وعلى هذا المعنى يحمل إنزال القرآن وبه يحمل تساؤل المفسرين عن قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر). كيف قال أنزلناه في ليلة القدر مع أنه أنزل على فترة ربع قرن؟ ثم حاولوا حل الإشكال، والإجابة على السؤال، بأن القرآن أنزل إلى السماء الدنيا دفعة واحدة في ليلة القدر ثم استمر جبريل يتنزل به على الرسول بحسب ما استجد من أحداث وأمر، وهذا كلام لا يصح في حق الله الذي يعلم السر وأخفى، والذي له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، ولا يليق بمن يعلم ما نسر وما نعلن، بل القرآن كان يتنزل بعلمه في كل حال وزمن، عاشه الرسول المؤتمن. وإذن فالمراد بكلمة "أنزلناه" أظهرناه في ليلة القدر وهكذا تحمل الآية التي تقول: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) [البقرة: 185]. فإنها تعني أن شهر رمضان كان موعدا لإظهار القرآن فشهر رمضان أظهر فيه القرآن وقد كان ذلك في ليلة منه هي ليلة القدر وهكذا يتضح الأمر. ولتأكيد أن المراد بالإنزال الإظهار نجد الله يقول عن الرسول: (فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) [الأعراف:157]. فهل محمد الرسول أنزل حتى يكون النور منزلا معه؟ الحقيقة أنه أظهر وأخرج للناس وأمته والمتبعون له هم خير أمة أخرجت للناس ودين الحق هو الذي أظهره الله. ولهذا يقول الله في سورة الطلاق: (فاتقوا الله ياأولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا(10) رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات..) [الطلاق: 10-11]. فالذكر هو القرآن وها هو قد أبدل منه الرسول فكلاهما منزلان فكيف يكون الرسول منزلا وهو معنا في الأرض؟!إن المراد ظهوره وقيامه بالإنذار، وهكذا فإن النور قد ظهر معه، ولهذا فهو يتلو آيات الله مبينات. (ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا) [الطلاق: 11]. ولتأكيد ما أقول تعالوا نقرأ آخر سورة الطلاق، وكيف يصف الله نفسه بأنه العليم الخلاق: (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما) [الطلاق:12]. أسمعتم؟! أفهمتم؟! فهو الخلاق العليم وكل شيء في السماوات والأرض يسير بأمره وسائر على هداه المستقيم وكيف لا فهو القدير على كل شيء ، المحيط بكل شيء وهو العلي العظيم. وبهذا فإن كل ما يتنزل إنما هو إظهار للموجود، من الغيب إلى المشهود، فالله ذو العرش المجيد، فعال لما يريد؛ (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون(82)فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون(83)) [سورة يس].
انتهى بعون الله،،،نزل وأنزل ¶ لعل هذا الموضوع في نظر البعض غير مهم ولا يحتاج لاهتمام، لكنه موضوع هام يحتاج إلى التأمل بإمعان؛ لأنه متعلق بآيات القرآن؛ ذلك أن الكلمتين وردتا في القرآن متكررة وفي آيات تتحدث عن مصدره، وعن مصدقه ومنكره. وإذن فلا بد من تأمل معناهما بإمعان، لنصل إلى الفهم الذي يليق باليقين في الإيمان. ¶ لقد دفعني إلى البحث والتفكير في معنى الكلمتين ودلالتها ما لحظته في كتب اللغة والتفسير من اضطراب في معناهما وهو اضطراب مثير لا يليق ببلاغة القرآن، ولا يصح أن يترك بلا بيان؛ وكيف لا وهو منزل من الرحمن؛ ولهذا فقد طفقت أتابع الكلمتين في الآيات، وأتأمل في سياقها بحثا عن الدلالات؛ حتى وصلت إلى الفهم الشافي، والتفسير الوافي، بعون الله الكافي ، ولقد كان مفتاح الباب إلى تتبع المعنى والتنقيب الدائب ما قاله العلامة الرضي في شرح شافية ابن الحاجب، حول الأفعال المضعفة. فلقد أشار إلى أن تضعيف كلمة أنزل بأن يقال [نزل] لا يدل على التكرير، كما زعم رجال التفسير؛ بل لها معنى آخر يلوح لمن له قلب مستنير. ودلل على قوله بآية كريمة، تدعم ما يذهب إليه من نظرة سليمة، وتدحض النظرات السقيمة؛ تلك هي قوله تعالى في سورة الشعراء: (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين) [الشعراء:4].فإن ورود كلمة (ننزل) المضعفة في هذا السياق لا تدل على التكرار؛ لأن الآية تنزل دفعة واحدة بلا تكرار ولا تتابع، هذا أولا - وهو قول صحيح ودليل واضح على ما ذهب إليه- ثم ما ورد في سورة الفرقان في قوله تعالى: (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا) [الفرقان:32]. فلقد وردت كلمة (نزل) مضعفة مع أنهم طلبوا أن ينزل القرآن جملة واحدة، وهذا يعني أن الكلمة لا تعني التكرير والتتابع. ¶ إذن فإن كلام الرضي قد أثار السؤال عن المعنى الجديد، ولكنه لم يوضح المعنى المراد بل ترك الباب مفتوحا لمن أراد البحث عن المعنى بالتحديد. وهذا هو الذي أثار عندي التساؤل حول المعنى المراد، ودفعني