الإبانة في اللغة
سلمة بن مسلم العوتبي الصحاري
. . . . . . فإنها سماع بينهم واتباع لهم، وأخذٌ عنهم. . . . . . عليها.
وقد ألّفْتُ هذا الكتاب في أصول اللغة و. . . . .، وذكرت أحرفًا من دخيل غيرها فيها، وفسرت شيئًا من الكلام الجاري على ألسنتهم، لا يعرف معناه، ولا يقف على فحواه، دون الغريب. . . . . . الذي لا يتكلمه إلا متفيهق، ولا يتكلفه إلا متعمق، ولا يحسن أن يؤتى به إلا في الشِّعْر والخُطَب. ورتبته على حروف المعجم؛ ليكون أسهل معرفة، وأقل كلامًا. وسميته بكتاب "الإبانة".
ومعنى الإبانة في اللغة: الظهور والوضوح، من قولهم: بان الصُّبْحُ، إذا ظهر ضياؤه. ويقال: بانَ الشيء يَبِينُ إِبانَة، فهو مُبِين. وتَبَيَّنَ يتبيّن تَبَيُّنًا فهو مُتَبَيِّن. واستبان يَسْتَبينُ استبانَةً، فهو مستبين، بمعنى واحد. والاسم: البَيانُ والتِّبيان.
وقال:
ففي هذا بيان إن عقلتُم ... وقد يُنجي من الجهلِ البَيانُ
ويقال أيضًا: بان الشَّيْءُ من الشَّيْء، إذا انفصل، يَبين بينًا وبيْنُونَةً.
والإعراب في اللغة يسمى إبانة، يقال: قد أعرب فلان عن كذا، إذا أبان. والعرب تقول للبهمى: العِرْب واحدته عِرْبة. وإنما قيل له العِرب؛ لأن الشوك إنما يظهر فينماز الورق، [أي]، إنه قد بانَ من العِرْب.
وإلى الله تعالى الرغبة في إفهامِيَهْ، وإقداري على إتمامِيَهْ، إنه ولي ذلك، والقادر عليه.
1 / 5
باب في اللسان والفصاحة والبيان
قال الله، ﷿: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾.
واللسان: الذي يُنطق به، قد يُذَكَّر ويُؤَنّثُ. والألسن بيان التأنيث في عدده. والألسنة للمذكر.
وأصل اللسان يقال له: الجَذْرُ. وهو أيضًا أصل الكلام، وأصل كل شيء، وأصل [الذَّكَرِ، وأصل الحساب الذي يقال: عَشَرَة في عَشَرَة، أو كذا في كذا. نقول: ما جَذْرُه؟ أي ما مبلغ تمامه؟ فتقول]: عَشَرَة في عَشَرَة: مئة، ومئة في مئة: عَشَرَةُ آلاف.
[ويقال لِسِقِي الماء]، إذا سقيت الدَّبَرة من الأرض: قد بلغ جَذْرَه. وقال يصف قرن بقَرَة:
1 / 6
وسامعتين تعرف العِتق فيهما ... إلى جَذْر مدلوك الكعوب محدد
ويقال للرجل الغليظ القصير: إنه لمُجَذَّر.
ويقال لأصل اللسان أيضًا: العكدة، ويقال لطرفه ومستدقه: أسلة. ويقال: لسن فلان فلانًا، معناه: تكلم فيه وهو يلسنه، قال طَرَفة:
وإذا تلسُنُني ألسُنُها ... إنني لست بموهون فقر
يقول: إذا كلمتني كلمتُها. والموهون: الضعيف. والفقر: البادي العورة الممكنها، تقول: قد أفقرك الصيد فارمه، أي أمكنك من نفسه.
ورجل لسن: بين اللسن. وقوم لسن: ذوو لسان. واللسن المصدر. واللسَن، بتحريك السين؛ طول اللِّسان. واللِّسْنُ، بكسر اللام: اللغة. يقال: لكل قوم لِسْن، أي لغة.
