<14> قال الحبر: وهذا الذي كنت أخافه عليك من الانخداع وسكون النفس إلى آرائهم لما صح عنهم البرهان في العلوم الرياضية والمنطق طابت النفوس على كل ما قالوه في الطبيعة وفي ما بعد الطبيعة، وظن أن كل ما قالوه برهان، فهلا شككت في دعاواهم في الأربعة عناصر أولا، وطلبتهم بعالم النار الذي يدعون أن هناك النار الأثيرية لا لون لها فيمنع لون السماء والكواكب، ومتى أدركنا نحن نار عنصرية بل كيفية حارة في الغاية إن حلت أرضا كانت جمرا وإن حلت هواء كانت لهيبا وإن حلت ماء كانت مغلي. ومتى شاهدنا جسما ناريا وهوائيا داخلين في مادة النبات والحيوان حتى نقضي أنه مركب من الأربعة كلها نار وهواء وماء وأرض، هب أنا أدركنا الماء والأرض واستخالتهما ودخولهما في مادة النبات وللهواء ولحرارة الشمس معونة في الكون بطريق الكيفية لا بجسم نار ولا بجسم هواء، أو متى رأيناها تنحل إلى الأربع بأعيانها أن أحنل جزء إلى شبيه التراب فليس ترابا بل رماد يصلح لدوء ما. والجزء المنحل إلى شبيه بالماء فليس بماء لكن عصاره أو رطوبه سميه أو غذائية لا ماء شروب. والجزء المنهل إلى شبيه بالهواء كان بخارا أو قتارا لا هواء يصلح أن يتنفس به. وهذه أيضا ربما استحالت إلى حيوان أو إلى نبات أو انعقجت في أجزاء الأرض، وصارت من استحالة إلى استحالة، وفي النادر يقع لها الاستحالات إلى عنصر خالص. نعم أن يعد التتبع يخرج لنا الإضطرار بالقول بالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة وأنها كيفيات أول إذ لا يخلو منها أو من وسائطها جسم من الأجسام وأن العقل يحل المركبات إليها ويركبها منها ويضع لها جواهر حاملة فيقول نارا وهواء وماء وأرضا بالتصور والقول لا بأنها كانت قط بسيطة خارج الذهن وتركب منها كل مكون، وكيف يقولون هذا وهم يقولون بالقدم، فلم يزل الإنسان متكونا من منى ودم، والدم من الأغذية والأغذية من النبات، والنبات كما قلنا من بزور، والماء الذي يستحيل غذاء مشاكلا له بمعونة من الشمس والهواء والأرض. نعم ولجميع الكواكب ونسب الأفلاك تأثير ومعاون فيه، فهذا الشك في العناصر على رأيهم.
وأما على رأي الشريعة فإن الله قد اخترع العالم كما هو وحيوانه ونباته مصورا، فلم يحتاج إلى تقديم بسائط وتركيب مركبات. وفي إيجاب الحدت تسهيل كل صعب وتوطئة كل متعذر إذا تخيلت أن هذا العالم لم يكن، ثم كان بمشية الله حين شاء وكيف شاء لم تشق في البحث كيف تكونت الأجسام، وكيف ارتبط بها النفس، ولم تشمز نفسك من قبول الרקיע وהמים אשר מעל השמים، والشياطين التي تذكرها الأحبار، والأخبار المنتظرة من ימות המשיח وתחית המתים وהעולם הבא. فما حاجتنا إلى هذا التحيل في بقاء النفس بعد فناء الجسد. والمخبر الصادق المقلد قد حقق عندنا المعاد ودعها تكون روحانية أو جسمانية. وإن تتبعت طريق المنطق لإثبات الآراء فيها ولإحالتها فنى العمر دون نتيجة، ومن لنا بصحة ما أوردنا بأن النفس جوهر عقلي لا يتحيز بمكان ولا يدركه كون ولا فساد، وبما ذا تتميز نفسي عن نفسك، أو عن العقل الفعال وسائر العلل، والعلة الأولى، ثم كيف لا تتحد نفس أرسطوطاليس ونفس أفلاطون ويدري كل واحد منهما صاحبه ومعتقده وضميره وجميع الفلاسفة، ثم كيف لا يعقلون معقولاتهم دفعة واحدة كما هي عند الله وعند العقل الفعال، وكيف يدركهم النسيان، ولم يحتاجون إلى فكر في معقولاتهم جزئا بعد جزء. ثم كيف لا يجد الفيلسوف نفسه إذا نام وإذا سكر وإذا تبرسم وإذا أصابته ضربة في دماغه وإذا شاخ وهرم، وما الذي نقضي على من بلغ علم الفلاسفة وعرضه وسواس سوداني أو برسام نفسي ونسى جميع علمه، أليس ذاك هو هو بعيه أم نقول أنه غيره، ثم نفرض أنه برئ من علته بتدريج وجعل يتعلم من قبل وشاخ ولم يدرك العلم الأول. هل تصير له نفسان مفارقتان الواحدة دون الأخرى. ثم نفرض أن تبدل مزاجه إلى حب الغلبة والشهوات، أنقول أن له نفسا في النعيم ونفسا في العذاب؟ وأي الحدود من العلم هو الذي تصير به نفس الإنسان مفارقة للجسد غير تألفه. إن كان بجميع علم الموجودات، فكثير ما يبقى على الفيلسوف لا يدريه مما في السماء وفي الأرض وفي البحر. وإن كان يقنع بالبعض فكل نفس ناطقة مفارقة. لأن المعقولات الأولى مغروزة فيها. وإن كان إنما تفارق النفس بتصور المعقولات العشر وما فوقها من مبادئ الفكر وتنحصر فيها الموجودات كلها بأن يأخذها منطقية دون تقص لجزئياتها، فعلم قريب يدرك من يومه وبعيد أن يصير الإنسان ملكا من يومه، وإن كان ولا بد من تقصيها والإحاطة بها منطقية وطبيعية فأمر غير مدرك فهو تألف هالك لا محالة على رأيهم.
ولقد انخدعت لخيالات فاسدة وطلبت ما لم يمكنك منه خالقك ولم يجعل في غريزة البشر إدراكه بقياس لكن جعل غلك في غريزة المصطفين من صفوة الخلق بالشرائط التي ذكرناها تحصل لهم تلك النفوس التي تتصور العالم بأسره وترى ربها وكلائكته وترى بعضها بعضا ويعلم بعضها ضمائر بعضها كما قال גם אני ידעתי החשו، ونحن لا ندري كيف ذلك وبما ذا، إلا أن يأتينا من طريق النبوة. ولا كان علم الفلاسفة في ذلك حقا لأدركوها، إذ يتكلمون في النفوس وفي النبوة وهم كسائر البشر. نعم أنهم فضلوا بالحكمة الإنسانية كما كان يقول سقراط لأهل أتينيا، يا قوم أني لست أنكر حكمتكم الإلهية، لكني أقول أني لست أحسنها، وأما أنا حكيم بحكمة إنسانية . وأنهم لمعاذير لما لجوا إلى قياساتهم لعدم النبوة والنور الإلهي عندهم، أتقنوا العلوم البرهانية إتقانا لا غاية وراءه، وانفردوا لذلك ولا خلاف بين شخصين في تلك العلوم، ويكاد ألا اتفاق بين شخصين في ما تكلفوا بعد ذلك من الآراء في ما بعد الطبيعة. نعم وفي كثير من الطبيعة وإن وجدت جملة متفقين على رأي واحد، فليس ذلك لبحث ونتيجة وقف عليها رأيهم، بل أنهم شيعة أحد المتكلمين يقلدونه. كشيعة فيتاغورا وشيعة أبندقليس وشيعة أرسطوطاليس وشيعة أفلاطون وغيرهم، وأصحاب المظلة والمشائين وهم من شيعة أرسطوطاليس، ولهم في المبادئ آراء تسخف العقل ويسخفها العقل، كتعليلهم في دوران الفلك أنه يطلب كمالا ينقصه ليكون محاذيا لكل جهة، ولما لم يمكن ذلك دائما ولكل جزء طلبه على التعاقب. ومثل تخرصهم في الفيوض الفائضة عن الأول تعالى، وكيف لزم عن العلم والأول ملك، وعن العلم بنفس فلك، وتدرجت إلى י"א رتبة ووقفت الفيوض عند العقل الفعال، ولم يلزم عنه لا ملك ولا فلك. وأشياء هي في الإقناع دون ספר יצירה. وفي جميع ذلك الشكوك، ولا اتفاق بين فيلسوف وصاحبه، لكن يعذرون على كل حال ويشكرون على ما انتجوا من مجرد قياساتهم، وقصدوا الخير، وعملوا النواميس العقلية وزهدوا في الدنيا، فهم على كل حال مفضلون إذ لا يلزمهم قبول ما عندنا، ونحن يلزمنا قبول المشاهدة والتواتر الذي هو كالمشاهدة.
<15> قال الخزري: عسى نكت مختصرة من الآراء التي تخلصت عند الأصوليين وهم المسمون عند القرائيين بأصحاب علم الكلام.
