الخلط بين المبادئ في المجالات المختلفة قد يؤدي إلى ضرر جسيم، انظر إلى ما حدث عندنا منذ قريب حين حكم على كتاب الفتوحات المكية لابن عربي على المبدأ الديمقراطي، وهو الأخذ بأكثرية الأصوات، وتذكر ما حدث عندنا أيضا منذ بضع سنوات حين جعلنا أساس الاختيار للمناصب العليا، الولاء وليس الكفاءة، والأمثلة كثيرة على وضع المبدأ المعين في غير مجاله فينتج الضرر، فلو احتكمنا إلى المبدأ الديمقراطي، وهو عد الأصوات، في الحكم على العلماء - مثلا - لجاز أن نقع في مثل الخطأ الذي وقعت فيه أكثرية الأصوات عندما حكمت على طه حسين بعدم الصلاحية للعمل بالجامعة، وعندما حكمت على الشيخ علي عبد الرازق بأن يمحى اسمه من قائمة العلماء، وعندما حكمت على كتاب الفتوحات المكية بأنه غير صالح للنشر، وكذلك لو احتكمنا إلى مبدأ الكفاءة وحده لفعلنا ما فعله أهل إسبرطة قديما، عندما كانوا يعرضون ضعاف الأطفال والشيوخ للصقيع فوق الجبل ليموتوا، ولو احتكمنا إلى العطف الأسري وحده، لاستمعنا إلى الوساطات في إدارة شئون الوطن صغيرها وكبيرها على السواء.
فلماذا نتمسك بوحدانية المبدأ، إذا كانت حياتنا تتطلب عدة مبادئ في وقت واحد، شريطة أن نحصر كل مبدأ منها في مجاله؟ إن تعدد المبادئ في هذه الحالة لا يلزم عنه التناقض، بل ينتج لنا ضرب من التكامل يدنو بنا نحو الكمال.
الفلسفة خارج الأسوار
تسعة قراء من كل عشرة، لم يسمعوا من الفلسفة إلا اسمها، دون أن يعرفوا من مضمونها كثيرا أو قليلا، وبالتالي فهم لا يعرفون شيئا عما يؤديه الفكر الفلسفي في حياة الناس الثقافية، وأن أمر هذا الفكر الفلسفي فيما يؤديه، لا يقتصر على أمة دون أخرى، ولا على عصر دون عصر؛ فتاريخ الحياة المتحضرة لم يشهد يوما واحدا كان للإنسان فيه علم أو فن أو عقيدة، ولم يكن له إلى جانب أي منها فلسفته التي تكشف عن مبادئه الأولى والتي كثيرا ما تخفى في لفائف الحياة الثقافية كما يحياها الناس. ثم يتغير العلم مع مر الزمن، ويتغير الفن وتتغير العقيدة، نتيجة لتغير تلك المبادئ الأولى، فيتغير المناخ الفلسفي بطبيعة الحال؛ لأن التلازم وثيق بين اتجاهات الثقافة السائدة من جهة وفلسفتها من جهة أخرى، ولكن تسعة قراء من كل عشرة لا يدهشهم أن تتغير مبادئ العلم أو الفن أو العقيدة، أما إذا غيرت الفلسفة مناخها ومذاهبها تبعا لذلك، استنكروا منها هذا التغير؛ لأنهم يجهلون طبيعتها وطبيعة الدور الثقافي الذي تؤديه، ولولا هذه العروة الوثقى التي تربط جوانب الثقافة المتباينة، ربطا يجعلها ذات كيان واحد، لما جاز لنا أن نسمي الفترة الزمنية المعينة من فترات التاريخ «عصرا»؛ لأنه في هذه الحالة تصبح الجوانب الثقافية أشتاتا متناثرة ومتعارضة، ويصبح من العسير بل من المستحيل، على مؤرخ أن يقص علينا قصة التاريخ في أية ناحية من نواحي الحياة الإنسانية، لكن الأمر الواقع غير ذلك؛ فهنالك «عصور» تتوالى إذا ما نظرت من بعيد إلى كل عصر منها، رأيت ملامحه الرئيسية واضحة، تخلع عليه وحدانية الكيان، ألست تتصور صورة ثقافية موحدة برغم كثرة تفصيلاتها، إذا قلت لك: «مصر في عصر الفراعنة»، «العصر اليوناني القديم»، «العصر الإسلامي حتى القرن الرابع الهجري»؟
فما الذي وحد كلا من تلك العصور في صورة متلاحمة الأجزاء؟ وحدها أن الحياة الثقافية في كل منها كانت مرتكزة على مبادئ معينة، والذي يكشف لنا عن طبيعة تلك المبادئ الدفينة هو فيلسوف العصر أو فلاسفته؟ ومن هنا تصبح الرابطة قوية بين النشاط الفلسفي في عصر ما، وسائر أوجه النشاط في ذلك العصر، وإذا لم تنكشف المبادئ الخبيئة في ثنايا الحياة اليومية، بقي الناس ناشطين في تلك الحياة، ولكن بغير وجهة نظر لهم يكونون على وعي بها.