ويقال للرجل المنبسط اللسان: بسيط، والمرأة بسيطة، والفعل: بَسُطَ بساطةٌ.
واللسان: الرسالة.
وقال الفراء: اللسان بعينه مُذَكّر، فإذا أنث فإنما يراد به الرسالة، قال أعشى باهلة:
إني أتتني لسان لا أسر بها ... من علو لا عجب فيها ولا سخر
وقال آخر:
ندمت على لسان فات مني ... فليت بأنه في جوف عِكْمِ
1 / 7
فإذا أريد بذلك الرسالة أو القصيدة من الشعر أُنِّث. وأما اللسان بعينه فلم أسمعه من العرب إلا مُذَكّرًا.
قال أمية:
فاسمع لسان الله كيف شكولُه ... تُعجب ويلسُنك الذي يستشهد
لسان [الله]: كلام الله. شُكوله: ضروبه. ويلسنك: يكلمك، ويستشهد بهذا.
واللسان أيضًا: الثناء الحسن. قال الله ﷿: ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ﴾، قيل: ثناء حسنًا فيما بعدي.
وأصاة اللسان: [رزانته، كالحصاة. وقالوا: ما له حصاة ولا أصاة، أي: رأي يُرجع إليه. ويقال: إنه لذو حصاة وأصاة، أي ذو عقل ورأي]. ويروى هذا البيت:
وإن لسن المرء ما لم تكن له ... أصاة، على عوراته، لدليل
ما الإنسان بإنسان لولا اللسان. وقال بعض الحكماء: اللسان وزن الإنسان.
وقال خالد بن صفوان: ما الإنسان لولا اللسان إلا صورة ممثلة أو بهيمة
1 / 8
مرسلة، ثم أنشأ يقول:
وما المرء إلا الأصغران: لسانه ... ومعقوله، والجسم خلق مصور
فإن صورة راقتك فاخبر، فربما ... أمر مذاق العودِ والعودُ أخضر
وقال المعيدي: المرء بأصغريه: لسانه وجنانِه؛ إن نطق نَطَق ببيان، وإن قاتلَ قاتلَ بِجَنان. والجَنَان: القلب.
وقال سهل بن هارون: العقل رائد الروح، والعلم رائد العقل، واللسان ترجمان العلم. وقال بعض الأدباء: كلام المرء وافد أدبه.
وقال زهير:
وكائن ترى من صامت لك معجب ... زيادته أو نقصه في التكلم
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... ولم يبق إلا صورة اللحمِ والدم
وقال أعرابي: عن الله تعالى رفع درجة اللسان على غيره من جوارح الإنسان، فأنطقه بتوحيده؛ فليس في الأعضاء شيء ينطق بذكر الله سواه.
وفي اللسان عشر خصال: أداة تُظهر البيان، وشاهد يخبر عن الضمير، وحاكم يفصل بين الخِطاب، وناطق يرد به الجواب، وشافع يدرك به الحاجة، وواصف تعرف به الأشياء، وواعظ ينهى عن القبيح، ومعز تُسكن به الأحزان، وحاصد يذهب الضغينة، ومونِق يلهي الأسماع.
1 / 9
وقال جرير:
لساني وسيفي صارمان كلاهما ... وللسيف أشوى وقعة من لسانيا
ومعنى أشوى، أي أبقى، والإشواء: الإبقاء.
وقال بعض الهذليين:
[فإن من القول التي لا شوى لها ... إذا زل] عن ظهر اللسان انفلاتها
وقال آخر:
........ لي قناعتي ... وكنزي آدابي، وسيفي لسانيا
وقال الحجاج بن يوسف: المرء مخبو تحت لسانه.
وقال الشافعي:
والمرء كالمخبو تحت لسانه ... ولسانه مفتاح باب مغلق
وقال آخر: عقل الرجل مدور تحت لسانه.
وقيل: جمال المرأة في وجهها، وجمال الرجل في لسانه.
