Huruf Latiniyya
الحروف اللاتينية لكتابة العربية
Géneros
ومن أبلغ ما رأيته انطباقا على آداب البحث والمناظرة قول الأستاذ العظيم في الصفحة الأخيرة من بيانه الراقي: «إن كان منا من يرى تاريخنا عارا، وماضينا سبة، ويرى الخير في أن نقطع كل ما يصلنا بهذا التاريخ، ونستعير تاريخا أو نعيش بغير تاريخ، فله أن يدعو إلى نبذ خطنا فيما ننبذ من تراث الأعصار والأجيال.» الله حي!! نحن في جامعة فؤاد، وفي كلية الآداب، وفي معهد اللغات الشرقية، وفي غرفة رئيس المعهد، وأمام كرسيه العالي المنيف. أعلينا قوائمه ليفيض علينا نورا للعقول وتهذيبا للأخلاق. فهل هذا كل ما أقدره الله عليه؟! لعلها فلتة بدرت، ولعله مراجع نفسه فمحاسبها على ما كان. أما أنا فلا أحاسبه؛ لأنها فلتة تجل في نظري عن كل حساب، فلأفرض أني لم أقرأها ولأغط وجهها الدميم بالزفت والقطران، ثم لأستغفر له الله.
ومن أطرف ما يكون أن حضرة الأستاذ المحاضر اختتم مقاله الطويل بعبارة ينقلها مذعورا عن أديب شرقي يصفه بأنه مغرم بحب مصر، هي: «إن مصر لو همت باتخاذ الحروف اللاتينية لقاطعناها.» بخ بخ!
يا سيدي المحاضر، إني لا زلت - ولن أزال - أراك رجل علم، ورجل العلم لا ينظر إلا إلى الحق في ذاته، ولا يعير التفاتا إلى الفلتات الحماسيات الإيهاميات الكاذبات. إن الدونكيشوتية معنى قائم في الوجود، وسيستمر له عباد يتراءون عاكفين على محرابه حتى تقوم الساعة، فخفض عليك ولا تنذعر، ومص ليمونة من البنزهير، أو حط في بطنك بطيخة صيفية، والبطيخ كثير الآن في الأسواق! وإذا هالك غلاء الأسعار فإني مستعد أن أقدم لك البنزهير والبطيخ، وأنا ومصر المستفيدان؛ لأنها رشوة أقدمها لك حتى لا تنشر من عالي كرسيك بين شبابنا المثقفين مثل ما فهت به من تلك العبارات التهريجيات النابيات المحزنات.
الثاني والعشرون:
لاحظ
ثقيلا، لتشعب مفرداتها وتعقد قواعد نحوها وصرفها، ولسوء رسم كتابتها، وأجمعوا - في مصر على الأقل - على ضرورة تسهيل تلك القواعد وتيسير ذلك الرسم المضلل. ومن أهم ما اشتغل به المجمع اللغوي في دورته التي انتهت في فبراير الماضي مسألة الرسم. والمطلوب فيها أن يكون كل حرف في الكلمة مؤديا بذاته صورته الصوتية أداء صادقا؛ أي يكون التلفظ به المدلول عليه بذات رسمه مبرزا في آن واحد لنغمته، من جهة، ولاتجاه حركته من ضم وفتح وكسر، أو لسكونه أو تشديده أو تنوينه، من جهة أخرى؛ وذلك لتوحيد كيفية القراءة ولعصمة ألسن القارئين كبارا وصغارا، متعلمين أو أنصاف متعلمين، عربا أو عجما، من اللحن والأغلاط.
وإذ كان كبار الاختصاصيين المشرفين على تعليم العربية بمدارس الحكومة المصرية قد نعوا مر النعي على طريقة «الشكل»، وأكدوا عدم فائدتها في هذا الغرض ؛ مستندين إلى مشاهداتهم واختباراتهم للطلبة بمراتب التعليم المختلفة، وإلى الواقع المحسوس الذي يدركه كل إنسان من كلفة هذا «الشكل» ومن سوء أثره، ومن إهماله فعلا في المخطوطات جميعا، وفي شتى المطبوعات - إلا ما ندر - إذ كان هذا فقد تشخص حرج الحال للعيان، وأصبح من الضروري للنطق باللغة على وجهها المقصود، أن ينظر في طريقة أخرى غير الشكل لتعيين حركات الحروف في الكلمات.
