Huruf Latiniyya
الحروف اللاتينية لكتابة العربية
Géneros
بل لعلي واهم فيما أخشاه على الأستاذ من إمكان حمل عباراته على معنى تعمده مسابقة أرباب الحناجر في حلبة الوطنية اللفظية. ولعل كثيرا من الناس لا يرون - فيما أخشى التأول فيه - إلا مجرد عرض عام مشترك بين أقواله وأقوال الجماهير. والعرض العام شعاع منتشر، أو ظل شائع لا دلالة فيه على حقائق الأشياء، ولا قيم القائلين الفاعلين. وهل كل بيضاء من الأشياء شحمة ، وكل أبيض من الآدميين عالم؟ وهل كل سوداء من الأشياء فحمة، وكل أسود من الآدميين جاهل؟ إذن فلعلي واهم حقا. ولعل الصحيح أن الأستاذ قد رأى بنافذ بصيرته أن «التوقر» من أظهر شيم القساوسة وغيرهم من خدمة الدين، وأنه أنفس حلية للعلماء المعلمين، فاستشعره وارتداه وتقنع به. وما رآه وما فعله من هذا كله حق وحسن بلا مراء، غير أن لي في هذا المقام كلمة أعوذ بالله من أن يظن الأستاذ الجليل أني أوجهها إليه، إنها كلمة سنحت، ومن المفيد لي - وأنا نساء - أن أقيدها حتى لا يفر معناها من ذاكرتي. على أن القلم والمداد والقرطاس، كل أولئك ملك يدي، وانتفاع المرء بما يملك حلال في الشرع والقانون، فلأقيد تلك السانحة، وما علي أن يتظنى الأستاذ أنه المعني بها، مغفلا تصريحي بأنها غير موجهة إليه.
إن «التوقر» لفظ مقول بالتشكيك، يتسع مدى اصطناعه، ويضيق بالإرادة. والأستاذ - على ما يبدو - قد عمل على أن يبلغ من اصطناعه الغاية، وقد بلغها فعلا ومرن عليها، فهو عندي وعند غيري رجل متوقر متصون، له في القلوب - على رياضة نفسه في هذه السبيل الوعرة - كل تبجيل واحترام، لكن غير الأستاذ - لا الأستاذ نفسه، أستغفر الله العظيم - يسهو عن أن الإفراط في التوقر يحور إلى ما يسمى «التزمت» في عرف أمثالي من البسطاء، والتزمت - أجارك الله - متى أخذ بخناق الرجل نكر خلقه. إنه يورثه الاقعنساس فيبدو مقعر الظهر، محدب الصدر، منتفخ الأوداج، محتقن الوجه، بارز الحدقتين، في الأوج هامته وفي الحضيض همته. إن لم يكن كالمعلق بحبل المشنقة، فهو على الأقل «ضابط صف معلم بأورطة الأساس»، يمشي متشامخا مدلا بكفايته بين أنفار القرعة المستجدين.
هكذا يفعل التزمت بصاحبه، ثم هو يخرجه في تصرفاته عن المعايير المألوفة بين الناس، يجعله متى أراد إخراج الكلمة من فيه رطلا خرجت على الرغم منه قنطارا، وإذا أرسل صوته يمينا التوى فذهب شمالا، وإذا بصق أمامه على استواء نكص البصاق إلى الوراء، هو يخرجه من فيه فيرتد لمآقيه فيعميه. وفي هذه الآثار المتعاكسات حكمة لله بالغة لا ندرك نحن الآدميين كنهها.
ليس هذا فحسب، إن الله إذا ابتلى العبد بالتزمت كان بلوى لها ما وراءها.
إنه محنة يسلطها الله عليه فتلد الوسوسة، فتئوف عباداته فتعطلها، فيدخله النار. لا تدهش، وارقب قولي تره منطقيا عليه ميسم شركة «أرستطاليس إخوان» لا زيف فيه ولا تزوير.
