Cuitas de los intelectuales

Zaki Najib Mahmud d. 1414 AH
43

Cuitas de los intelectuales

هموم المثقفين

Géneros

لقد لبثت أعواما تغلبني الرغبة في أن أعيش بين الناس وكأنني ظل يتحرك بلا صوت، قد تراه الأعين ولكنه وجود بلا كثافة؟ أو قل إني أردت العيش بين الناس وكأنني القبرة التي كتب عنها «شلي» قصيدته التي قرأها كل من كانت له صلة بالأدب الإنجليزي؛ إذ قال الشاعر عن القبرة إنها صوت تسمعه الآذان ولكنها خافية لا تعرف الأبصار أين مكانها، وكان هذا الخفاء في حياتي أمرا أردته باختياري، فلما أن عطبت العين وحبستني بين الجدران، لم أزدد بذلك خفاء، ولكنه كان هذه المرة خفاء رغم أنني، أردته أو لم أرده؛ ومن هنا كانت الرابطة بيني وبين يونس في محنته:

كان الفساد قد استشرى في المدينة القديمة «نينوى» فلم يعد يربط الناس بعضهم ببعض روابط العدل والرحمة، فقسا على الضعيف من استطاع أن يقسو، وخدع الخادع، ونهب الناهب، واستبد المستبد! فأوحى الله إلى يونس أن قم في أهل «نينوى» مناديا بتقويم ما اعوج من أمرهم، وبإصلاح ما فسد، فما ينبغي لمدينة عظيمة كنينوى، يعمر أهلوها اثنتي عشرة ربوة، ويفيض فيها من نعيم الله ما ملأ بقاعها بالماشية والغنم، ما ينبغي لمدينة عامرة غنية كهذه، أن يسلك أهلها سبل الضلال، وأن يختلط في أعينهم الحق بالباطل، لكن يونس قد هاله هذا العبء الجسيم يلقى على كاهله، فلم يجد بدا من الفرار من أمر الله فترك «نينوى»؛ إذ لو بقي فيها لأرق جنبيه لذع ضميره كلما شهد في المدينة فسادا، وهو الذي أمره الله أن ينهض بتطهيرها من فسادها.

غادر يونس المدينة الفاسدة، وقصد إلى شاطئ البحر عند مدينة يافا، وهناك وجد في المرفأ سفينة أوشكت أن تقلع ذاهبة إلى أقصى الطرف الغربي من البحر الأبيض المتوسط، فيما وراء جبل طارق من الشاطئ الإسباني، وكان ذلك هو آخر الدنيا كما يعرفها الناس يومئذ؛ لأن وراء ذلك لم يكن إلا المحيط الأطلسي المجهول، وإن في ذلك لرمزا واضح المعنى، وهو أن يونس قد أراد أن يباعد بينه وبين نينوى بأطول مسافة تمكنه منها الأرض والبحر، كأنما هو قد أراد بذلك أن يبعد قدر المستطاع عن نداء ضميره له بأن يضطلع بواجبه المقدس في إصلاح الفساد.

ولكن أين المفر من الضمير إذا ألح بالنداء؟ كان يونس وهو يسأل المسافرين والبحارة عن السفينة وطريقها ومقصدها، وهل يجد فيها لنفسه مكانا، كان وهو يفعل ذلك مضطربا يأخذ منه الفزع، حتى لقد أيقن الجميع بأنه ذو خطيئة أراد الفرار من وجه القانون، فأحاطوه بنظرات الريبة، وأخذوا يتساءلون فيما بينهم: أيكون هو قاتل أبيه الذي أعلنت عنه السلطة؟ أم يكون هو الذي سرق مال الأرملة وهرب؟ وكان يونس كلما اصطنع الجرأة والثقة بالنفس ليزيل عن الناس ريبتهم ازداد ربكة، فازداد الناس من حوله ارتيابا.

أقلعت السفينة، ولم تكد تضرب في عرض البحر حتى هبت ريح عاتية، ماج لها البحر واضطرب، وأخذ الموج يعلو بالسفينة ويهبط، ويدفعها إلى هناك ثم يجذبها إلى هنا، وهي مع هذا الدفع تميل بحافتها حتى تمس حافتها سطح الماء، فامتلأت قلوب ركابها فزعا، وأخذوا يتصايحون في هلع ويتخاطبون في رعب وانفعال، وأخذ البحارة يقذفون في البحر بما قد حملته السفينة من أثقال البضائع والأمتعة، لعل حملها إذا ما خف عنها، سلس في أيديهم قيادها، وجثا جميع ركابها ضارعين إلى ربهم أن يزيل عنهم الكرب ويكتب لهم الأمن ...

