ولدى انفراد حسن حمودة بنفسه، تمزق قناع الهدوء الذي تخفى خلفه. غاص في مقعده، وراح ينظر إلى السقف الأبيض بعينين ذاهلتين. لاحت له مخاوف غريبة كأشباح راقصة. وركبه إحساس لا معقول بأنه مطارد. ووثب من مجلسه كأنما هو المسئول عن ضعفه، وراح يتمشى في الغرفة ويقول بصوت مرتفع ليطرد الأشباح: محض أوهام، تاريخ ميت، الميت لا يبعث!
وكره الوحدة فغادر المكتب. استقل سيارته، وجرى بها على غير هدى ساعة، ثم هفا قلبه إلى لقاء صفوت مرجان، فوجهها إلى شارع أحمد شوقي بلا ميعاد سابق. وجد الأستاذ منفردا في الفراندة بشخص غريب لم يره من قبل. هم بالانصراف، ولكن صفوت دعاه إلى الجلوس، فجلس وهو يسائل نفسه متى يستطيع أن يروح عن صدره، ويفضي بانفعالاته إلى صديقه. وقام صفوت بالتعارف بين الرجلين. وقدم الغريب قائلا: أبو النصر الكبير من رجال المقاومة الفلسطينية.
فانفجر في صدر حسن حمودة بركان من اللعنات. لم يكن من الذوق أن ينصرف، فبقي على رغمه وهو يتلظى. وقال له صفوت: طبعا سمعت بقبولنا المبادرة الأمريكية؟
فأجاب بفتور: أجل. - كنا نناقشها.
فقال بلا مبالاة: معذرة، سأشرب كأسا؛ لأني مرهق.
أما أبو النصر الكبير، فقال يواصل حديثه الذي قطعه مقدم حسن حمودة: ولكن للمسألة وجها آخر، فالقضية ممتدة في الزمن، وليست بقضية هذا الجيل وحده، ولا بأس أن يتقرر في لحظة زمانية، ولضرورة أقوى منا مؤقتا التضحية بمجموعة باسلة من العرب في سبيل صالح العرب ككل، ولكن الكلمة النهائية، ستظل سرا مقدسا في طوايا الغيب، كما سيظل ميلادها رهنا بالإرادة، فإما نموت موتا غير مأسوف علينا، وإما نحيا حياة كريمة كما ينبغي لنا!
تدفق الكلام من فيه هادرا كالموج.
وتابعه حسن حمودة بأعصاب متوترة، عيناه مغمضتان، وكأسه في قبضته لم يبق بها إلا ثمالة.
Página desconocida