اقترح غيري ما اقترح، واقترحت أنا اتخاذ الحروف اللاتينية لرسم العربية. واعترض علي معترضون كثيرون، أهم ما في اعتراضاتهم أمران يستوقفان النظر حقيقة هما: الخصوصية الاختزالية في الرسم العربي العاري عن الشكل، وآفة القطع بين حديثنا والقديم في الرسم اللاتيني. وهما أمران أثرتهما - أو على التحقيق استثرتهما - في اقتراحي، وقلت فيهما ما قلت، صحيحا مقنعا كان قولي أو غير صحيح ولا مقنع.
وإذ كان كلا الأمرين ماديا يدركه بحاسة البصر كل مطلع بلا حاجة في تصور ماهيته لشيء من الأقوال الشارحة ولا من الأقيسة المنطقية؛ إذ كان هذا فقد امتلأت بهما الاعتراضات. لكن ماذا عسى أن يقول المعترضون؟ إن اقتصروا على إثارة ذينك الأمرين من دون أن يقدموا بين أيدي اعتراضاتهم أسبابا طريفة تدعمها دعما ينصاع له العقل، كانت اعتراضاتهم كابية أو بائخة، ما داموا هم لا يرددون إلا اعتراضي على نفسي، وما دام موضوع الاعتراض ماديا يستوي في إدراكه والإدلاء به العالم والجاهل، وهم لا يحبون أن يظهروا في الناس مظهر البائخين، أيسكتون إذن؟ كلا، إنها فرصة للكلام إذا فاتت فقد لا تعود. إذن فليطيعوا أمر أحلامهم وليتكلموا، ولكن لا بما يهوى الجد والرجولة، بل بما تهوى أنفسهم، وأنفسهم صغيرة تطمح لا للإفادة والاستفادة، بل للتعالي الرخيص. وهم لا مادة عندهم حتى ولا للتعالي الرخيص، فليمضوا إذن في التعالي الخسيس؛ التطاول من قصر. وهكذا مضى كل المعترضين إلا قليلا ممن عصم الله. عمد بعضهم إلى الدين فتكلموا باسمه، كأنما وكل الله إليهم أمر عباده. ورأى بعضهم خير طريق يرفعهم إلى ذروة المجد هو اصطناع الكلام الغليظ، معتمدين على أن العوام كثيرا ما يفيضون على الشغابين صفة الفتوة المبيحة للافتخار، والحقيقة في نظرهم بالتجلة والإكبار. وفات المساكين أن هذه المرقاة لا ترفع ذواتهم إلا لتنقلب فتهوي بهم في مكان سحيق.
وبينا أنا أفكر فيما انتاب بعض الناس من التحلل الخلقي إذا بأحد موظفي المجمع يناولني عددا صادرا في 7 آيار سنة 1944 من صحيفة اسمها «المجلة» تصدر في بغداد. قرأت فيها أن صاحبها استفتى قومه في شأن ما ينبغي اتخاذه من أنواع الحروف لرسم العربية. ثم دون ردا أتى إليه من «معالي السيد كامل الجادرجي». قرأت هذا الرد فألفيت واضعه يعترض اعتراضا شديدا على ما اقترحته من اتخاذ الحروف اللاتينية لرسم العربية. وعلى الرغم من هذا قد وقع في نفسي لهذا المعترض من التقدير والاحترام ما لم يقع قبل لمعترض ولا لموافق؛ ذلك أني لمست في كل سطر من أسطر اعتراضه دليل الفطنة وسعة الاطلاع، وعلى الأخص سيما الكيس وكمال الرجولة.
Página desconocida