وعن العباس بن عبد المطلب أنه قال للنبي، ﷺ: "فيم الجمال يا رسول الله؟ قال: في اللسان". وروي عنه صلى الله عليه، أنه قال لعمه العباس: "يعبجني جمالك. قال: وما جمال الرجل؟ قال: لسانه".
قال الشاعر:
1 / 10
وما حُسن الرجال لهم بزين ... إذا ما أخطأ الحسن البيان
كفى بالمرء عيبًا أن تراه ... له وجه وليس له لسان
واللسان يسمى فصلًا، قال الشاعر:
وعانية كالمسك، طاب نسيمها ... تلجلج منها، حين يشربها، الفصل
كأن الفتى يومًا، وقد ذهبت به ... مذاهبه، لقاء، وليس له أصل
عانية: الخمرة، منسوبة إلى قرية يقال لها عانة، ويقال: قرية بالجزيرة. قال امرؤ القيس:
أنُف كلون دم الغزال معتق ... من خمر عانة أو كروم شَبام
وشِبام: قرية أيضًا، وشِبام: جبل، قال الأعشى:
قد نال رب شِبام فضل سؤدده ... إلى المدائن خاض الموت وادرعا
وشِبام: حي من اليمن أيضًا.
فالفصل في البيت الأول: اللسان، والأصل في الثاني: العقل.
فصل
روي عن النبي، صلى الله عليه، أنه قال: "تعلموا العربية فإنها اللسان الذي يكلم الله بها عباده يوم القيامة". وعنه، صلى الله عليه، أنه قال: "أعربوا القرآن فإنه عربي".
1 / 11
والإعراب هو البيان، يقال: أعرب الرجل يُعرب إعرابًا، فهو مُعْرِب، إذا بيَّن وأوضح. وقيل: نزل القرآن بلغة أهل الحجاز. وعن النبي صلى الله عليه، من طريق ابن مسعود أنه قال: لسان صدق " [أحِبوا العرب] لثلاث: لأني عربي، ولسان الله عربي، وكلام أهل الجنة عربي، ومن أبغضهم فليبغضني".
وقال مقاتل بن حيان: "كلام أهل السماء العربية" [ثم] تلا: ﴿حم، وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾.
قال جعفر بن محمد: أول من تكلم بالعربية المبينة، التي نزل بها القرآن، إسماعيل، وهو ابن خمس عشرة، وأنشأه الله على لسان أبيه إبراهيم، ﵇. وكان النبي صلى الله عليه، أفصح ........
أتسمعني ألحن على المنبر؟ قال يحيى: الأمير أفصح الناس. قال يونس: وصدق، كان أفصح الناس، إلا أنه لم يكن يروي الشعر. قال: أتسمعني ألحن؟ قال: حرفًا، قال في أي؟ قال: في القرآن. قال: فذلك اشنع له. قال: ما هو؟ قال: يقول: ﴿إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ﴾ الآية، ﴿أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ بالرفع. قال: فبعث به إلى خراسان، وبها يزيد بن المهلب. قال: فكتب يزيد بن المهلب إلى الحجاج: "إنا لقينا العدو وفعلنا وفعَلنا واضطررناهم إلى عُرعُرة الجبل، ونزلنا بالحضيض". فقال الحجاج: ما لابن المهلب وهذا الكلام. قيل له: إن ابن يعمُر عبد
1 / 12
مَولى. فقال: إذن.
عُرعُرة الجبل: رأسه، وعُرعُرة كل شيء: رأسه. والعرعرة: رأس السنام. والحضيض: القرار. ويقال: تجبَّلنا وأقاموا بالحضيض، وهو قرار الأرض عند سفح جبل. قال الحطيئة:
زلت به إلى الحضيض قدمه
فصل
قال الله، ﷿: ﴿الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الإِنسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾، فسمَّى كتابه بيانًا. وقال تعالى: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ﴾.
وعن النبي، صلى الله عليه: "إن من الكلام لحكمة، وإن من البيان لسحرًا". وتكلم رجل بحضرة ابن عباس بفصاحة، فقال: هذا السحر الحلال. وقال الحسن: الفصاحة والطيب لا يوجدان إلا في الشريف. وسمع الحسن مناظرة قوم في النحو فقال: أحسنو، يتعلمون لغة نبيهم، صلى الله عليه.