أليس أن هذا «المتزمت» إذا أراد الوضوء أسرف فاستنشق عشرا، وغسل اليدين إلى الإبطين - لا المرفقين - عشرا، ومسح برأسه عشرا، فنفد الماء قبل أن يتم التطهر، فتعكر دمه فاحتد وسب، ثم طفق يصيح طالبا فضلة ماء، ولكن البئر انكسرت محالتها، أو الدلو انقطع رشاؤها، والنهر بعيد، وفي هرولته نحوه أصابته شوكة في رجله، فاشتغل بإخراجها، ففات وقت الصلاة، فعاد إلى داره عرجان أسفا، ولازمها أسبوعا مستعينا عجائز الحارة على إخراج ما انكسر من الشوكة وسكن في اللحم، وعلى تضميد الجرح الناغر الأليم؟ وفي هذا الأسبوع لا توضأ ولا صلى ولا حيي؟!
على أنه إذا سهل الله عليه فاستعد بالوضوء قبل دخول الوقت، وحضر الجماعة وأهل الإمام بتكبيرة الإحرام، وتبعه الناس في يسر وبساطة، فإنك تراه قد خيل إليه «التزمت» أن كل تكبيرات المصلين ليست كما ينبغي؛ لقصورهم عن درجة الكمال في استشعار النية، وتقصيرهم عن مشاهير الحفاظ في تجويد مخارج حروف التكبير. خيل إليه التزمت هذا النقص، فطفق هو يعالج التكبير كما يراه ينبغي، فعذب نفسه في استشعار النية وفي التجويد، وشوش على المصلين، واستمر في إيذائهم حتى سلم الإمام، وفاتت صلاة الجماعة قبل أن يفرغ مما ينبغي. ثم هو إذ أتعب نفسه وأضناها فيما ينبغي للتكبيرة الأولى، فإن ما أتى بعدها من أوضاع الصلاة يؤديه لا كما ينبغي ولا كما لا ينبغي، بل كما يتفق أن يكون؛ لأن المتعب القلب والعقل لا يطمع منه في تحقيق ولا تدقيق.
ثم إذا دخل رمضان قدم هذا «المتزمت» ساعة جيبه ساعة قبل الإمساك، من باب الاحتياط، ثم أخرها ساعة قبل الغروب، من باب الاحتياط والتمكين. فعذب نفسه في كل يوم من رمضان ساعتين لم يكتب الله الحرمان فيهما عليه.
ثم إذا أراد الزكاة أطف قدح البر استيفاء واحتياطا، واتقى بكفيه سقوط حبة القمة وما وليها، لكن حبة القمة وأخواتها تعصي أمره وتطيع قانون الجذب فتسقط، فيلتقطها ويعيدها للقمة، فيسقط غيرها، فيلتقطها في عجلة ولهفة، فيختل الوضع فتسقط حبات كثيرة، فيزيد في لهفة الالتقاط ويزيد سقوط الحبات. ولا يزال في هذه المشغلة حتى تتألب عليه عصافير الدار وحمامها ودجاجها، فيطردها، فتعاند، فيجري وراءها، فينكفئ القدح ويتبعثر الحب، ولا يلبث حتى يكون كله في حوصلات الطيور والدجاج. فيسب ويلعن الزمان والمكان، وربما شرد الغضب بعقله فلعن الزكاة ويوم الزكاة فكفر بالله عدوا فاستحق النار. وربما حمله الغيظ على خنق بعض الدجاج فمات فطيسا لا يأكله إلا الكلاب والهررة، فكلف زوجته رمي الميتة على الكومة، فتأبت لغيظها منه، فاعتركا، فطلقها، وخرب البيت، فخسر الدنيا كما خسر الآخرة.
ثم هو إذا قدره الله فحج ركبه التزمت عند رمي الجمار، لا يريد أن يرميها إلا إذا رأى الشيطان بعيني رأسه حتى يستيقن أنه مصيبه. لكنه لا يرى الشيطان، فيغضب، وربما اتهم عينيه بأنهما هما اللتان لا تطاوعانه في رؤية الشيطان، فرجم نفسه فانشج رأسه فمات. ولعل موته هناك خير له؛ لأنه نال الاندفان في الأماكن الطاهرة. ولعله خير لأهله؛ لأنه كفاهم مؤنة تلقيه عند القدوم بالطبل والمزمار وهو متزمت لا يفك كشارته لا طبل ولا مزمار.
Página desconocida