إلى البحث والتأمل في الآيات باطراد. وعليه: فقد أضربت صفحا عن مراجعة أقوال المفسرين، فإنهم لم يأتوا بالقول المبين، واتجهت إلى الآيات موقنا بأن فيها النبأ اليقين. فالقرآن يبين بعضه بعضا، ومن تدبر وصل إلى ما به الله يرضى، وبعد أيام وأيام وتأمل وإمعان، ومقارنة بين مواضع ورود الكلمتين في القرآن، تبين لي بسهولة ويسر أن المعنى واضح وليس فيه لبس ولا في فهمه عسر. وإليكم النتائج التي وصلت إليها، والدلالات التي اطمأنت نفسي إليها، وها أنذا أضع أمامكم المعاني التي تدل كلمتا "نزل وأنزل" عليها؛ مؤيدة ببعض الآيات التي يدل سياقها على معانيها. ¶ لقد تأكد لي بما لا يدع مجالا للشك، أن كلمة (نزل) بالتضعيف تأتي في السياق الذي يدل على تنزيل خاص لفرد خاص أو مجموعة خاصة وبصفة خاصة بينما كلمة (أنزل) بالهمزة والتخفيف تأتي في السياق الذي يعني إنزالا عاما لا يخص فردا معينا ولا جماعة مخصصة ولا حالة خاصة ولكن للناس عامة وللأمم عامة ولحالات عامة بدون تخصيص ولا تحديد. ثم إن كلمة (نزل) تعني إلى جانب ما تعنيه من الخصوصية الاهتمام الخاص بالمنزل إليه والعناية الخاصة بالمنزل عليه؛ بينما لا تفيد كلمة (أنزل) الإشارة إلى هذا الاهتمام بل تأتي في سياق الإلقاء للخاص والعام. وهكذا يكون الفهم لمعنى الكلمتين في سياق الآيات. ¶ لنقرأ قوله تعالى، حاكيا تعنت الكفار وطلبهم المعجزات من الرسول في سورة الإسراء فلقد أورد عددا من المطالب حتى وصل إلى قوله: (أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا)[الإسراء: 93]. تأملوا قولهم: (ولن نؤمن لرقيك حتى (تنزل) علينا كتابا نقرؤه). إن كلمة (تنزل) جاءت لتدل على أن المراد "التنزيل الخاص" الذي يصل إليهم بعناية واهتمام، ويخصهم بالخطاب والكلام. ثم إن مثل هذا الطلب المتعسف، ورد في سورة الزخرف: (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) [الزخرف: 31]. فإن كلمة (نزل) وردت لتدل على أن المراد تنزيل خاص إلى شخص مخصوص وبعناية واهتمام يليق بالرجل العظيم، ويتناسب مع مقامه المزعوم. ولتأكيد هذه الخصوصية وردت الكلمة في سورة الإسراء: (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا)[الإسراء: 106]. فلقد تنزل القرآن على رسول الله محمد تنزيلا خاصا ليقرأه على مكث على الناس وليبلغه إلى الناس بشكل واضح مبين. ولنعرف أن هذا المعنى هو المراد، فإن الآية التي سبقت هذه تستعمل كلمة أنزل لتدل على أنه إنزال عام: (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) فهو بالحق متلبس، وهو له ملابس في حالة الإنزال وفي حالة النزول؛ ليكون للعالمين الدليل على أن الله هو الهادي إلى سواء السبيل، وأنه الهادي إلى الحق لا سواه؛ ولهذا فإنه وحده المتفرد بالحكمة والإرسال، والوحي والإنزال؛ ولكنه يختار من الملائكة والناس ما يختار من الرسل وهو السميع البصير.(يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور) [الحج: 76]. ¶ وعليه: فإنه يعتني باختيار رسله من الملائكة ومن الناس فإذا تحدث عن إنزال الملائكة استعمل كلمة (نزل) المضعفة التي تدل على العناية والاهتمام الخاص؛ (أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون(1) (ينزل) الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون) [النمل: 1-2]. لاحظوا كلمة (ينزل الملائكة) فإنها مضعفة. وكذلك قال في سورة الإسراء: (قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا) [الإسراء: 95]. وحين يتحدث الملائكة عن أنفسهم يستعملون نفس الكلمة: (وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا) [مريم: 64]. وحين يتحدث الله عن القيامة يقول: (ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا) [الفرقان:25]. وقوله عن ليلة القدر: (تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر(4)سلام هي حتى مطلع الفجر(5)) [القدر: 4-5]. وحين يريد الله أن يؤكد أن القرآن منزل من عنده بلا ريب فإن كلمة (نزل) ومشتقاتها ترد متوالية، سواء في الحديث عن الملائكة أو عن القرآن كما ورد في سورة الحجر، فالله يحكي قول المكذبين فيقول: (وقالوا ياأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون) [الحجر:6]. فهم ينادون النبي بما يدعيه ويستعملون الكلمة التي تدل على الاختصاص (نزل) كما يدعيه بأنه منزل عليه، وهم بهذا يسخرون أو يطمعون أن يكون التنزيل لهم معه؛ ولهذا فهم يطلبون دليلا على ما ادعاه وهو قولهم: (لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين) [الحجر:7]. لكن الله يجيب بلهجة التهديد، والتلويح