فضحك حسني على رغمه وقال: إذن فأنت العاشق الوحيد في هذا الوطن!
فتنهد أحمد وقال: الله يحرقها كما تحرقني، الحق أني لا أتصور الحياة بدونها. - صبرك، إنها متقلبة الأهواء، وأراهن على أن هذا الزواج لن يعيش أكثر من شهر! - وما علي إلا الصبر والتألم! - اجلس واشرب. - ليس لديك إلا النصائح المحفوظة! - ماذا بوسعي أن أفعل؟ - بوسعي أنا أن أقتل! - كلا، لست من فصيلة سفاكي الدماء!
فقال بحنق من تطارده ذكريات مذلة: حتى الزواج اقترحته عليها! - الله معك! - وماذا كان جواب العاهرة؟ إنها قررت الزواج أيضا، ولكن من الآخر!
وكور قبضته مهددا واستطرد: إنهم يقيمون الاستعدادات للوقاية من الغارات الجوية، ويتوقعون حربا شاملة، عظيم، إني أتنبأ بكارثة ستحيق بهذه الأرض اللعينة!
وتذكر حسني اللون الأزرق الذي يطلون به النوافذ والمصابيح، وقوائم الطوب الأحمر أمام الأبواب، فانقبض صدره. وقال لنفسه إن عزاءه الوحيد في الحياة يتركز في مسكنه الجميل الحافل، فكيف تمضي الحياة إذا تهدم، كيف تمضي الحياة إذا وجد نفسه بين المهجرين في معسكر من الخيام؟ وقال للرجل: أنصحك بالقيام برحلة إلى الخارج عقب الانتهاء من فيلمك.
فتأوه أحمد، وهو يستدير نحو البار ليملأ كأسا، وقال بمرارة: إني بحاجة إلى رحلة طويلة جدا.
24
دق جرس التليفون على مكتب منى زهران، فكان المتكلم سالم علي. رجاها بكل جدية واحترام أن تقابله «دقائق» في دار الشاي الهندي، أو في أي مكان تفضله. واعتذرت من ناحية المبدأ، فألح عليها إلحاحا شديدا. سألت عن السبب، فقال إنه لا يستطيع أن يفصح بما لديه في التليفون، ولكن لديه ما يقوله، وهو هام وخطير. وذهبت إلى الموعد وهي في غاية من الضيق والقلق. وتقابلا وتصافحا وجلسا معا. ولاحظت من النظرة الأولى أنه ليس على ما يرام، وارتاحت لذلك، ولكنها لم ترتح لارتياحها. فقد من وزنه قدرا ملموسا، وخبا نور عينيه، وشحب لونه. وقرأت في عينيه انعكاس صورتها، فخيل إليها أنه لاحظ أيضا تغييرا استوقفه، فهل صبغتها الأحزان بلونها القاتم وهي لا تدري؟ وشكر لها «تفضلها» بالحضور، فصارحته بأنها لا تريد أن تبقى أكثر مما يجب. أحرجته الإجابة قليلا، ولكنه كان على أي حال يتوقعها، فقال: منذ آخر لقاء تلقى كلانا تجارب قاسية، وكم وددت أن ألازمك في محنتك!
فلم تعلق بحرف، فقال: واتسمت تصرفاتي طيلة تلك الفترة بحماقات لا وصف لها.
فلم تنبس أيضا، فواصل حديثه: أقدمت على زواج كأنه أسلوب من أساليب الانتحار.
Página desconocida