إلا يونس! فقد كان في نومه العميق، لم توقظه كل هذه الأحداث، فلما جاء ذكره على الألسنة، نزل إليه القبطان وأيقظه في غضب شديد؛ إذ كيف يطيب له نوم والدنيا من حوله هائجة صاخبة؟ وكان ركاب السفينة على يقين بأن النكبة إنما قصد بها واحد منهم أغضب الله بعصيانه، فمن ذا يكون؟ فاتفقوا على رمي القرعة، ومن وقعت عليه كان هو المسئول عما حل بهم من كوارث، وألقوا بالقرعة فوقعت على يونس.

أحاطوا جميعا به، كل يسأله سؤالا: من أنت؟ ما صناعتك؟ من أي بلد أتيت؟ إلى أي شعب تنتمي؟ ماذا فعلت لتغضب الله؟ فلم يطلب يونس منهم الرحمة، بل حثهم على أن يلقوا به في البحر تخفيفا عن السفينة، لقد فطن إلى أن الخطيئة التي حملتها السفينة فيما حملت، والتي أثارت غضب الله، إنما تتجسد في شخصه، وقال لمن وقفوا حوله: لقد أمرني الله بأمر فلم أطعه، وفررت من وجهه أبتغي النجاة مما كلفني به، وجئت إلى مركبكم هذا ليذهب بي إلى حيث الأمان والسكينة، فلا يعرفني أحد ولا أعرف أحدا، اطرحوني في البحر يسكن لكم البحر ويهدأ؛ فهذه الرياح العاتية وهذا الموج الثائر إنما يصيحان في طلبي.

أشفق أصحاب السفينة من فعل ما أذن لهم يونس أن يفعلوه به، وآثروا أن يعودوا بالسفينة إلى البر، لكن موج البحر قد استعصى على مجاديفهم، فالتمسوا من الله عفوا ورحمة، ثم حملوا يونس وألقوه في البحر، فسكن البحر من فوره، وكان الله قد أعد ليونس حوتا ضخما، فابتلعه الحوت، ليستقر يونس في جوفه ثلاثة أيام. فريدة في نوعها هذه الوحدة العجيبة التي فرضت على يونس؛ إذ هو في جوف الحوت، لقد أرادها وحدة يغيب فيها عن حمل التبعات، فهيأ له الله وحدة تبلغ به الحد الأقصى ليشبع وحدة إذا أراد! إنه ليسير على خيالنا أن يتصور الوحدة في مختلف صنوفها، إلا هذه الوحدة العجيبة، يسير على الخيال أن يتصور الراهب وقد اعتزل الدنيا في صومعة يحفرها في صخر الجبل النائي، أو يقيمها بين كثبان القفر البعيد، يسير على الخيال أن يتصور رجل العلم وقد ألهاه علمه عن شئون دنياه، ويسير على الخيال أن يتصور الشاعر أو الفنان وقد ارتضى لنفسه مقاما على ربوة معزولة أو في جوف واد عسيق، مستغنيا بأنس الطبيعة عن كل أنيس من بشر. أما هذه الصومعة الفريدة التي أوى إليها يونس فأمرها عجب، إن ظلامها دامس طامس، ومع ذلك فليست غرابتها في ظلامها؛ فلم تكن معدة الحوت بالفراش الوثير، بل كانت بالطبع ملأى بما يقض الجنوب، وبما يحدث الغثيان بإفرازاته الزلقة وجدرانه الرخوة.

إنها محنة أن تقع القطيعة بين الإنسان والعالم، ترى كيف أحس أولئك الذين ضلت بهم سبيل البر أو سبيل البحر، في يباب قفر، أو أغرقوا في يم لا يسمع أناتهم سامع؟ ومع ذلك فأولئك جميعا كان يؤنسهم ضوء الشمس، أما هذا المصير في هذا الجوف الأعتم فأمره عجب!

كان الله قد هيأ ليونس - وهو في طريق فراره من «نينوى» قاصدا إلى شاطئ البحر - ما كان قميئا أن يعلمه الدرس لكنه لم يتعلم، ذلك أنه كان أنبت عليه شجرة من يقطين (نبات القرع) لتقيه لفحة الشمس، فاستظل يونس باليقطينة نهارا كاملا، وحسب أن سيدوم له ظلها، لكن فجر اليوم التالي لم يبزغ حتى أعد الله لشجرة اليقطين دودا أتى عليها، وتعرض يونس لوقدة الشمس من جديد، وهبت عليه ريح شرقية حارة، حتى أخذ منه اليأس مأخذا آثر معه الموت على الحياة، فهتف به هاتف: أرأيت كم بلغت حسرتك على يقطينة لم تكن أنت منبتها؟ إنك لم تنعم بها أكثر من يوم واحد، أفلا يكون أولى بالحسرة أن ترى مدينة عظيمة مثل «نينوى» يدب فيها الفساد فتتهاوى بعد أن تعاونت القرون المتعاقبة على بنائها؟

Página desconocida