قلت: «تشيس لا يبالي.» ولم أدرك كيف ستأخذ مصداقية هذه العبارة في النقصان بمرور السنين، وكيف ستحتل تلك المهام التي بدت عرضية وأقرب إلى العبث - وعلى هامش حياتي - مكان الصدارة وتتبلور أمام عيني. •••
قبلت وظيفة مجالسة السيد جوري خلال فترات بعد الظهيرة. كان يوجد بأحد جانبي مقعده الريكلاينر الأخضر طاولة صغيرة، أعلاها منشفة مفترشة - لامتصاص السوائل المنسكبة - وعبوات دوائه من أقراص وشراب، وساعة صغيرة ليعرف الوقت. وعلى الجانب الآخر من الكرسي، اكتظت طاولة أخرى بمواد ليقرأها من صحف ومجلات؛ كصحيفة صباح اليوم، والصحيفة التي صدرت مساء أمس، وإصدارات من مجلات «لايف» و«لوك» و«ماكلينز»، التي لم يكن لها ثقل وقتئذ. وعلى أسفل رف في الطاولة، رأيت مجموعة من الكتب المحتوية على قصاصات مقتطعة من صحف ومجلات - كالتي يستخدمها الأطفال في المدارس - وكانت أوراقها سميكة تميل إلى اللون البني وذات حواف خشنة، وبرز منها بعض أجزاء مقتطفات الأخبار والصور. وكانت هذه الكتب تحوي قصاصات جمعها السيد جوري واحتفظ بها على مر الأعوام إلى أن أصيب بالسكتة الدماغية وتوقف عن اقتطاعها من مصادرها. وأيضا كانت هناك خزانة كتب في هذه الغرفة، تشتمل بالمثل على المزيد من المجلات وكتب القصاصات، وشغلت كتب مدرسية خاصة بالمرحلة الثانوية نصف رف؛ لعلها كانت كتب راي.
ذكرت لي السيدة جوري ذات مرة: «دائما ما أقرأ له الصحيفة. إنه لم يفقد قدرته على القراءة لكنه لا يستطيع الإمساك بها بيديه الاثنتين، كذلك فإن عينيه تؤلمانه حينما يقرأ.»
لهذا كنت أقرأ للسيد جوري في الوقت الذي تسرع فيه زوجته برشاقة إلى المحطة لاستقلال الحافلة، مستظلة بمظلتها المزخرفة بالورود. قرأت له صفحة الرياضة، والأخبار المحلية والدولية، وكل ما يتعلق بجرائم القتل والسرقات، والطقس السيئ، وقرأت له أيضا خطابات القراء إلى المحرر، وإلى الطبيب الذي يعطيهم نصائحه الطبية، وإلى آن لاندرز، وكذلك الرد عليها، وبدا لي أن أكثر ما كان يثير اهتمامه هو أخبار الرياضة وآن لاندرز. كنت أحيانا أخطئ في نطق اسم أحد اللاعبين أو يختلط علي اسم مصطلح ما، فيصير ما أقرؤه عديم المعنى؛ ولذا كان يتذمر وهو يوجهني غير راض عني لأحاول مرة أخرى. حين أقرأ له صفحة الرياضة، ينفعل ويغدو منتبها وعابسا، أما حين أقرأ صفحة آن لاندرز، فيتبدى استرخاؤه على وجهه ويصدر أصواتا - تشبه الخرخرة والغطيط العميق - أظن أنها تنم عن شكره وامتنانه. كان يصدر هذه الضوضاء تحديدا عندما تشير هذه الخطابات إلى بعض الأمور النسوية أو التافهة (مثلا كتبت إحدى السيدات أن أخت زوجها ادعت أنها صنعت كعكة بنفسها، مع أن المنديل الورقي الذي يحمل اسم محل المخبوزات كان لا يزال موجودا تحت الكعكة حين قدمتها للزائرين)، أو حين تمس أي موضوع جنسي بحذر كالعادة في تلك الفترة.