وقال الخليل بن أحمد:
أ [خذ] النبي، عليه رحمة ربه ... من كل مالغة أصح وأعرب
وقد حث، ﷺ، وذوو العلم من بعده على إصلاح الألسنة وتعلم اللغة وحسن العبارة؛ فروي عنه، ﵇، أنه [قال]: "رحم [الله]
1 / 13
امرأ أصلح من لسانه".
وعن عمر قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه، يقول: "رحم الله امرأ أصلح من لسانه". وعن ابن عمر أنه كان يضرب ولده على اللحن.
وعن الخليل قال: سمعت أيوب السختياني لحن فقال: أستغفر الله. وقال يونس بن حبيب: ليس للاحن مروءة، ولا لتارك الإعراب بهاء، ولو حلَّ بيأفوخة أعنان السماء.
اليأفوخ من الجمجمة، وهو من القبيلة: المقدمة والمؤخرة. وجماع اليأفوخ: اليآفيخ، قال العجاج:
أو كان ضربًا في يأفيخ البُهَم ... عنك حتى ما جزعنا من ألم
والذي [يكون] من الصبي قبل أن يتلاقى العظمان من اليأفوخ يقال لها: الرماعة واللماعة والنمغة. وأعنان السماء: نواحيها.
وقال أبو عكرمة: كان عمر إذا سمع رجلًا يخطئ قبَّح عليه، وإذا أصابه يلحن ضربه بالدرة. ويروى أن كاتبًا لأبي موسى الأشعري كتب إلى عمر كتابًا فلحن فيه. فكتب عمر إلى أبي موسى: أن اضرب الكاتب سوطًا واعزله عن عملك.
1 / 14
يروى عن النبي، صلى الله عليه، أنه لحن عنده رجل فقال: "أرشدوا أخاكم". وقيل إن رجلًا قصد أبا بكر، ﵁، في حاجة، فكثر لحنه ... إبداده. فقال له: استر عورتك وسل حاجتك. فبادر الرجل ثوبه. فقال له عمر، ﵁، وكان حاضرًا: لم يردك خليفة رسول الله، [صلى] الله عليه، بهذا، إنما أمرك بإصلاح لسانك.
وعن عمر، ﵀، أنه قال: "أحبكم إلينا أحسنكم وجهًا حتى نستنطقكم، فإذا استنطقناكم كان أحبكم إلينا أحسنكم منطقًا حتى نختبركم، فإذا اختبرناكم كان أحبكم إلينا أحسنكم مَخْبَرًا".
وقال عبد الملك بن مروان: "اللحن هجنة الشريف، والعجب آفة العقل، والكذب فساد كل شيء". وعن الشعبي أو غيره أنه قال: اللحن في الشريف كالجُدري في الوجه الحسن.
