وأحست يدا حانية تهدهدها، كانت بطبيعة الحال يد الرجل، من غيره؟ صوته في أذنيها رقيق كالهواء. - لن تكون رائحة الفورمالين أسوأ من النفط في نهاية المطاف.
كان صادقا كل الصدق، بدت رائحة الفورمالين أكثر رقة، أو ربما هو الحلم، حين يصبح الشيء جميلا لمجرد أنه غير موجود، وخطرت لها فكرة. - لا بد أنها جميلة الآن في عيني زوجها لمجرد أنها غير موجودة.
إثر هزة عنيفة ارتمت أرضا فاقدة الوعي، لم تستطع تثبيت قدميها في المكان، جرفها التيار في اتجاه لا يمكن أن تحدده، وقبل أن تستعيد الحواس انبعث صوت أشبه بصفارة المركب، انطلقت تجري نحو الشاطئ، وصوت الأمواج كالطبول ترتفع. - النجدة!
انطلق صوتها كالصفارة وسط دقات الطبول، لم تعرف أهي طبول العيد، أم صفارة الصمت تدوي في الآذان قبل النفس الأخير، إلا أنها كانت ترى الشراع من بعيد، نقطة بيضاء في الأفق، الظهور الأول لأي موكب في البحر، عيناها تكتشفان الضوء، نقطة واضحة كل الوضوح، محددة مثل قطرة ماء، واضحة وصافية وعذبة، كصوت أمها يسري في أذنها قبل الولادة. - امسكي إيدي.
رأت ذراعا طويلة في نهايتها خمسة أصابع، مفرودة ممدودة إليها، وهي تمد ذراعها كما كانت تمده وهي طفلة، عيناها شاخصتان ثابتتان فوق نقطة الضوء، قفزت إلى الأمام تهزها النشوة، الصوت في أذنيها واضح محدد كالنجم. - هاتي إيدك في إيدي.
حركت جذعها لتمد ذراعها أكثر، اختفى الصوت كأنما بددته الحركة، أو اختنق في قرقعة الطبول، ونباح الكلاب من بعيد، أطبق الظلام يشبه التجويف داخل الرحم، أدركت أن أمها لا بد عاشت هذه اللحظة، حين كانت تغيب الشمس ويغرق الكون في الظلمة، كانت تجلس مثلها فوق الجسر، عيناها تنظران، وحين تظهر الأضواء ينتفض جسدها كما كانت هي تنتفض، وقلبها يدق بقوة، توشك على اكتشاف ذلك الشيء، الذي كان يبدو في كل مرة ليس شيئا.
كانت البركة تمتد أمام عينيها لا نهائية، الرجل كان يستدير عائدا إلى البيت، ظهره أصبح مقوسا بعد أن تهاوى في الفراش، كان نومه ثقيلا، وهي راقدة مغلقة الجفون، في أحلامها لم تكن تكف عن الهروب، ساقاها تطلقهما للريح، ومن خلفها كان هناك شيء يجري فوق قدمين، وأحيانا أربعة أو ستة لم تكن قادرة على أن تعد الأرجل أو القوائم، وصوت اللهاث من خلفها عال مسموع، له إيقاع منتظم كالشخير، حين تستدير لا ترى شيئا يجري وراءها إلا ظلها الأسود فوق الأرض. - إنت صاحي؟ - لأ، نايم.
لم تكن تعرف كيف يرد عليها وهو نائم، لكنه كان يتكلم في النوم أكثر من أي وقت آخر، فإذا انقلب على الجنب الآخر لم تسمع الصوت، كان الليل حارا كأنما قرص الشمس لم يغب، الظلمة كثيفة القوام تكاد تلمسها باليد، وضوء اللمبة يتهالك رغم الثبات، لا شيء يتحرك إلا تلك الكائنات، ذات الأجنحة، كان من الطبيعي أن تنجذب الفراشات البيضاء إلى الضوء، لكن هذه الكائنات لم تكن بيضاء، ولم تكن صغيرة كالفراشات، كانت كبيرة بحجم الضفادع، سوداء بلون الليل. - هل يغير النفط أيضا من طبيعة الفراشات؟!
راحت الضفدعات تدور بحركة سريعة حول المصباح، حدقت في إحداهن طويلا، كان لها رأس أسود كأنما مربوط بمنديل، فمها مزموم بلا ابتسامة، ترتطم بزجاج المصباح المرة وراء المرة، ظلها فوق الجدار أكبر من حجمها الحقيقي، يتراقص مع حركتها، يترنح مثل فرخة مذبوحة، تتخبط ولا تكف عن الانجذاب إلى اللهب، تتشبث به تحاول الثبات عليه خشية السقوط.
كانت تبدو لها ضفدعة عاقلة تماما رغم سعيها المجنون، ألم يكن لديها ما تمسكه إلا ما يدمرها؟! كانت تسعى إلى النجاة، مع أنه ليس إلا الموت، وقد أصابها اللهب بسخونة في الرأس، وسقطت محترقة إلى الأرض مثل سمكة مشوية، عيناها جاحظتان مملوءتان بالندم، مدت ذراعها لتربت على رأسها، وفجأة تصاعدت منها رائحة اللحم المشوي، بحركة سريعة من يدها أدخلتها في فمها، والتهمتها في لحظة، لم يكن لديها وقت لتأنيب الضمير.
Página desconocida