بالوعيد، ويستعمل كلمة (ننزل): (ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين) [الحجر:8]. ثم يؤكد أن القرآن منزل من عنده بعناية واهتمام ويستعمل كلمة (نزل): (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) [الحجر:9]. ¶ ومثل هذا جاء في سورة الإنسان: (إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا(23)فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا(24)) [الإنسان:23-24]. أما حينما يتحدث عن الكتاب ويصفه بصفات خاصة فإن استعمال كلمة (نزل) المضعفة هي المناسبة بلا إشكال : (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد) [الزمر:23]. ¶ وهكذا تأتي كلمة (نزل) المضعفة في سياق التأكيد على التنزيل الخاص الذي يهم الناس، فالله يقول: (ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير) [الحج: 71]. ومثل هذا قال هود لقومه: (قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين) [الأعراف:71]. ¶ لعلي بهذا قد أثبت ما أريد أن أوضحه لكم، ولست بحاجة إلى المزيد من الآيات لأترك لكم فرصة التأمل في ما تركته من الآيات ولتصلوا إلى الحقيقة بأنفسكم؛ لكني لن أترك الحقيقة حتى أدعمها بقضية تؤكدها بوضوح، وتدعمها بالخبر الصحيح. استمعوا إلى الحواريين وهم يطلبون المائدة من المسيح: (إذ قال الحواريون ياعيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين) [المائدة: 112]. إنهم يطلبون مائدة تتنزل بشكل خاص وبعناية خاصة وإلى فئة خاصة- هم هؤلاء المجموعة من الحواريين- منفردين لا يشاركهم غيرهم؛ ولهذا فإنهم يدعمون هذا الطلب بما يوضحه: (قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين) [المائدة: 113]. وهنا يجد عيسى نفسه محتاجا لما طلبوا فيتوجه إلى ربه سائلا طالبا، ولكن بطريقة مختلفة عن طلبهم: (قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين) [المائدة:114]. لقد استعمل كلمة أنزل بدون تضعيف. لماذا؟. لأنه لا يطلبها للحواريين وحدهم، ولا لمن يعاصره منهم ولكن له ولهم ولمن يلحقهم من المؤمنين أي لأولهم وآخرهم؛ ولهذا وصفها بأن تكون لهم عيدا، أي تعود في كل عام وتنزل على من اتبعه من المؤمنين بشكل عام، وفي وقت محدد من الأعوام؛ لتكون آية من الله ورزقا من خير الرازقين. لقد قدم الطلب بأسلوب مؤدب، وجعل القضية آية من الله لمن آمن بالله وأحب، وعمم الخير لكل المؤمنين به في كل الحقب. وهنا يستجيب الله للطلب؛ ولكنه يتوعد من كفر وكذب؛ بأنه بعذاب خاص سيعذب. (قال الله إني منزلها عليكم). لقد استعمل كلمة (نزل) ليدل على أنه منزلها بعناية واهتمام، وبالصفة التي أرادها المسيح في كل عام. ولكن الله يتوعدهم بقوله: (فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين) [المائدة: 115]. وعلى هذا فإن المائدة لم تنزل، بل لم تنزل؛ لأن شرط المسيح عليه السلام الذي جعلها عيدا، وتهديد الله لهم والوعيد هو الذي ألغى طلب الحواريين وجنبهم عذابا لا يعذبه أحد من العالمين، فسبحان الله القوي المتين، والحمد لله خير الرازقين. ¶ وبعد فلعل القضية قد تكون اتضحت لكم وأصبح الإنزال غير التنزيل، وفهمنا أن كلمة (أنزل) لا تدل على المرة بل على الكثرة بشكل عام، وأن كلمة (نزل) لا تدل على التكرار بل على الخصوصية والاهتمام. لكن قد يسأل سائل عن قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) [القدر:1]. وقوله: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين) [الدخان:3]. وقوله: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا(1)قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا(2)ماكثين فيه أبدا(3)وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا(4)) [الكهف: 1-4]. لقد أخبر أنه أنزله على عبده ولكنه استعمل كلمة (أنزل)، وهذا ينقض ما قلت، ولكني أقول أن في الآيات إشارة إلى أن الكتاب أنزل للناس كلهم بلا تحديد إلى الجهة المستهدفة من الإنزال؛ لكنه في سورة الفرقان يقول: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا)[الفرقان:1]. فيستعمل كلمة نزل لأنه ينظر إلى الشخص المنزل عليه الفرقان وهو الرسول خاصة ثم للعالمين من بعده؛ ولهذا قال: (ليكون للعالمين نذيرا) فالتنزيل على واحد مخصوص لينقله إلى العالمين وينذر به من يعون. ¶ وعليه: فإن المعنى في الآيات الواردة لا يتناقض؛ لأن الكلمة تستعمل بالنظر إلى الجهة المستهدفة من الإنزال أو التنزيل؛ فإن كانت الآيات ناظرة إلى فرد مخصوص أو حالة مخصوصة؛ استعمل كلمة نزل، وإن كانت ناظرة إلى جماعات مستهدفة وحالات عامة؛ استعملت كلمة أنزل، وهذا يلحظه من يتدبر الآيات ويتأمل. ولتأكيد هذا المعنى تعالوا معي إلى ما يقوله لرسوله أمام المعاندين المطالبين بالآيات والمعجزات. يقول: (ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين) [الأنعام:7]. فالآية هنا ناظرة إلى الرسول فإنه المقصود بالتنزيل المشار إليه ليستدل به على نبوته أمام من كذب به، فكان لا بد من استعمال كلمة (نزل) المضعفة. لكنه جاء بعدها: (وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون) [الأنعام:8]. فالآية هنا ناظرة إليهم، إلى المكذبين المعاندين، فهم يطلبون إنزال ملك إلى الرسول ليكون معه نذيرا لهم ليصدقوه تماما كما قالوا في سورة الفرقان: (لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا) [الفرقان:7]. فهم المقصودون بالإنزال هنا لا الرسول بخصوصه، ثم لنقرأ آية أخرى: ¶ (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا) [الفرقان:21]، فهم المقصودون هنا بالإنزال ولهذا أردفوا إنزال الملائكة برؤيتهم لربهم، ولأنهم هم المستهدفون بالطلب للإنزال؛ فإن الله يقول عنهم: (لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا) [الفرقان:21]. ثم قال: (يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا) [الفرقان:22]. فهم هم المستهدفون للإنزال العام وليس الرسول هو المستهدف بما طلبوه من الإنزال، ولهذا استحقوا هذا التهديد وهذا الخطاب الشديد، لكن حين يكون المستهدف هو الرسول؛ فإن الخطاب يتوجه إلى الرسول عقب الطلب. ¶ وتستعمل كلمة (نزل) في هذا المقام وهو الاستعمال الأنسب، (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا(32)ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا(33))[الفرقان:32-33]. ألم يوجه الخطاب مباشرة إلى الرسول وأهمل المكذبين في الخطاب؟. وفي سورة النمل: (وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون(101) قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين(102))[النحل:101-102].فالخطاب هنا مباشرة يتوجه إلى الرسول، المستهدف من التنزيل والمستهدف من التكذيب، ولهذا استعملت كلمة (نزل). وهكذا فإن التأمل إلى جهة الخطاب وإلى المستهدف من السياق يرفع الإشكال في استعمال الكلمتين ويكشف اللبس الذي أورده التساؤل المفترض، ممن قد يعترض. ¶ والآن وقد أخذنا حظنا من معنى كلمة (نزل) بالتضعيف، فإني سأورد في الصفحات التالية بعون الله بعض المواضع التي وردت فيها كلمة (أنزل) بلا تضعيف. إن الملاحظ أن كلمة (أنزل) استعملت كثيرا في سياق الحديث عن إنزال المطر أو بالأصح إنزال الماء من السماء، وهو تأكيد لمعنى الكلمة؛ إذ لا يمكن أن يكون إنزال الماء من السماء إلا بشكل عام، ولا يخص فردا أو فئة خاصة بل لمن يشاءه الله من عباده بشكل عام. ولهذا فالله حين يخاطب الناس أجمعين بهذه النعمة فإنه يقول: (ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون(21)الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون(22)) [البقرة: 21-22]. وفي سورة الحجر التي وردت فيها (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) [الحجر:9]. وقوله: (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) [الحجر:21]. جاءت بعدها قوله تعالى: (وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين) [الحجر:22]. إن حزائن كل شيء عنده، وإن التنزيل بقدر معلوم هو الذي يتولاه حين تحدث عن هذا وبهذا الأسلوب؛ فإنه استعمل كلمة (نزل) فقال: (وما ننزله) فهو تنزيل خاص وباهتمام خاص. لكنه حين تحدث عن الماء بعد ذلك قال: (فأنزلنا من السماء) فهو إنزال لكل الناس وهو شيء معتاد وسنة معهودة فلا تحتاج إلى الخصوصية والاهتمام. وبالمناسبة فلقد وردت كلمة (فأسقيناكموه) وقد يسأل سائل: ما المناسبة؟ والجواب هو: تأملوا لماذا لم يقل: "فسقيناكموه" بدون الهمزة؟! وما الفرق بين "أسقيناكم" و"سقيناكم" بالهمزة وبدون همزة؟! ¶ الفرق مثل الصبح واضح، فكلمة "أسقى" تعني إنزال الماء أو إطلاق الماء للناس سواء شربوا أو لم يشربوا، فهو مبذول لهم في كل حين، تقول: "أسقيت فلانا النهر أو الغدير" أي: مكنته منه سواء شرب أو لم يشرب، المهم أنك مكنته من الماء وأطلقته له وهو حر، والخيار أمامه؛ أما حين تقول: "سقيتك الماء" فإن المراد أنك سقيته بيدك وجعلته يشرب، فليس مجرد إطلاق أو تمكين بل تقريب وتحقيق، فالمسقي قد شرب من يدك أو من كأسك بصور ة مباشرة، فأنت قد قربت إليه الماء باهتمام ومبادرة وهو استجاب وأقبل على الشرب برغبة ظاهرة. فالفرق بين "أسقى" و "سقى" واضح بلا