لكنها لم تستطع منع نفسها من إضافة أن معنى ما كانت تفعله إنيد هو أنها قررت التخلي عن فكرة الحصول على وظيفة محترمة في أحد المستشفيات لتقبل بوظيفة بائسة قاصمة للظهر في منازل بدائية تملؤها التعاسة والبؤس مقابل مبلغ زهيد لا يذكر من المال. وأوضحت لها أيضا أنها قد تضطر لضخ المياه بنفسها من آبار ملوثة، وكسر الثلج في أحواض الماء في الشتاء، ومطاردة الذباب في الصيف، واستخدام دورة مياه خارج المنزل. هذا فضلا عن استخدام ألواح تنظيف الملابس ومصابيح زيت الفحم بدلا من غسالات الملابس والكهرباء، ومحاولة رعاية المرضى في ظل هذه الظروف والتكيف مع أعمال المنزل والأطفال المشاكسين المساكين في الوقت نفسه.
وأضافت: «لكن إذا كان هذا هو هدفك في الحياة، فأرى أنني كلما جعلت الأمر يبدو أكثر سوءا، يزداد تصميمك على خوضه، لكنني سأطلب منك أن تعديني ببعض الأشياء أيضا، وهي أن تغلي الماء الذي ستشربينه، وألا تتزوجي من مزارع.»
فقالت لها إنيد: «يا لها من أفكار مجنونة!»
كان ذلك قبل ستة عشر عاما. أثناء الأعوام الأولى من تلك الفترة، ازداد الناس فقرا، ومن ثم، زاد عدد من لا يمكنهم تحمل تكاليف دخول المستشفى، والمنازل التي عملت فيها إنيد تدهور حالها عادة حتى وصلت إلى الحالة التي وصفتها والدتها، ولزم عليها غسل الملاءات والحفاضات بيديها في بعض المنازل حيث كانت الغسالة معطلة ولا يمكن إصلاحها، أو قطعت الكهرباء عنها، أو لم تكن هناك كهرباء في الأساس. لم تعمل إنيد بدون أجر؛ لأنها بذلك ستظلم السيدات الأخريات اللاتي يعملن بنفس المهنة ولم يتمتعن بالخيارات التي تتمتع هي بها، لكنها كانت تعيد معظم تلك الأموال للأسرة في صورة أحذية ومعاطف شتوية للأطفال، وزيارات لطبيب الأسنان، وألعاب للكريسماس.
وكانت والدتها تجمع من أصدقائها أسرة الأطفال القديمة، وكراسي الأطفال العالية، والبطاطين، بالإضافة إلى الملاءات المهترئة التي كانت تمزقها بنفسها وتحيكها لتصنع منها حفاضات للأطفال. وكان الجميع يخبرها بأنها فخورة بلا شك بإنيد، وكانت تجيبهم بأنها كذلك بالتأكيد.
ثم تضيف: «لكن كوني أما لقديسة مثلها يتطلب مني قدرا هائلا من الجهد في بعض الأحيان.» •••
تلا ذلك الحرب، وما شهدته تلك الفترة من نقص شديد في الأطباء والممرضين، وصارت إنيد موضع ترحيب أكثر من ذي قبل، وظلت كذلك لفترة من الوقت بعد الحرب مع تزايد عدد المواليد. لكن الآن في ظل ما شهدته المستشفيات من توسعات وما شهده العديد من المزارع من رخاء، بدا أن مسئولياتها بدأت تضمحل لتقتصر على من يعانون من أمراض غريبة أو ميئوس منها، أو من أمراض نفسية لا يمكن علاجها، ولم تعد المستشفيات تقبل بوجودهم فيها. •••
وفي صيف ذلك العام، كانت الأمطار الغزيرة تهطل كل بضعة أيام، ثم تشرق الشمس ليصير الجو قائظا فتفقد الحشائش وأوراق الأشجار المبللة لمعانها. وكان الصباح يغمره الضباب بالقرب من النهر، وحتى عند انقشاعه تتعذر الرؤية من على أي بعد في أي اتجاه بسبب الأمطار الغزيرة وكثافة الهواء. وتعلقت القطوف بالأشجار الكثيفة والشجيرات؛ من عناقيد عنب برية ونباتات الكرمية المتسلقة، ومحاصيل ذرة وشعير وقمح وقش. نما كل شيء قبل الأوان، كما قال الناس؛ فكان القش جاهزا لحصده في شهر يونيو، وتعجل روبرت لإدخاله الحظيرة قبل أن تفسده الأمطار.
كان يتأخر في عودته للمنزل في المساء؛ إذ اضطر للعمل حتى آخر خيط من الضوء في السماء. وفي إحدى الليالي، دخل المنزل ليجده غارقا في الظلام، خلا شمعة واحدة تحترق على مائدة المطبخ.
هرعت إنيد لفتح الباب الشبكي.
Página desconocida