قال الخليل بن أحمد: دخلت على سليمان بن علي فرأيته يلحن اللحنة بعد اللحنة فقلت: أيها السيد، أبوك علي السَّجاد، وعمك عبد الله الحَبْر، والعباس بن عبد المطلب جدك، وما ولدك إلا خطيب أو فصيح، وأرى في كلامك سقطًا. قال: أقليلًا أم كثيرًا؟ فقلت: بك بقل. قال: إنك لا تسمعه مني أبدًا بعدها. قال فما أذن لأحد سَنَة. ثم دخلت عليه، فرأيته أفصح الأولين والآخرين. ثم غبرْتُ عنه يومين أو ثلاثة، فأتيته بأبيات عملتها فأنشدته:
1 / 15
لا يكون السَّري مثل الدَّنـ ... ي لا ولا ذو الذكاء مثل الغبي
لا يكون الألد ذو المقول المُرْ ... هف عند الحجاج مثل العيسي
قيمة المرء كل ما يحسن المر ... ء قضاء من الإمام علي
أي شيء من اللباس على ذي السـ ... رو أبهى من اللسان البهي
ينظم الحجة السنية ي السر ... د من القول مثل عقد الهدي
وترى اللحن في الحسيب أخي الهيـ ... ـأة مثل الصَّد [ى] على المشرفي
فاطلب النحو [للحجاج]، وللشعـ ... ـر مقيمًا والمسند المروي
والخطاب البليغ عنـ[ـد جواب ا] لـ ... ـخصم يرمى به في النديِّ
فارفض القول من طغام [عنـ ... ـه] وعادوه بغضة للنبي
وعن عمر، ﵁، [أنه خرج على قوم] يرمون فعاب عليهم سوء رميهم. فقالوا: نحن قوم متعلمين. فقال عمر: للحنكم أشد علي من سوء رميكم، سمعت رسول الله، صلى الله عليه، يقول: "أصلح الله امرأ أصلح من لسانه". فقال بعضهم: يا أمير المؤمنين: أيضحى بالضبي؟ قال: وما عليك لو قلت ظبي؟ قال: إنها لغة. قال: رُفع العتاب، ولا يضحّى بشيء من الوحش.
وعن عمر بن عبد العزيز أنه خرج على قوم يرمون بالنشاب، فعاب عليهم رميهم،
1 / 16
فقالوا: نحن قوم متعلمين يا أمير المؤمنين. فقال سوء الكلام أسوأ من سوء الرماية، تعلموا الكلام ثم تعلموا الرماية.
وعن ابن عمر أن رجلًا أتاه فقال له: يا أبا عبد الرحمن، ما تقول في رجل مات وترك أبوه وأخوه؟ فقال ابن عمر: ويحك، أباه وأخاه. فقال الرجل: فما [لأ] باه وأخاه؟ قال ابن عمر: لأبيه وأخيه. قال الرجل: قد قلت فأبيت. قال ابن عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون، ما فاتك من أدبك أضر بك مما فاتك من ميراثك.
وقيل: دخل رجلان على سليمان بن عبد الملك فقال أحدهما: مات أبانا، ﵀، فوثب أخينا على ميراثنا من أبونا فرضينا بك لتنصفنا منه. فقال سليمان: لا حفظ الله أخاك ولا رحم [أباك] ولا رد مالك، اخرج عني، فوالله ما أدري أمن لحنك أعجب أم [من ....] له.
قال زهير لرجل: تعلم النحو، قال: وأي شيء أصنع بالنحو؟ [قال له: إن بني] إسرائيل كفرت في كلمة، أنزل الله تعالى في الإنجيل: ["أنا ولدت عيسى"، فقرؤوها مخففة "ولَدْتُ عيسى" فكفروا. وقال الله، ﷿، في الإنجيل لعيسى، ﵇: "أنت نبيي، وأنا وَلّدْتُك" مثقل، فحرفته النصارى وقرأوا: "أنت بُنَيّي وأنا وَلَدْتُك" مخفف.
قال ابن شبابة: حضرت جنازة بمصر، فجاءني بعض القِبط فقال لي: يا كهل، مَنِ المتوفّي؟ فقلت: الله. قال: فضربت حتى كدت أموت.
ودخل رجل من الأشراف على زياد بن أبيه فقال: إن أبينا هَلَك، وإن أخونا
1 / 17
غصبنا على ميراثنا من أبانا. فقال زياد: ما ضيعت من نفسك أكثر مما ضيعت من مالك.
قال الوليد لبعض بني عمه: من خَتنك؟ قال: عذرني غلام من الحي. فقال عمر ابن عبد العزيز: إن أمير المؤمنين يقول لك: من خَتَنُك؟ فاستحيا الوليد وأقام في منزله أربعين يومًا يصلح لسانه، ولا يخرج للناس.
وقال رجل للحسن: يابو سعيد، أين رُبيت؟ قال: بالأيْلة. قال: منها أتيت.