خفاء. ولهذا يقول الله عن الأبرار وهم في نعيم الجنة: (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) [الإنسان:21]. ويقول إبراهيم عن ربه: (والذي هو يطعمني ويسقين) [الشعراء:79]. إن "يسقيني" بفتح الياء يعني أنه من "سقى" لا من "أسقى". تقول: سقى، يسقي. وأسقى يسقى، وعليه فإن "أسقى" معناها مثل أنزل في الدلالة على العموم بل عدم الاختصاص فيها مفهوم. ولهذا يقول الله في سورة الفرقان: (وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا(48)لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا) [الفرقان:48-49]. فلقد تضمنت الآيتان كلمة "أنزل" الدالة على العموم و"أسقى" الدالة على العموم، ولقد عللت كلمة "أنزل" بأنها لإحياء البلدة الميتة ولإسقاء أنعام وأناس كثيرة فكلا الكلمتين في الآية "أنزل وأسقى" تدعم الأخرى وتؤكد معناها. فالإنزال عام لأنه لإسقاء الناس والأنعام وهكذا هو الحديث عن الماء، غالبا ما تستعمل له كلمة أنزل ولست بحاجة لإيراد المزيد من الآيات. ¶ غير أني أنبه إلى أن قولي "غالبا" يشير إلى أنه قد ترد كلمة نزل بالتضعيف في حالة الحديث عن الماء ولكن بسبب خاص في السياق ولمعنى يوحي به السياق، ولنتأمل مثلا قوله تعالى في سورة الزخرف: (والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون) [الزخرف: 11]. فالذي أوجب ورود كلمة "نزل" بالتضعيف هو إما السياق خطاب خاص في موضوع هام هو إقناع الناس بأن الله هو ربهم القريب منهم الملابس لما أنعم به عليهم بل هو معهم في كل ما يهمهم فالآيات تبدأ هكذا: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم(9)الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون(10)) [سورة الزخرف]. ثم قوله: (والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا) [الزخرف: 11]. فالخطاب مباشر للناس وتدليل على شيء يجهله الناس وهو أن الله هدى الناس، ثم للتدليل على شيء آخر هام متعلق بالأول وهو قوله في ختام الآية : (كذلك تخرجون(11)). فكما ينشر الله بالماء بلدة ميتة التراب، كذلك سينشر الناس ويخرجهم يوم القيامة للحساب. فالموضوع خطاب هام وتدليل وبرهان فلا بد من استعمال (نزل) الدال على القرب والاهتمام ثم العلم بحال الخلق وحاجاتهم وإتيانهم بما يحتاجون وتصلح به حياتهم. ¶ وهكذا يجب أن نفهم سياق المواضيع التي ترد فيها الكلمتان لنعرف سر إيراد هذه هنا وتلك هناك وسر اختيار أحدهما في هذا السياق وتركها في سواه، إن لذلك أسبابا وأسرارا لا يدركها إلا من عرف أسرار اللغة وغاص في بحورها ليصيد جواهرها وليعرف غثها من سمينها وإذا كان ذلك هو المطلوب في كل من يتعامل مع اللغة العربية فهو واجب محبوب لمن يتعامل مع القرآن وآياته البينة، فلنكن على استعداد لهذا المقام الرفيع الأسنى والله معنا يسمع ويرى ويزيد المهتدي هدى بل هو الله المعين المنزل القرآن المبين هدى ورحمة وبشرى للمسلمين فالحمد لله رب العالمين في كل حال وحين وسلام على المرسلين أجمعين وعلى محمد خاتم النبيين.. آمين. ¶ إضافة لطيفة: ¶ وإذا كان القلم قد جرى بما تيسر حول (نزل وأنزل) فإن له بناء حول نبأ وأنبأ؛ فإن لكل منهما معنى متقارب مع نزل وأنزل؛ فإن نباء بالتضعيف تعني أن النبأ نقل إلى الآخر بعناية واهتمام واختص به المنبأ دون سواه فهو المستهدف من الكلام بينما كلمة أنباء بالهمزة والتخفيف تعني أن النبأ أطلق بشكل عام وألقي وسط الناس بشكل عشوائي دون تخصيص أحد منهم وهذا الفرق بين الكلمتين يظهر بوضوح في سورة التحريم. ففي الحوار بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعض أزواجه وردت الكلمتان (وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به) لاحظوا، لقد استعمل كلمة "نبأت" فهي هنا قد نبأت به بعض الزوجات بصورة خاصة وحدثت به باهتمام ولهذا استعمل كلمة "نبأت" بالتضعيف ولنستمر في قراءة الآية: (فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به). نعم لقد نبأ النبي زوجته بما عملت وبما أظهره الله نبأها باهتمام وبصفة خاصة وبصورة مخصوصة، فماذا حدث وماذا كان ردها؟. لنقرأ: (قالت من أنبأك هذا).