واعلم أنه لا منافاة بين ما نقل من الإجماع على جواز صلاة المعذورين الجمعة والاجتزاء بها عن الظهر في حقه، وبين ما نقل من الأحاديث الدالة على رفع وجوبها عنهم؛ وبيان ذلك أن الأحاديث الرافعة للوجوب لا تدل على منع الجواز وعدم الاجتزاء، وقد ثبت بأدلة أخرى الأمر بإتيان الجمعة والسعي إليها، فعمومات هذه الأدلة يدخل تحتها المعذور وغير المعذور، والأدلة الرافعة لوجوب الجمعة عن المعذورين إنما هي مبينة لتلك الأدلة الدالة على الوجوب فارتفع بها الوجوب عن المعذورين وبقي الجواز من عمومات أدلة الأمر بها، والله أعلم.
واعلم أيضا أن نظر صاحب الإيضاح كابن بركة إنما يتوجه على صلاة النساء والعبيد والمريض دون صلاة المسافر، فإنه لا يقصر من صلاته شيئا، والله أعلم.
وبقي هنا إشكال؛ وهو أن يقال: إن ابن بركة حكى على ذلك إجماع الأمة، والإجماع أحد أدلة الشرع، فكيف له أن يخالف الإجماع إلى ما وقع في نفسه؟
ويجاب عن هذا الإشكال بأن الإجماع الذي هو أحد أدلة الشرع، وبه يقطع عذر من خالفه إنما هو الإجماع القطعي؛ وهو أن يفتي أو يعمل جميع علماء الملة بشيء ويتبعهم على ذلك باقي الأمة، فأما إذا أفتى أو عمل بعضهم وسكت الباقون فلا يكون هذا إجماعا يقطع به عذر من خالفه. وكأن الإجماع الذي نقله ابن بركة إنما هو الإجماع السكوتي لا الإجماع القطعي، بدليل عبارته عنه في الموضع الثاني بالاتفاق، على أن ابن بركة سلم الأمر لما نقله من الاتفاق ورجع إليه، وكذا صاحب الإيضاح أيضا، بدليل قول كل واحد منهما: ولا حظ للنظر مع الاتفاق، فيكون ما أشار إليه كل واحد منهما إنما هو إظهار أن المقام مقام اجتهاد وتجويز للقول بالرأي في ذلك، والله أعلم.
[إمامة العبد والمسافر في الجمعة وغيرها]:
Página 63