<16> قال الحبر: لا فائد في ذلك غير التحذق في الكلام، والعون على ما قيل הוי זהיר ללמוד מה שתשיב את אפיקורוס. لأن العالم الساذج كالأنبياء مثلا قليلا ما يقدر أن يفيد أحدا بطريق التعليم ولا يرد على مسألة بطريق الكلام، وصاحب الكلام يظهر عليه رونق علم حتى أنه يفضله السامع على ذلك الساذج الخير الذي علمه عقائد لا يصرفه عنها صارف. وغاية ذلك المتكلم في كل ما يتعلمه وما يعلمه أن يحصل في نفسه وفي نفس متعلميه العقائد التي في نفس ذلك الساذج المطبوع. وربما أفسد علم الكلام كثيرا من عقائد الحق عليه بما يورده من الشكوك والآراء المنتقلة، كالذين نراهم من الذين يقريون الأعاريض ويدققون وزنها، ونسمع جعجعة وكلمات حائلة في علم هين على المطبوع يذوق وزن الشعر ولا يجوز عليه زحف بوجه. وغاية أولئك أن يصيروا مثل هذا الذي يظهر جاهلا بالعروض لأنه لا يقدر أن يعلمه، وأولئك يقدرون على تعليمه. نعم وإن هذا المطبوع يعلم مطبوعا آخر بأقل إشارة وكذلك القوم المطبوعون للتشرع والتقرب إلى الله تعالى نتقدح في نفوسهم شرارات من كلمات الأخيار وتصير لهم أنوار في قلوبهم. وغير المطبوع هو الذي يحتاج إلى علم الكلام، وربما لم ينفعه ، بل ربما أضر به.
<17> قال الخزري: لم أطالبك بما يجال في هذا المعنى وإنما أطلب نكتة أصولية في الدين تذكره لي، إذ قد قرعت سمعي وتشوقت نفسي إليها.
<18> قال الحبر: فأول ما ينبغي إثبات الحدث للعالم، القول في إبطال قدم العالم، إن كان الماضي لا أول له فالأشخاص الموجودة في سالف الدهر إلى وقتنا هذا لا نهاية لها. وما لا نهاية له لا يخرج إلى فعل، فكيف خرجت تلك الأشخاص إلى الفعل وهي لا نهاية لها كثرة، لا محالة أن للماضي أولا وللأشخاص الموجودة عددا يتناهي، لأن في قوة العقل أن يعد ألافا وألاف ألاف مضاعفة إلى ما لا نهاية له، هذا في القوة، وأما أن يخرجها إلى حد الفعل فلا. لأن ما يخج إلى الفعل يعد واحدا، فذلك العدد الخارج إلى الفعل ذو نهاية لا محالة، وأما ما لا نهاية له فكيف يخرج إلى الفعل، فللعالم إذا ابتداء، ولدورات الفلك عدد متناه، ومن ذلك أن ما لا نهاية له لا نصف له ولا ضعف ولا نسبة عددية، ونحن ندري أن دورات الشمس جزء من اثنى عشر من دورات القمر. وكذلك سائر حركات الأفلاك بعضها عند بعض فيصير هذا بعض هذا، وليس في ما لا نهاية له بعض، فكيف يصير هذا مثل ذاك لا نهاية له وهو دونه أو فوقه، أعني أنه أزيد عددا أو أنقص عددا. ومن ذلك كيف انتهى ما لا نهاية له إلينا، إن كان قبلنا من الخلق ما لا نهاية لعددهم، فكيف انتهى العدد إلينا، وما تناهى إلى شيء فلا بد له من ابتداء، وإلا فكل واحد من الأشخاص يحتاج في وجوده انتظار وجود أشخاص قبله لا نهاية لها فلا يوجد أحد.
فصل: العالم حادث لأنه جسم. والجسم لا يخلو عن الحركة والسكون، وهما عرضان حادثان عليه متعاقبان، فالطارئ عليه حادث لا محالة لطريانه، والسابق حادث لأنه لو كان قديما لما انعدم، فكلاهما حادثان. وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث إذ لم يسبق الحوادث. والحوادث حادثة فهو حادث.
فصل: لا بد للحادث من سبب يحدثه، لأن لا بد للحادث من وقت يختص به يمكن أن يفرض له قبل وبعد، فاختصاصه بوقته دون ما قبله وبعده يضطر إلى المختص.
فصل: الله أزلي قديم لم يزل. لأنه إن كان محدثا افتقر إلى محدث يتسلسل ذلك إلى ما لا نهاية ولا يتحصل، أو ينتهي إلى محدث قديم هو الأول، وهو مطلوبنا.
Página desconocida