لقد استعملت كلمة "أنبأ" لأن السؤال منها يدل على أنها ظنت أن النبي تلقى الخبر وأنبأ به بشكل عابر وعبر تداول الألسنة فكان المناسب أن تقول (من أنبأك هذا) لكن الرسول يرد على السؤال الموهم بأن الثناء جاءه بشكل عابر يرد بما يدل على أن النبأ جاءه بصورة خاصة ومن مصدر خاص فلنقرأ كيف رد: (قال نبأني العليم الخبير) [التحريم:3]. ¶ لقد استعمل كلمة "نبأ" المضعفة الدالة على أن النبأ جاءه من مصدر خاص وبشكل خاص، وكيف لا وهو قد جاءه من العليم الخبير، فإن المصدر يدل على أن النبأ غير عابر على أفواه الناس، ولكنه من العليم بأسرار الناس الخبير بما في النفوس من الوسواس. وعلى هذا الأساس فإن "نبأ" المضعفة ترد كثيرا في القرآن؛ لأن النبأ لا يكون إلا من نبي صادق إلى عباد الله الصادقين، فهذا محمد صلى الله عليه وآله وسلم يأمره الله بقوله: (نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم(49)وأن عذابي هو العذاب الأليم(50)ونبئهم عن ضيف إبراهيم(51)) [سورة الحجر]. ¶ وهذا يوسف عليه السلام يخاطب صاحبي السجن: (قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي) [يوسف:37]. وهناك عيسى بن مريم عليه السلام يخاطب بني إسرائيل: (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين) [آل عمران:49]. وهكذا يكون التشابه بين "أنزل ونزل" و "أنبأ ونبأ" فالمضعفة منهما تعني الاهتمام في الإيصال والاختصاص والتخصيص فيما ينقل ويقال والمهمزة في الكلمتين تعني الإطلاق بشكل يشمل أكثر من واحد ولا يخص واحدا أو بالأصح يعني العموم في الإنزال والإنباء بدون تخصيص ولا انتقاء، ولا اهتمام ولا احتفاء. ¶ عود على بدء: ¶ وبعد فإن الموضوع يبدو محسوما بلا مراء على أن للقلم بعد هذا البيان بناء خاصا حول معنى كلمة "أنزل" مع كلمة "نزل" من حيث الموضع الأصلي لهما أي من حيث ما يدلان عليه في أصل وضع اللغة وفي مبتدأ مفهوم الكلمة. لا شك أن المتبادر إلى الذهن أن كلمة أنزل ونزل تعني أن شيئا ما قد أتى إلى الناس من أعلى إلى أسفل أو قد تناوله المتناول من مصدر عال وهو في مكان أسفل من المناول. ولهذا فإن القرآن أنزل من الله إلى الرسول والمطر ينزل من السماء إلى الأرض فالكلمة تعني انتقال الشيء من حال الارتفاع إلى الهبوط أو من صدر عال إلى مهبط سافل. ¶ هذا هو المتبادر من الاستعمال، نعم لقد استعملت لهذا المعنى تعظيما لله المعطي وتهوينا للعبد المعطى وتجليلا لله المتفضل وتقليلا للعبد المستقبل، فالله يليق به العلو والتعظيم، والجلال والتفخيم، فهو العلي العظيم، وهو الرفيع الدرجات، وهو الوهاب ذو المعارج والهبات، وهو ذو العرش المجيد، الفعال لما يريد، ولهذا يحق له أن يستعمل فيما يعطيه ويظهره كلمة "أنزل ونزل" معا.ولكن: هل الله حقا في مكان محسوس الارتفاع وفي مقام ملموس العلو. كلا: إن علوه وارتفاعه معنوي، فهو قريب من كل شيء وهو معنى أينما كنا وهو أقرب إليك من حبل الوريد، وهو يحول بين المرء وقلبه: (وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون) [الأنعام:3]. ¶ وإذن فإن كلمة "أنزل" لا تعني في حقه تعالى أن ما يأتي منه ينزل من أعلا إلى أدنى أو من عال إلى سافل، كلا ولكنه يأتي بشكل أسهل وأجمل. وعليه: فإن كلمة "أنزل" تعني أظهر وأبان؛ لأن الله عنده خزائن الأشياء والأكوان وهو يوجدها بكلمة كن فكان، وليس معنى الخزائن أن عنده مخازن مكدسة وخزائن، فهو يكون الأشياء ثم يظهرها من العدم إلى العيان. ولا يصرفها من مخازن مكدسة بالأجسام كما يفعل الإنسان، وليس لديه أمر صرف ولا خزان للمخزون بل يقول للشيء كن فيكون. وعليه فإن الله حين يقول: (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) [الحجر:21]. فإنما يعني أنه الخبير بالمكونات والأكوان وفي علمه كل أسرار الخلق والإتقان، وكل خفايا الإيجاد والإحسان. فإذا أراد للشيء الوجود والتكوين قال له كن فيكون، فإذا هو ظاهر بين أيدي الناس به ينعمون وهو أخبر بما يريدون وبمقدار ما يحتاجون، وهذا هو معنى قوله: (وما ننزله إلا بقدر معلوم). أي نظهره ونبرزه للوجود بقدر ما يحتاجه الخلق وبما يفيد ولا ينقص ولا يزيد، وكيف لا وهو الخبير بما يخفى وأقرب إلينا من حبل الوريد. وهكذا فإن كلمة "أنزل" تعني أظهر وأخرج وأوجد وقدر. وعلى هذا المعنى قال الله في سورة هود: (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل) [هود: 12]. فإن قوله: (أنزل عليه كنز) يعني أظهر عليه أو أخرج له بدليل أن بعدها (أو جاء معه ملك) فلقد استعمل كلمة جاء مع الملك مع أن الملك في مفهومنا يتنزل من أعلى إلى أسفل لكن الواقع أنه يجيء من حيث لا ندري وهذا هو التعبير اللائق بالله العظيم. ¶ فليس له عرش محسوس وكرسي ولكنه قريب من كل شيء. ثم إن كلمة "أنزل" قد جاءت في مقام تدل على أصلها وفي سياق يؤكد معناها الأصلي ذلك هو قوله في سورة الأنعام: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله). إن قول هذا الظالم المفتري (سأنزل مثل ما أنزل الله) وهو عربي اللسان يعني ما يقول ويعرف معنى الكلام. إن قوله هكذا لا يعني أنه يزعم ويدعي أنه سينزل كلاما من السماء ولكن يعني أنه سيقول ويظهر لنا كلاما من فمه ولسانه الماثل أمامنا على الأرض فلماذا استعمل كلمة (سأنزل) ثم (مثلما أنزل الله). إن هذا يعني أن "أنزل" تعني أظهر وأخرج وهو المعنى الأصح وعليه جاءت الآيات التي وردت فيها هذه الكلمة متعلقة بأشياء أرضية محسوسة كقوله تعالى: (يابني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا).فإن الإنزال هنا يعني الإظهار والإخراج في الأرض بلا شك، وكيف لا ولله ملك السماوات والأرض وإذا أراد شيئا قال له كن فيكون، وكذلك قوله تعالى في سورة الزمر مخاطبا بني آدم: (خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون) [الزمر:6]. ¶ هل الأنعام أنزلت؟ وكيف أن المراد أظهرت وأخرجت بكلمة كن التي يتكون بها كل شيء فالله له الملك لا إله إلا هو الحي القيوم وبيده ملكوت كل شيء وسر كل شيء ولا يعجزه شيء؟ وبهذا العلم والقدرة والحكمة والخبرة قال في سورة الحديد: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز) [الحديد:25]. فهل الحديد كما يقول بعض السطحيين جاءنا منزل من أعلى إلى الأرض أو من نجم يتوفر فيه الحديد أكثر من الأرض كما يقول بعض السطحيين؟ كلا، بل إن الحديد أظهر للناس في الأرض وبقدرة الله الذي يقول للشيء كن فيكون ومن خزائنه التي هي العلم والقدرة وسرعة الحساب في التكوين فبعلمه وقدرته أظهر الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليبتلي الناس كيف يستخدمون هذه البأس هل للحق أم للباطل. هل لله أم للطاغوت، ولكنه مع ذلك (قوي عزيز) فهو لا يعجزه شيء وهو الغني عن كل شيء وهو الغالب على أمره وكل شيء إليه فقير وبه مقهور. ¶ وعلى هذا المعنى يحمل إنزال القرآن وبه يحمل تساؤل المفسرين عن قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر). كيف قال أنزلناه في ليلة القدر مع أنه أنزل على فترة ربع قرن؟ ثم حاولوا حل الإشكال، والإجابة على السؤال، بأن القرآن أنزل إلى السماء الدنيا دفعة واحدة في ليلة القدر ثم استمر جبريل يتنزل به على الرسول بحسب ما استجد من أحداث وأمر، وهذا كلام لا يصح في حق الله الذي يعلم السر وأخفى، والذي له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، ولا يليق بمن يعلم ما نسر وما نعلن، بل القرآن كان يتنزل بعلمه في كل حال وزمن، عاشه الرسول المؤتمن. وإذن فالمراد بكلمة "أنزلناه" أظهرناه في ليلة القدر وهكذا تحمل الآية التي تقول: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) [البقرة: 185]. فإنها تعني أن شهر رمضان كان موعدا لإظهار القرآن فشهر رمضان أظهر فيه القرآن وقد كان ذلك في ليلة منه هي ليلة القدر وهكذا يتضح الأمر. ولتأكيد أن المراد بالإنزال الإظهار نجد الله يقول عن الرسول: (فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) [الأعراف:157]. فهل محمد الرسول أنزل حتى يكون النور منزلا معه؟ الحقيقة أنه أظهر وأخرج للناس وأمته والمتبعون له هم خير أمة أخرجت للناس ودين الحق هو الذي أظهره الله. ولهذا يقول الله في سورة الطلاق: (فاتقوا الله ياأولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا(10) رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات..) [الطلاق: 10-11]. فالذكر هو القرآن وها هو قد أبدل منه الرسول فكلاهما منزلان فكيف يكون الرسول منزلا وهو معنا في الأرض؟!إن المراد ظهوره وقيامه بالإنذار، وهكذا فإن النور قد ظهر معه، ولهذا فهو يتلو آيات الله مبينات. (ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا) [الطلاق: 11]. ولتأكيد ما أقول تعالوا نقرأ آخر سورة الطلاق، وكيف يصف الله نفسه بأنه العليم الخلاق: (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما) [الطلاق:12]. أسمعتم؟! أفهمتم؟! فهو الخلاق العليم وكل شيء في السماوات والأرض يسير بأمره وسائر على هداه المستقيم وكيف لا فهو القدير على كل شيء ، المحيط بكل شيء وهو العلي العظيم. وبهذا فإن كل ما يتنزل إنما هو إظهار للموجود، من الغيب إلى المشهود، فالله ذو العرش المجيد، فعال لما يريد؛ (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون(82)فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون(83)) [سورة يس]. ¶ انتهى بعون الله،،،
مفردة الرحمن
بسم الرحمن نبدأ المشوار في فهم بعض مفردات القرآن، وعلى نور الله الهادي نبدأ المشوار إلى المراد، لنبدأ باسم من أسماء الله تعالى التي حار حولها المفسرون ولم يدركوا معناها الحقيقي العظيم، فما هي هذه الكلمة يا ترى؟ إنها الرحمن !!!
