8
ارتسمت في وجه عشماوي صورة غير عادية. انغرست في أساريره غضبة كالحة فولاذية، انداحت فوق جفاف الشيخوخة، وبروز الفكين، وتهدل اللحيين. وعندما استقبل الأستاذ حسني حجازي لم ينجل شعاع واحد للبشاشة في وجهه، حتى توجس الأستاذ خيفة مجهولة، فقال - وهو يتخذ مجلسه - لعم عبده بدران: خير إن شاء الله؟!
وسمعه عشماوي، فأقبل نحوه، حتى وقف أمامه، وتدفق قائلا: إني ألعن كل شيء، وألعن فوق كل شيء نفسي، إني ثائر على ضعفي وعجزي واندحاري في صندوق القمامة بلا حول، ومن أنا؟! أنا عشماوي الخشن، صاحب القبضة الحديدية والنبوت المخضب بالدماء، أنا من يرتجف عند ذكر اسمه الرجال، وتتوارى النساء، ويستعيذ بالله منه رجال الشرطة، أنا المجرم الجبار الفتاك الطاغية السفاك النمرود الشيطان!
واختنق بأنفاسه، فقال حسني حجازي بلين ودعابة: وكيف تشكو الضعف وأنت ذلك كله؟! - إني أحكي عن الماضي، عن الماضي أحكي لا الحاضر، افهمني يا أستاذ، كنت رجل درب الحلة وحاميها، وكان الويل نصيب من يتعرض لأحد من أهلها بسوء، بفضلي نعموا بالسلام والأمان، بفضلي بغوا على الخلق، وهم في أمن من العواقب، كان اسمي قانونا وسيفا ونعمة وغنى وفقرا، ماذا جرى يوم اعتدى نذل من القبيسي على رجل من حارتنا؟ هجمت على الحي كالقضاء والقدر، لم أفرق بين متهم وبريء، تهاوت الضربات على رءوس المارة، حطمت الدكاكين، احترقت عربات اليد، انهمرت الأحجار على النوافذ والأبواب، واسأل عني أيام سعد، ولا تسأل عن عدد ضحاياي، وقد عرفت بشارب الدماء منذ ذبحت إنجليزيا، وشربت دمه المسفوح، هذا هو عشماوي الخشن!
فقال حسني حجازي وهو يلعنه في سره: تاريخك معروف يا عشماوي، ولكن لم أنت غاضب؟!
ولكن العجوز لم يجب. ورجع إلى مجلسه عند الباب، وغرق مرة أخرى في الحزن والصمت. ونظر حسني حجازي إلى عم عبده بدران في فضول، فقال عم عبده بدران بإشفاق بلغ حد الخوف: أصيب شابان من أهل درب الحلة.
فقال حسني باستنكار: ظننت أن أيام الفتونة والمعارك، قد انتهت إلى غير رجعة.
فقال عبده بدران بوجه شاحب: أصيبا في الجبهة!
فوجم حسني حجازي، ثم تفكر في كلمة مناسبة يقولها، ولكن عشماوي سبقه صائحا: قصدتني جدة أحدهما مستغيثة بي كالأيام الخالية، ظنت الولية أن عشماوي ما زال كعهده القديم يستغاث به فيغيث!
فقال حسني حجازي: إنهما بطلان يا عشماوي!
Página desconocida