ومهما اختلف الفلاسفة في مناهجهم التي يلتزمونها عند تحليلهم لثقافات عصورهم واستخراج مبادئها من الخفاء إلى العلن الصريح، فهم يتفقون جميعا على نوع من النشاط الذهني يضطلعون به، وقد يقتصر عليه بعضهم، وقد يضيف إليه آخرون، وأعني به الوقوف عند المعاني المحورية الهامة التي تستقطب جزءا من حياة الناس؛ فهم يقفون عند تلك المعاني الرئيسية في حياة أبناء العصر المعين، ليحللوها تحليلا يوضح محتواها، ويبين ما يستكن في ذلك المحتوى من التناقض إذا وجد، وذلك حتى يكون الناس على هدى إذا هم يسيرون على ضوء تلك المعاني.
كان هذا التحليل للمعاني الشائعة هو ما فعله سقراط صراحة، حين أخذ يطوف في المحافل والأسواق، يسأل صاحب الفن المعين ماذا يعرف عن معناه، ويسأل صاحب العقيدة المعينة ماذا يعرف من مقوماتها، وهكذا طفق يسأل كل إنسان عن معنى ما يزعم للناس أنه خبير فيه، حتى انكشفت لسقراط حقيقة مرة وهي أن الناس يزعمون لأنفسهم العلم بما هم في الحقيقة جاهلون بحقيقته.
ولن تجد فيلسوفا لا يضمن عمله وقفات هنا وهناك ليوضح المعاني التي يراها ذات أهمية خاصة في ثقافة عصره؛ فهذا أفلاطون يحلل في استفاضة معاني العدل والحكمة والشجاعة والعفة والجمال وغير ذلك، وهذا أرسطو يحلل في استفاضة كذلك معاني الصدق العلمي وفكرة السببية والحركة والمكان والشعر وغير ذلك، وانظر إلى فلاسفة المسلمين كم أنفقوا من جهد في تحديدهم لمعاني التوحيد والإرادة والعدل والإيمان والكفر وغيرها، ولا ينفي وقوف الفيلسوف عند معاني عصره الهامة ليحللها توضيحا لها، أن يكون لذلك الفيلسوف بناؤه الفلسفي المتماسك الذي ترد فيه تلك المعاني عناصر في قوامه.
فمن الحقائق العجيبة في حياة الإنسان الفكرية بصفة عامة، أنه يهتدي بمجموعة من التصورات التي لا هي معلومة له كل العلم ولا هي مجهولة له كل الجهل؛ فهو حيالها يقف موقفا وسطا بين علم وجهل (وهو لا يدري عن نفسه هذه الحقيقة) دون أن يعرف على وجه التحديد كم علم من الأمر وكم جهل. ولما كانت تلك المجموعة الرئيسية من التصورات ذات أهمية بالغة في حياته تراه يغضب أشد الغضب إذا بينت له - ولو من بعيد - كم هي غامضة المعاني في ذهنه تلك التصورات، لكن الفلسفة من شأنها أن تهجم على ما قد غمض معناه لتلقي عليه الضوء بعد تحليل قد يبلغ من الدقة ما يجعل القراء ينصرفون عنه مستنكرين متهكمين.
إن الناس بإزاء تلك المعاني الغامضة (التي يحسبونها واضحة وما هي بواضحة) إنما يرونها من بعيد فلا يدركون شيئا من تفصيلاتها المعقدة، فهم في ذلك يشبهون الناظرين من بعيد إلى جبل فيرون هيكله الخارجي ويظنونه أملس الجوانب، حتى إذا ما دنوا منه، رأوا فيه ما لم يتصوروا رؤيته من صخور ونبات وحيوان وطير وشراب، وهكذا تفعل الفلسفة بالناس في حياتهم الفكرية، حين تدنيهم من مجموعة المعاني التي يديرون حولها حياتهم تلك في كل جانب من جوانبها.
Página desconocida