وجب على الصبية الثلاثة المرور بمتجر هونيكرز في المربع السكني الأول. وهناك، رأى جيمي والدته وقد بدت واضحة للجميع في إحدى واجهات المتجر. كانت قد عادت للعمل حينذاك، وأخذت تضع القبعة على رأس تمثال العرض، وتضبط البرقع الشبكي، ثم كتفي الفستان. كانت امرأة قصيرة؛ لذا لزم عليها الوقوف على أطراف أصابعها لفعل ذلك على نحو صحيح. خلعت حذاءها لتسير على السجادة المفروشة على أرضية الواجهة. وكان من الممكن رؤية كعبيها الممتلئين المتوردين عبر الجوارب التي كانت ترتديها. وعندما بسطت جسمها واقفة على أطراف أصابعها، كان من الممكن رؤية باطن ركبتيها عبر فتحة التنورة الخلفية. وأعلى ذلك كانت مؤخرتها العريضة، والمتناسقة في الوقت نفسه مع قوامها، ثم حافة ملابسها الداخلية أو المشد. كان بوسع جيمي سماع تذمرها الخافت في رأسه، وشم رائحة جواربها التي كانت تخلعها فور وصولها المنزل للحفاظ عليها من البلى. الجوارب والملابس الداخلية - حتى الملابس الداخلية الحريمي النظيفة - كانت لها رائحة باهتة من نوع خاص، جذابة ومثيرة للاشمئزاز في الوقت نفسه.
تمنى جيمي أمرين حينذاك؛ الأمر الأول هو ألا يكون رفيقاه قد لاحظا أمه (لكنهما لاحظاها بالفعل؛ بيد أن فكرة تأنق الأم كل يوم وخروجها للحياة العامة في البلدة كان أمرا غريبا للغاية بالنسبة إليهما، ما حال دون تعليقهما عليه، فتجاهلاه فحسب). والأمر الثاني هو ألا تستدير والدته وتراه؛ فإن فعلت ذلك، كانت ستطرق على زجاج الواجهة، وتلقي التحية عليه؛ فقد كانت تتخلص عند ذهابها إلى العمل من التحفظ الصامت والدماثة المتأنية التي سادت المنزل، ويتحول لطفها وكرمها مع الآخرين من إذعان إلى حيوية وجرأة. واعتاد جيمي أن يسعد بهذا الجانب المرح من شخصيتها، كما كان يسعد بمتجر هونيكرز وما به من مناضد بيع ضخمة مصنوعة من الزجاج والخشب اللامع، ومرايا كبيرة أعلى السلم حيث تمكن من رؤية نفسه وهو يصعد إلى قسم الملابس الحريمي بالطابق الثاني.
كانت والدته تقول عند رؤيته: «ها قد جاء شيطاني الصغير»، وتلقي له أحيانا بعشرة سنتات. ولم يتمكن قط من البقاء معها أكثر من دقائق معدودة؛ إذ من المحتمل أن يكون السيد هونيكر وزوجته يراقبان ما يحدث. «شيطاني الصغير.»
كلمات أسعده سماعها في السابق، شأنها شأن رنين السنتات، لكنها صارت مصدر خجل له الآن عليه إخفاؤه.
فقد أصبحت ماضيا منسيا.
وفي المربع السكني التالي، كان عليهم المرور بمطعم ديوك أوف كمبرلاند، لكن سيسي لم يكن قلقا؛ لأن عدم حضور والده إلى المنزل في موعد الغداء يعني أنه سيظل في ذلك المطعم عدة ساعات تالية، لكن كلمة «كمبرلاند» كان لها دوما وقع ثقيل في نفسه؛ حتى قبل أن يعرف معناها، كانت تنزل عليه كالحمل الثقيل المقبض للصدر، مثل الثقل الذي يرتطم بقاع المياه المظلمة.
وبين مطعم كمبرلاند ومبنى البلدية زقاق غير ممهد، وخلف هذا المبنى كان قسم الشرطة. دخل الصبية الزقاق، وسرعان ما سمعوا ضوضاء عالية غير تلك الصادرة من الشارع. لم تكن هذه الضوضاء صادرة من المطعم الذي كتمت الأصوات داخله؛ إذ لم يحتو البار إلا على نوافذ صغيرة عالية، مثل المراحيض العامة، وإنما كانت صادرة عن قسم الشرطة، الذي فتح بابه في ظل اعتدال الطقس، وفاحت منه رائحة السيجار وتبغ الغليون التي كان من الممكن شمها من الزقاق في الخارج. ولم يكن رجال الشرطة وحدهم الجالسين بالداخل، لا سيما في فترات بعد الظهيرة أيام السبت، مع تشغيل المدفأة في فصل الشتاء والمروحة في الصيف، وترك الباب مفتوحا للسماح للهواء العليل بالدخول في أيام الطقس المعتدل مثل ذلك اليوم. فكان من المتوقع وجود كولونيل بوكس بالداخل، بل إن الصبية تمكنوا في الواقع من سماع صوت حشرجة أنفاسه الطويلة التي كانت تلي ضحكته المشوبة بآثار الربو الذي كان يعاني منه. كان الكولونيل بوكس أحد أقارب جيمي، لكن ثمة برودا ساد في العائلة تجاهه بسبب عدم موافقته على زواج والد جيمي. وكان يتحدث مع جيمي - عندما يتعرف عليه - بنبرة ساخرة مندهشة. وقد أوصت والدة جيمي الفتى قائلة: «إذا قدم لك ربع دولار أو أي شيء من هذا القبيل، فأخبره أنك لست بحاجة إليه.» لكن الكولونيل بوكس لم يعرض عليه أي أموال قط.
كان السيد بولوك، الذي عمل في الصيدلية قبل تقاعده، بالداخل أيضا على الأرجح، وكذلك السيد فيرجس سولي، الذي لم يكن غبيا، لكن مظهره أوحى بذلك بسبب تعرضه للغازات في الحرب العالمية الأولى. قضى هؤلاء الرجال وآخرون يومهم بالكامل في لعب الورق، والتدخين، ورواية القصص، وشرب القهوة على نفقة البلدة (كما كان والد باد يقول)، وأي أحد يرغب في تقديم شكوى أو بلاغ ما، كان عليه فعل ذلك على مرأى - وربما أيضا على مسمع - منهم جميعا.
لقد وقعوا في الفخ.
وصل الصبية الثلاثة بالكاد أمام الباب الأمامي، لم يلاحظهم أحد، وهناك سمعوا كولونيل بوكس يقول: «إنني لم أمت بعد.» مكررا العبارة الأخيرة لقصة ما يرويها؛ فبدءوا في السير ببطء بعيدا عن المكان، وقد طأطئوا رءوسهم وأخذوا يركلون الحصى بالطريق. وعند الوصول إلى زاوية المبنى، أسرعوا في خطاهم، وعند مدخل مرحاض الرجال العام، وجدوا خطا من القيء الحديث المتكتل على الحائط، وعددا من الزجاجات الفارغة على الأرض. لزم عليهم السير بين صناديق القمامة والنوافذ العالية - التي كشفت المكان بالكامل - لمكتب أمين سجلات البلدية، ليخرجوا من الطريق المليء بالحصى عائدين إلى الميدان.
Página desconocida