وروي أن رجلًا قال للأصمعي: يا أبو سعيد، فقال: يا لُكع، كسب الدوانيق شغلك أن تقول: يا أبا سعيد. وروي أن رجلًا قال له: يا أبي سعيد، فقال له: لا أدركتني بالفتحة، لقتلتني بالكسرة.
وجاء رجل إلى صديق له، فوقف ببابه، ونادى: يابو فلان، فلم يُجبه، فقال: يابي فلان. فقال له: قل الثالثة وادخل. يريد قل: يابا فلان.
ودخل رجل على عمر بن عبد العزيز، فتكلم وأكثر. فقال شرطي على رأسه: قد أوذيت الأمير. فقال عمر: أنت والله أشد أذى لي منه.
ولحن خالد بن صفوان عند عبد الملك بن مروان، فقال عبد الملك: اللحن في الكلام أقبح من العوار في الثوب النفيس.
وقال بعضهم: كان مؤدبو المدينةي ضربون على الخطأ واحدة وعلى اللحن ستًا. وكان ابن سيرين يسمع الحديث ملحونًا فيحدث به ملحونًا. فقال الأعمش: إن كان الذي حدث به ابن سيرين لحنًا، فإن رسول الله، صلى الله عليه، لم يلحن.
وقال أبو بكر: لأن أخطئ في القرآن أحب إليّ من أن ألحن فيه. قال الحسن: منْ لحن في القرآن فقد كذب على الله غير متعمد. قال خليد العصري: أتينا سلمان الفارسي ليقرئنا القرآن، فقال: إن القرآن عربي فاستقرئوا رجلًا عربيًا، فقرأنا على
1 / 18
زيد بن صوحان.
وعن ابن مسعود: أعربوا القرآن فإنه عربي. وقال مكحول: من قرأ القرآن بالعربية ضوعف أجره [مر] تين. وقيل للحسن: إن [إمامنا] يلحن، فقال: نحُّوه.
عن أبي موسى البصري قال: قال رجل للحسن: يا أبا سعيد، ما أراك تلحن. فقال: يا ابن أخي، إني سبقت اللحن.
عن ابن عون قال: كنت أشَبِّه لهجة الحسن بلهجة رؤبة بن العجاج. وهبُ بن جرير قال: قرأ أبي علي أبي عمرو بن العلاء، فقال له: لأنت أفصح من معد بن عدنان.
كان سابق الأعمى يقرأ: ﴿الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ﴾ بفتح الواو، وكان ابن جابان يقول له إذا لقيه: ما فعل الحرف الذي تكفر بالله فيه؟ وقرأ أيضًا: ﴿وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا﴾. وكان ابن جابان يقول: وإن [آمـ]ـنوا أيضًا لم ننكحهم.
وقرأ الحجاج: ﴿إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ﴾، نصب أن سهوًا، فلما تلقَّتها
1 / 19
لام خبير أسقطها، فكان تغيير القرآن أسهل خطأ وأيسر ذنبًا عليه من اللحن فيه.
روي أن علي بن حمزة الكسائي ويعقوب بن إبراهيم القاضي، اجتمعا عند الرشيد، وكان أبو يوسف يزري على علي النحو، فقال له الكسائي: ما يقول القاضي في رجلين اتُّهما بقتل عبد لرجل، فقدمهما إلى قاض، فادعى عليهما قَتْل عبده. فسأل القاضي أحدهما، فقال: أنا قاتل عَبْدِه، وسأل الآخر فقال: أنا قاتل عَبْدَه، أيهما القاتل؟ فقال: جميعًا. فقال الكسائي: بئس ما قلت، أنعِم النظر. فقال: الذي قال: أنا قاتل عبده. فقال: وهذا أيضًا خطأ. فقال الرشيد: أما علمت أن الذي قال: أنا قاتل عبده، قد وعد بقتله ولم يقتله، وأن من قال: أنا قاتل عبده قد أقر بالقتل؟ فانتبه أبو يوسف، فقال: قليل من العلم كثير، وأعمل نفسه حتى علم من النحو ما كان يتحذر به من اللحن.