هل تظنون أنها مشتقة من الرحمة؟ هذا ما توهمه المفسرون، قال الزمخشري في معناها [الرحمن: فعلان من رحم كغضبان من غضب]، ثم قال: [وفي الرحمن من المبالغة ما ليس في الرحيم]، ولذلك قالوا: [رحمن الدنيا والآخرة]. هذا ما قاله الزمخشري شيخ المفسرين اللغويين ومثله قال الكثير من قبله ومن بعده.
ونحن نؤيد ما استشهد به من قولهم: [رحمن الدنيا والآخرة]. لكن لا على الأساس المشتق من رحم، بل على معنى آخر هو مختلف عن ذلك كثيرا ومدلوله أهم، فهو [رحمن الدنيا والآخرة]، يعني: المدبر والمسيطر والمهيمن في الدنيا والأخرى، فهو يدبر الأمر فلا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ولا يعزب عنه شيء فيهما، وهو يحكم في الحشر فلا يظلم ولا ينسى ولا يخطئ في الحكم ولا يغوى وكيف لا وهو يعلم السر وأخفى. هذا ما نفهمه من قولهم: [رحمن الدنيا والآخرة].
قد تسألون، وكيف فهمت ذلك؟ ومن أين لك هذا التفسير؟ لا تعجلوا، وتعالوا معي نمعن النظر والتفكير في السؤال :
لنبدأ من آخر سورة الإسراء: (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى) إذن فالرحمن اسم لله وليس صفة من الصفات مثل الرحيم. والإسم يدل على عدة صفات وميزات وسمات سواء في ذلك [الله أو الرحمن]، كلاهما تندرج تحته كل أسماء الله الحسنى، إلا أن الأول يختص بصفات الألوهية والثاني بصفات الربوبية، ولهذا اجتمعا في البسملة (بسم الله الرحمن الرحيم). ثم لنتأمل هذه البسملة وهي آية تكررت في القرآن مائة وأربع عشرة مرة. لنتأملها على ضوء غيرها من الآيات، فهل تجدون آية من آيات القرآن تختم بإسمين أو صفتين من صفات الله مترادفتين في المعنى؟ كلا. ولنأخذ مثلا ما يلي:- العلي العظيم- العزيز الحكيم- الغفور الرحيم- العفو الغفور- السميع البصير- اللطيف الخبير- الغني الحميد- الغفور الحليم- العليم الحكيم. . الخ. أرأيتم اسمين أو صفتين في هذه مترادفتين في الدلالة؟ لعلكم تقولون لا لم نجد فكل اسم أو صفة يغاير الآخر. وإذا كان الأمر كذلك بالدليل القاطع والمثال الساطع في كل سور القرآن والآيات والمقاطع، فإن اجتماع صفتين مترادفتين في البسملة ممنوع لمن له دراية، فهي أهم آية، وبها تحسن البداية، وتتكرر بعد كل نهاية.
إنني أقول وأنتم قد تقولون معي: إن اجتماع صفتين في هذه الآية الهامة الصغيرة التي تعتمد على الإيجاز يتعارض مع أبسط أساليب البلاغة والإعجاز. وهذا لا يليق بجلال الله القادر على كل شيء والذي أنزل القرآن تبيانا لكل شيء. وإذن فلا بد أن يكون للرحمن معنى آخر غير معنى كلمة [الرحيم] فليسا في الدلالة متحدتين بل متغايرتين. قد تقولون: وإذن فماذا تعني [الرحمن]؟إن لها معنى أشمل وأوسع وأعظم وأقوى وأهم.
لا تعجلوا وتعالوا نقرأ من سورة مريم: (قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا) فهل يصح لغويا ومعنويا وبلاغيا أن يستعيذ المستعيذ بما له معنى الرحمة واللطف والحنان، أم بما له معنى القوة والقدرة والسلطان؟ لا شك أنكم تؤيدون المعنى الثاني. إذن فالرحمن هنا لا تختص بالرحمة ولكن بالقوة والقدرة. ثم تعالوا نواصل القراءة في نفس السورة بشكل سليم يبحث عن المعنى المستقيم، فنصل إلى قول إبراهيم: (ياأبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا) فهل يمكن أن يعذب الرحيم؟! وهل معنى الرحمة يتفق مع العذاب الأليم؟ كلا كلا. بل إن العذاب لا يكون إلا من القوي الشديد ذي العرش المجيد، الفعال لما يريد.
Página desconocida