يشرّفه الذِّكر
ابن الرومي:
وقد سَارَ شعري الأرضَ شرقًا ومغربًا ... وغَنَّى به الحَضْر المقيمون والسَّفْر
1 / 33
قال المتنبي:
همُ الناس إلا أنهم من مكارم ... يُغَنّى بهم حَضْر ويحدو بهم سَفْر
أبو حوية السكسكسي:
وينظر في العواقب غيرَ غِرّ ... بعلم غدٍ وأحداثٍ الزمان
ابن قتيبة أنشد لبعض العرب أبياتًا منها:
بصير بأعقاب الأمور برأيه ... كأن له في اليوم عينًا على غد
قال المتنبي:
ماضي الجَنَان يُرِيه الحزمُ قبلَ غدٍ ... بقلبه ما ترى عيناه بعد غد
وله أيضًا:
ترى عينه في يومه ما يرى غدا
المتبول الجزري:
يجود مَالًا على العافي سحابُهم ... وتُمطِرُ الدّمَ أسيافٌ لهم قُضُب
محمود بن الحسين الورّاق الكوفي أبو الحسن النخاس:
إذا أروت الأرضَ أسيافُهم ... من الدم خِلتَ سحابًا همع
ابن الرومي:
سماءٌ أظلت كل شيء وأعملت ... سحائبَ شتى صوبُها المالُ والدمُ
قال المتنبي:
قوم إذا أمطرت موتًا سيوفُهم ... حسبتها سحبًا جادت على بَلَد
ابن الرومي من قصيدة أولها:
1 / 34
الحب ريحان الفؤاد وراحه
يغدو فتكثرُ باللحاظ جِرَاحُنا ... في وجنتيه وفي القلوب جراحهُ
قال المتنبي:
ما باله لاحظته فتضرّجت ... وجناته وفؤاديَ المجروح
ابن الرومي:
طوفانُ نوحٍ دون هذا الندى ... فأبقَ بقاَء المصطفى نوحِ
وله أيضًا:
يجود حتى يقول المادحون له ... قد كاد أن يَخْلُف الطوفانَ طوفانُ
1 / 35
قال المتنبي:
وخشيت منك على البلاد وأهلِها ... ما كان أنذرَ قومَ نوح نوحُ
أبو القوافي الأسدي:
ردّت صنائعهُ عليه حياتَه ... فكأنه من نشرها منشورُ
مؤنس بن عمران البصري:
طوته المنايا والثناء كفيلُه ... بردّ حياة ليس يُخْلقها الدهر
قال المتنبي:
كفل الثناء له بردّ حياته ... لما انطوى فكأنه منشور
بشار بن برد:
وإذا أقلّ لي البخيل عَذَرْته ... إن القليل من البخيل كثير
ولآخر:
قليل منك يكفيني ولكن ... قليلك لا يقال له قليل
قال المتنبي:
وقنعت باللقيا وأولِ نظرة ... إن القليل من الحبيب كثير
ابن الرومي:
وأعوامٌ كأن العام يوم ... وأيامٌ كأن اليوم عام
أبو تمام من قصيدة أولها:
دِمَنٌ ألَمَّ بها فقال سلامُ
أعْوامُ وصلٍ كاد يُنْسى طولَها ... ذكرُ النَّوى فكأنها أيام
1 / 36
ثم انبرت أيام هجر أعقبت ... نجوى أسىً فكأنها أعوام
ثم انقضت تلك السنون وأهلها ... فكأنها وكأنهم أحلام
قال المتنبي:
إن أيامَنا دهورٌ إذا غب ... تَ وساعاتنا القصار شهور
ومشرع هذا المعنى كثير الورّاد.
قال أبو تمام:
فما تترك الأيام من أنت آخذ ... وما تأخذ الأيام من أنت تارك
المعوّج الرقي:
ما يُفسدُ الدهرُ شيئًا أنت تُصْلحه ... وليس يصلح شيئًا أنت تفسده
قال المتنبي:
وما تفتق الأيام ما أنت راتق ... ولا ترتق الأيام ما أنت فاتق
أبو البيد البصري من قصيدة أولها:
أضاء لنا الأفق المظلمُ ... بِيُمْنك وأفتُتِح المبهَمُ
مكارم تملأ سَمْعَ الأصمّ ... عجبًا فينكرها الأبكم
1 / 37
عمرو بن عروة بن العبد الكلبي:
أوضَحْتَ من طرق الآداب ما اشْتَكَلت ... دهرًا وأظْهرتَ إغرابًا وإبداعا
حتى فتحت بإعجاز خُصصتَ به ... للعمى والصم أبصارًا وأسماعا
قال المتنبي:
أنا الذي نظر إلى الأعمى إلى أدبي ... وأسمعَتْ كلماتي من به صم
وبين أبيات الكلبي وبين هذا بون بعبد في النقد.
أبو العتاهية من قصيدة فيها:
هوّن عليك خطوبَ الدهر أجمعَها ... فالدهر في حالتيه السم والعسل
قد كنتُ صنتُ دموعي قبل فرقته ... فاليوم كل مصون فيه مبتذل
ولآخر:
كل مَصُون فيك مبذول ... وكل قلب فيك مشغول
وكل ذي رأي وذي فطنة ... بسيف ألحاظك مقتول
معوّج الرقي:
هان من بعد بعدك الدّمعُ والصَّبْ ... رُ وكانا أعَزّ خَلْق مصون
قال المتنبي:
قد كنت أشفق من دمعي على بصري ... واليوم كل عزيز بعدكم هانا
1 / 38