حين كنت أقرأ له صفحة المحرر أو أي مقال مليء بهراء عما قاله الروس أو ما قاله الأمريكيون في الأمم المتحدة، كان يغلق عينيه - أو بالأحرى يخفض جفن عينه السليمة بالكامل تقريبا، على عكس جفن عينه الأخرى الضعيفة الذي يخفضه قليلا - وتصير حركات صدره أثناء تنفسه ملحوظة. وعندها، أتوقف للحظات لأرى إذا ما كان قد نام، لكنه كان يصدر صوتا من نوع آخر؛ صوتا موبخا ومقتضبا على نحو فظ. وبمرور الوقت، إذ اعتدت عليه واعتاد علي، أخذ هذا الصوت يبدو أقل توبيخا، بل ومطمئنا؛ ليس فقط بأنه ليس نائما وإنما لا يحتضر في هذه اللحظة.
كان التفكير في أنه يحتضر أمامي مروعا في البداية؛ فلماذا لا يموت وهو يبدو شبه ميت بالفعل؟ كانت عينه الضعيفة أشبه بصخرة قابعة أسفل مياه مظلمة، وكان فمه مرفوعا لأعلى ومفتوحا من أحد جانبيه، فظهرت أسنانه الطبيعية (إذ كان معظم الناس وقتها يركبون أسنانا صناعية) كريهة المنظر بحشوها الغامق الواضح فيما بين المينا الضعيفة. كان بقاؤه على قيد الحياة في هذا العالم يبدو لي خطأ يمكن أن يصحح في أي لحظة، لكنني بعد ذلك - كما قلت من قبل - اعتدت عليه. كان رجلا ضخما، له رأس ضخم ينم على نبل أصله، وصدر عريض متعب، وكانت يده اليمنى المشلولة تتمدد على بنطاله فوق فخذه الطويلة. كلما أقرأ تغزو هذه الصورة مجال رؤيتي؛ بدا كأثر، كمحارب قديم آت من العصور البربرية. بدا لي مثل أريك بلود آكس أو الملك كانوت:
قال ملك البحار لرجاله: قوتي تخور بسرعة،
لن أبحر غازيا مرة أخرى.
كان هذا هو الشكل الذي بدا عليه، بضخامة جسده شبه المشلول التي تهدد أثاث المنزل وتعرضه للتلف، وتخبطه في الجدران خلال انتقاله إلى دورة المياه. أما عن رائحته، فلم تكن عفنة إلا أنه لم تفح منه أيضا رائحة الأطفال بعد الاستحمام بالصابون واستخدام البودرة المعطرة، وإنما كانت تفوح منه رائحة ملابس ثقيلة علقت بها بقايا رائحة تبغ (على الرغم من أنه لم يعد يدخن)، ورائحة جلد - تخيلته سميكا - يطرح إفرازات مثيرة، ويبعث حرارة تنم عن أنشطة جسده الوظيفية. بالإضافة إلى رائحة بول طفيفة ودائمة، والواقع أن هذه الرائحة كانت ستصيبني باشمئزاز إن فاحت من امرأة، لكنها في حالته أمكن التسامح معها، بل وبدت تعبيرا عن هبة قديمة كان يتمتع بها. وحين كنت أدخل دورة المياه بعده، أشعر أنني في عرين حيوان أجرب وإن كان لا يزال قويا.
قال لي تشيس إنني أهدر وقتي بمجالسة السيد جوري وكأنه طفل. كان الطقس قد أضحى صحوا وصار النهار أطول، وبدأت المتاجر تعرض بضائع جديدة منتفضة من بياتها الشتوي، وأضحى جميعها أكثر قابلية للتفكير في إتاحة وظائف لديها؛ لذا كان علي أن أخرج باحثة بجد عن عمل؛ فالسيدة جوري لم تدفع لي سوى أربعين سنتا في الساعة.
Página desconocida