إن الله يريد الصلاح في الأرض وإن الله يريد لمن يسكن الأرض أن يعمل الصالحات وأن يلتزم بالسعي المعتمد على الإيمان بالله واليوم الآخر. فالمؤمن بذلك لا يمكن إلا أن يصلح في الباطن والظاهر. وبالتالي فلا خوف عليه ولا حزن بل لا يأتي منه ضرر لنفسه ولا للآخر. والأمن من الخوف والنجاة من الحزن والبعد عن الضرر هو مبتغى كل البشر، ولكن الناس لا يهتدون إلى طريقه الصحيح، يبحثون عنه في العدوان والطغيان، ويظنون أن ذلك هو الأمان، مع جهلهم أن ذلك هو الخسران، وأن الطريق إلى الأمان هو الإيمان بما أنزل الرحمن، وعدم الشرك به وهذا هو الاطمئنان.
وليصل الإنسان بالشكل الذي يعرفه في ملته وبالأسلوب الذي توارثه في أمته، أما التمسك بشكلها الخاص عند المسلمين فهذا فهم غير صحيح ولا يليق بأهل الإيمان. وعليه فالصلاة ليست إلا هيئة خاصة ولحظات مخلصة يقف فيها العبد ليعلن عهدا أمام الله أن يستمر على سبيله يعمل العمل الصالح الذي يرضاه ويميل عن الفساد في الأرض الذي لا يحبه الله، وهذا هو اللب الحقيقي للدين، هو المعنى الصحيح لصلاة المؤمنين في كل مكان وحين، وفي الأولين والآخرين.
إن الناس مأمورون عبر الأنبياء أن يعبدوا الله ويؤمنوا باليوم الآخر، ولنستمع إلى رب العالمين وهو يوحي إلى موسى خلاصة رسالته وأساس مهمته وهو وحي يتلقاه في أول لحظة من نبوته: (وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى(13)إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري(14)). هذا أولا ثم ماذا؟ (إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى(15)فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى(16)) [سورة طه: 13-16].
فالصلاة إنما أقامها للاستقامة على ذكر الله في كل حين والدوام على طاعته مقرونا هذا باليقين بالساعة وبالجزاء على كل ما يسعى الإنسان، فإن ذلك هو صمام الأمان، للاستقامة على التقوى، وعدم اتباع الهوى.فإذا نسيها الإنسان فإنه يفسد في الأرض وفي اللظى يتردى، وهكذا فإن العمل الصالح هو النتيجة لذكر الله، وهو الثمار للصلاة، كما أن حارس العمل الصالح هو الإيمان بالأخرى. فإذا تحقق ذلك فقد أصبح الناس في أمان فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وهذا هو المطلب الأسمى لكل الناس المؤمنين بل للناس أجمعين.
ولكن الغافلين عن ذكر الله يحيدون عنه ويبحثون عن الأمان في الخوف والحزن واتباع الهوى، ويحسبون أنهم يحسنون صنعا، ولا يعلمون أن هذا هو الخسران وهو الخوف والحزن الدائم في الدنيا والأخرى. إن الصلاح والعدل في الأرض يصلح الدنيا والأخرى؛ لكن الفساد والظلم يفسد الدنيا والأخرى.
ولهذا فإن مهمة كل رسول هي إصلاح سلوك الناس في كل فعل وقول وصمت ونطق وإصلاح علاقاتهم بالحب والتعاون فلا ظلم ولا بغضاء، ولا يعبد بعضهم بعضا، وما الشعائر الدينية إلا وسيلة لتحقيق هذه الغاية النبيلة. فلتقم الشعائر بأي الصور ما دامت تؤدي إلى النهي عن الفحشاء والمنكر، وتؤمن الناس من الخوف والحزن والضرر، هذا هو الأساس المعتبر، في كل رسالة ولكل رسول تقدم أو تأخر.
أما لو تمسكنا بالأشكال والمظهر فإن هذا سيؤدي حتما إلى أن نقول أن نوحا وهودا وصالحا وشعيبا ومن بعدهم من الرسل والأنبياء ، وأن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وداوود وسليمان وعيسى كل هؤلاء أعمالهم باطلة وإيمانهم ناقص وسلوكهم غير صحيح وغير صالح؛ لأنهم كانوا لا يصلون الصلاة التي يصليها الآن المسلمون ولا يقرؤنها بالشكل الذي عرفناه من الرسول محمد خاتم النبيين، وهذا قول خطير، وإثم كبير، كيف لا والله يقول في سورة الأنعام بعد أن أورد أسماء هؤلاء الأنبياء، يقول لرسوله الخاتم: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) [الأنعام:90]. ويقول عن إبراهيم: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين) [البقرة:130]. ويقول للمدعين من أهل الكتاب أنهم على ملة إبراهيم: (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) [البقرة:135]. ثم يدعوهم إلى اتباعها مع المسلمين ويقول لهم جميعا: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) [البقرة:136].
وهكذا تتواصل التأكيدات على أن ملة الأنبياء واحدة، وأن عملهم الصالح هو الأساس في الفلاح في الدنيا والآخرة، ويعلن أن كل أحد مسئول عن عمله وبه يرتفع، فالأنساب لا تنفع بدون اتباع ، فلا ينفع اليهود أنهم من نسل إبراهيم: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون) [البقرة:141]. ولست بحاجة إلى إيراد الآيات المماثلة لهذه المؤكدة أن العبرة بالعمل الصالح والإخلاص فذلك واضح لمن تدبر الآيات ببصيرة. لكني أختمها بقوله تعالى مخاطبا رسوله محمد خاتم النبيين: (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) [النحل: 123]. وما ملة إبراهيم إلا أنه لا يشرك بربه أحدا، ويتبرأ من قومه وأبيه أبدا، ما داموا لله أعداء.
لعل الكلام قد طال في الجواب على السؤال؛ ولكن الموضوع هام، والبيان واجب على من أراد إيضاح المراد والمرام، وما هو المرام وما هو المراد؟ إن المراد هو أن أهل الكتاب الصالحين المؤمنين بالله وباليوم الآخر والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والمسارعين في الخيرات هم عند الله من الصالحين المتقين وهم من الأبرار الخيرين: (وما يفعلوا من خير فلن يكفروه) وهو وعد جميل.. لماذا؟ لأن الله يعلم بمن ضل ومن اتقى، ولا يظلم ربك أحدا، ولهذا ختم الآية بقوله: (والله عليم بالمتقين) [آل عمران:115]. بل إن الله يعد هؤلاء المتميزين من أهل الكتاب بأجر عظيم ويقول: (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما) [النساء: 162].
بهذا أكتفي في القضية ويكفي أن أقول في الختام أن على المسلم أن لا يعلن لكل مخالف له الخصام بل يتبين حتى يفصل بين الناس بما يليق بأهل الإسلام.
Página desconocida