وقيل: إن سائلًا سأل أبا يوسف عن رجل حلف أن امرأته طالق أن دخلت الدار، وآخر حلف أن امرأته طالق إن دخلت الدار. فقال: أيتها دخلت فقد حنث الحالف. قال: وكان الكسائي حاضرًا فقال: أوليس الخرس أحسن من هذا الجواب؟ وسمع أبو يوسف مقالته فشكاه إلى الرشيد فقال: صدق الكسائي، الخرس أحسن من اللحن. أما علمت أن من خفض قد خلف على شيء يكون في المستقبل؟ فمتى دخلت امرأته الدار حنث، والآخر إنما حلف يمينه بفعل ماض، فإن كانت امرأته دخلت الدار قبل حلفه عليها فقد طَلُقَت، وإن لم تكن دخلت لم تطلق. قال: وكانت هذه المسألة حدت أبا يوسف على أن طلب النحو وتعلمه.
فصل
[أول من عمل النحو]
وأول من عمل النحو أبو الأسود الدؤلي، ثم عرضه على علي بن أبي طالب،
1 / 20
فقال: ما أحسن هذا النحو الذي أخذت فيه، فسمي نحوًا بذلك.
ومعنى النحو: القصد نحو الشيء، نحوت نحو فلان: إذا قصدت قصده، وذلك نحو قولك: نحوت حضرتك، أي قصدت حضرتك.
والنحو: المثل، تقول: هذا نحو هذا، أي مثل هذا.
والنحوُ: القرب. والنّحو: الصدد. والنَّحْوُ: الكتب. والنحو: الصقب، يقال: الصقب والسَّقَبُ، بالصاد والسين، لغتان، عن الأصمعي. ومنه الحديث: "الحمار أحق بصقبه"، أي بقربه.
والنّحو: المصدر. والنّحوُ: الأمَم. والنّحْوُ: السَّطْرُ. والنحو: الناحية. والنّحو: الانحراف.
وقيل: إن أبا الأسود وضع وجوه العربية ثم قال للناس: انحوا نحو هذا، فسمي نحوًا. ويجمع النحو على الأنحاء.
وقال:
وللكلام وجوه في تصرفه ... النحو فيه لأهل الرأي أنحاء
وسمع أبو الأسود رجلًا يقرأ: ﴿أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ بخفض اللام، فقال: لا إخالني يسعني هذا، وألَّف شيئًا قليلًا، وأعمق الناس النظر بعد ذلك فيه، وأطالوا الأبواب.
وقال يونس بن حبيب: إنما أسّس النحو لأبي الأسود علي بن أبي طالب. وحدّث الهيثم بن عدي أن أبا الأسود أول باب ألفه من النحو باب التعجب؛ وذلك
1 / 21
أن بنتًا [له] تقوده [في] بيته، وقد كُفَّ بصره إذ ضربتها الرمضاء فأحرقتها فقالت: يا أبَهْ، ما أشد الحر، بكسر الراء، فظنَّ أنها تريد: أي الحر أشد. فقال: يا بُنَية، وغرةُ القيظ، ومعمعان الصيف. فلما تلفَّت إليها بكت وقالت: يا أبَهْ، ما أشد الحر، ففهم عنها وقال: يا بنية، قولي: ما أشد الحر، وعمل باب التعجب.
وقال ابن الأنباري: أول من وضع النحو أبو الأسود الدؤلي، ثم ميمون الأقرن، ثم عنبسة الفيل، ثم عبد الله بن أبي إسحق. قال: فوضع عيسى بن عمر في النحو كتابين، سمى أحدهما "الجامع" والآخر "المكمل"، فقال الخليل بن أحمد:
بطل النحو جميعًا كلُّه ... غير ما ألف عيسى بن عمر
ذاك إكمال وهذا جامع ... فهما للناس شمس وقمر
وأبو الأسود الدؤلي هو أول من وضع نقط المصاحف، ثم فتح باب الشكل الخليل بن أحمد، والخليل الذي استنبط من علم النحو ودقائقه ما لم يسبقه سابق، ولم يلحقه لاحق، ووضع علم العروض.
