La Libertad Humana y la Ciencia: Un Problema Filosófico
الحرية الإنسانية والعلم: مشكلة فلسفية
Géneros
والواقع أن السمة الرياضية هي التي قلبت الحتمية من مبدأ فلسفي - يمكن أن تختلف بشأنه وجهات النظر - إلى مبدأ علمي صريح، لا بد وأن يسلم به الجميع تسليمهم بالعلم.
أما الفارق بين الحتمية العلمية وبين الجبرية الدينية، فيتمثل في العلية (السببية)، وهي المبدأ القائل إن كل حدث لا بد له من علة أحدثته، والعلية مبدأ متوشج في الحس المشترك - أي في تفكير الإنسان العادي - وأيضا في الفكر الفلسفي، ولكنه اتخذ موقع العمود الفقري في العلم الحديث، إن العلم الحتمي هو العلم العلي؛ لأن حتمية الظاهرة لا تعدو أن تكون العلة التي تحدثها، وبالتالي أصبحت مهمة العلم الحديث هي تعليل كل الظواهر، وتحديد علة كل حدث، أما التسليم بحدث بغير علة، فليس يعني إلا إنكار العلم بها، وتتلخص كل قوانين العلم في أحكام علاقة العلة بالمعلول، لتتخذ جميعها الصورة المنطقية: إذا كان ... فإن ... دائما طبعا.
وطالما أن لكل حدث علة أحدثته، وهو بدوره معلول لها، فإن واقع الكون الراهن معلول ضروري لوضعه اللاحق، فتسير أحداث الكون في تسلسل علي، يجعلها أشبه بسلسلة محكمة الحلقات، تفضي كل حلقة إلى - وفقط إلى - لاحقتها، مثلما تنشأ عن - وفقط عن - سابقتها، وبالتالي فالكون نظام مغلق، مساره مرسوم منذ أن تخلقت الحلقة الأولى في السلسلة، إن التسلسل العلي يجعل مجرى الأحداث قد حتمته اللحظة الأولى لهذا الوجود، ومنذ أن تحددت هذه اللحظة، تحددت كل الأحداث التالية، والكون عليه أن يسلك طريقا واحدا لا سواه، طريقا محتوما؛ لهذا لا تعد العلية مجرد عنصر أو بعد من أبعاد الحتمية، بل إنها الحتمية عينها، أو بالكثير الوجه الآخر لها، حتى إن المصطلحين - الحتمية والعلية - كثيرا ما يستعملان كمرادفين.
إن العلية هي التي تؤكد نظام الطبيعة الحتمي واتساقه، وقانون تسلسل الأحداث فيه: فالعلة هي الحدث السابق والمعلول هو الحدث اللاحق، وتؤكد العلية تدفق الزمان في اتجاه واحد لا سواه من الماضي إلى المستقبل، وأيضا ثبات المكان، وبصورة مطلقة أي بالنسبة للجميع مهما اختلفت مواقعهم.
هذان الزمان والمكان المطلقان هما القالب أو الخلفية الأساسية للعلم الحديث، وبالأدق لفيزيائه الكلاسيكية، التي تعد الصلب والهيكل للعلم الحتمي، وللحتمية العلمية، المتعضونين معا، وهذه الخلفية هي تصور للكون كمجرد كتل مادية، أجسام صلبة تتحرك على السطح المستوي عبر الزمان والمكان المطلقين، وقد بلغت الفيزياء الكلاسيكية الذروة بنظرية نيوتن التي تعد بمثابة مراسم التتويج النهائية لفرض الحتمية العلمية.
وطالما أن الكون لا يعدو أن يكون أجساما مادية تتحرك، والميكانيكا هي علم حركة الأجسام، فإن الكون بالتأكيد نظام ميكانيكي، كل تغير فيه مردود إلى حركة الأجسام، وهذه الحركة، كل حركة وأية حركة تحكمها بدقة صارمة قوانين نيوتن، وحين نعرف حالة هذا النظام الميكانيكي في وقت معين، فإن قوانين نيوتن تسمح بحساب حالته في كل الأوقات، تأكيدا لمبدأ العلية الذي يجعل الحالة السابقة علة للحالة الراهنة، تحتمها بالضرورة، هكذا بدت الحتمية أوضح من شمس النهار.
إن هذا التصور الميكانيكي للكون، وقد رفعته نظرية نيوتن على رءوس الأشهاد، هو التمثيل العيني لأنطولوجية الحتمية، والذي جعلنا نمسك عليها بجمع اليدين، والواقع أنه لا حتمية علمية بغير الميكانيكية - أي النظر إلى الكون بكل محتوياته وعناصره وظواهره بوصفه مترتبا في صورة آلة ميكانيكية ضخمة، مغلقة على ذاتها، من مادة واحدة متجانسة، تسير تلقائيا بواسطة عللها الداخلية، وتبعا لقوانينها الخاصة، تفضي كل حالة من حالاته إلى الحالة التالية.
وبعد أن وضع العلماء فرض الأثير، وهو وسط لا نهائي المرونة كثافته أقل من الهواء، افترضوه بوصفه يملأ كل الفراغات في الآلة الميكانيكية العظمى؛ بحيث يحمل الضوء والإشعاعات لتندرج بدورها في التفسير الحتمي الميكانيكي، وبعد أن اكتشفوا أن المادة الحية مؤلفة من الذرات نفسها التي تؤلف المادة الجامدة، وأنها بالتالي تخضع للقوانين نفسها، وتصوروا أن الحياة أيضا ذات طبيعة ميكانيكية، وأن الإنسان لا يعدو أن يكون آلة ميكانيكية حية، والعقل بدوره هكذا ... بعد كل هذا أيقن العلماء أنهم يستحيل أن يفهموا أي شيء بغير أن يصطنعوا له أنموذجا ميكانيكيا، وأن التفسير الوحيد الممكن لهذا الوجود - ككل وكأجزاء - هو التفسير الميكانيكي.
وانتشر في الفلسفة مذهب يعد المتحدث الرسمي باسم هذا العلم الحديث، وهو مذهب «الواحدية المادية» أو «المادية الكلاسيكية»، الذي يؤكد أن الوجود عبارة عن مادة، ولا شيء سوى مادة، تشكلت في صورة آلة ميكانيكية، أما الفكر والعواطف والانفعالات والروح ... وما شابه هذا من كيانات غير مادية، فإما أنها خرافة لا معنى لها، وإما أنها مردودة في النهاية إلى المادة وخاضعة للقوانين الميكانيكية نفسها - العلمية الحتمية.
وجاء في عام 1814 العالم الفرنسي سيمون بيير دو لابلاس
Página desconocida