وعن أبي عثمان المازني قال: سمع أبو الأسود رجلًا يقرأ: ﴿أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولِهِ﴾ بكسر اللام، فقال: أو قد بلغ الناس إلى ما أرى؟ ابغوني كاتبًا ذهنًا. فجاؤوه برجل، فدفع إليه مصحفًا، ثم قال له: قلمك بيدك، واسمع كيف أقرأ، فإذا رأيتني قد ضممت فاي فألقِ قدّام الحرف نقطة، وإذا فتحت فاي
1 / 22
فألق على الحرف نقطة، وإذا [كسرت] فاي فألق تحت الحرف نقطة. فشكل المصحف كله على ذلك، وهي سنّة باقية. [ثم] وضع الخليل صور الشكل، فجعلها مفاتح مستغلق الكلام، ومترجم معاني متشابهة، وهي تسعة أوجه: ضم وفتح وتسكين وهمز وتشديد ونصب منون ورفع منون وجر منون. ثم صنع سيبويه الكلام على ثمانية مجار، ولقبها بثمانية ألقاب: رفع وضم، ونصب وفتح، وجر وكسر، وجزم ووقف.
وأخذ ذلك البصريون عن الخليل؛ فهو الإمام فيه، وله فضيلة السبق عليهم. وهذا إنما أحدثه المحدثون؛ فأما العرب العاربة فما كان بهم حاجة إلى معرفة نحو ولا عروض؛ إذ كان [لسانهم] فصيحًا، وكلامهم صحيحًا خلقة، طبعهم الله تعالى عليها، وفصاحة أبانهم الله بها، فكانوا بذلك أغنياء عن تعلم النحو، متكلمين بأصح كلام وأفصحه، وأوضح بيان وأملحه. وكانوا لصحة ذوقهم لزنة الشعر أغنياء عن تعلم العروض. وكانوا مصححين للكلام غير مصحفين، ومعربين غير لاحنين، لسانًا عربيًا، وبيانًا طبعيًا. وكان اللحن عندهم بمعنى الصواب، كما هو عند غيرهم بمعنى الخطأ. وقد أفردت له فصلًا يأتي بعد هذا إن شاء الله.
وقد قالت الشعراء في مدح النحو فأكثروا، وكل ذلك حضًا منهم على معرفة العربية، والنطق باللغة اليَعْرُبية؛ فمن ذلك قول بعضهم:
النحو يصلح من لسان الألكن ... والمرء تعظمه إذا لم يلحن
لحن الشريف يحطه عن قدره ... فتراه يسقط من لحاظ الأعين
1 / 23
وترى الشريف إذا تبين لحنُه ... أبصرت فيه هجانة .....
وترى الوضيع إذا تفوَّه لفظه ... يرنا إليه بأوجه وبأعين
ما ورث الآباء فيما ورثوا ... أبناءهم مثل العلوم فاتقن
فإذا طلبت من العلوم أجلَّها ... فأجلُّها عندي مقيم الألسن
ووزن الكلام وزينته النحو، وهجنته وشينه اللحن.
فصل
قال الله، ﷿، مخبرًا عن سليمان، ﵇: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ﴾، فجعل الله تعالى [ذلك] منطقًا، وخصَّ سليمان، ﵇، بأن فهمه معاني ذلك المنطق، وأقامه [فيه] مقام الكلام من الطائر. وكذلك لو قال: علمنا منطق البهائم والسباع لكان ذلك آية وعلامة. وقد علم الله تعالى إسماعيل منطق العرب بعد أن كان ابن أربع عشرة [سنة].
قال الخليل: وكلام كل شيء: منطقه. والفرق بين الإنسان والطير أن ذلك المعنى منها سمي منطقًا وكلامًا على التشبيه بالناس وعلى السبب [الذي] يجري. والناس ذلك لهم على كل حال.
وقالوا: الإنسان هو الحي الناطق، قال الله تعالى: ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾. وقال: منطق الطير على التشبيه
1 / 24