تتسع عينا رجل البوليس ويشتد جحوظهما، ثم يدور بالكرسي، «والنني» يدور حول نفسه، وتستقر عيناه في السقف. - أتعني أنها كانت تعمل عندك؟ - كلنا نفعل ذلك، أليس كذلك؟ - لكن نحن ندفع شيئا على الأقل. - لزوجاتنا؟ - لعشيقاتنا على الأقل، أليس كذلك؟
لم تكن بها رغبة لمتابعة التحقيق، بدا لها الهروب نوعا من المستحيل، حركت قدميها فوق الأرض فلم تتقدم خطوة واحدة، كان النفط قد امتص قوتها، وانتهى الرجل من ملء البرميل، وقف ينتظرها وهي لا تتحرك، راح يحدق فيها طويلا، ثم رفع ذراعه إلى أعلى.
كانت لديها فكرة المقاومة، ورد الصفعة بالصفعة، لكن ذراعها ظلت ملتصقة بجسمها، ربما هي لزوجة النفط تجعل الأشياء تلتصق، أو لأن حركة ذراعه جاءت مباغتة، ولم يكن أمامها وقت للحركة، في أعماقها أرادت الانقضاض عليه، لم يتحرك فيها شيء إلا الفكين، وانطلقت الصرخة من الحلق. - لا تصرخي. - أتضربني؟ - ما عليك إلا حمل البرميل؟
بدت في وقفتها كاملة الخضوع، لم تظهر مقاومة ما، كانت في حالة أشبه بالنوم، أو أن الصفعة غير المتوقعة انتزعت منها إرادتها جعلتها تبرك كالجمل، وضع الحواية فوق رأسها ومن فوقها البرميل، وكان عليها أن تمضي قدما مع النسوة إلى الشركة، وكل واحدة منهن تقول كلمة، لمجرد الثرثرة في الطريق. - أتفهمين؟ لن يضربك إذا واصلت العمل. - هل أنت عصيت يا أختي؟ - ليس من الضروري أن تحدث المعصية، يكفي أن تفكري فيها. - أحيانا يكون الفكر أخطر.
واصلت السير بعنق ملتو وأنفاسها تلهث، يتقلص صدرها هبوطا وصعودا مع حركة التنفس، تدفع بفمها المزموم ذرات النفط المتطايرة حولها، تنفخها بعيدا عن وجهها، قدماها مشدودتان إلى الأرض، تغوصان إلى ما تحت الركبتين، تركت نفسها تغوص، لا شيء أمامها إلا أن تغوص، أن تصل إلى القاع، ومن بعد القاع لا يكون هناك طريق آخر إلا الصعود. - منذ جئت لم آخذ أجرا! - ألا يكفيك أن أتستر عليك؟
أرهفت السمع للكلمة «أتستر»، اتسعت عيناها بزواياها الملتهبة، لم يكن هدفها الستر، كان لها هدف آخر، عن يقين كان لها وإن لم تعرف ماذا كان، قدماها تتحركان دون أن تخطو فوق الأرض شبرا، والهواء لا يكفي لشهيق عميق، تورم قدماها وتساقط عنهما الجلد، زحف النفط تحت أظافرها كالطين الأسود، البرميل فوق رأسها ثقيل، يسخن دماغها تحت الشمس، شفتاها زرقاوان مفتوحتان وأنفاسها متلاحقة، ضغطت بأسنانها على شفتها السفلى فانفجر منها الدم، لونه أزرق ينساب فوق ذقنها ساخنا، له طعم حادق على طرف لسانها، فوق سطح البركة رأت صورتها منعكسة، كالشبح الهائم على وجه الأرض، خيل إليها أنها تصرخ. - النجدة!
حركت عنقها ناحية الرجل، لم يعد يسمعها، وإن سمع الصوت لا يبدو عليه الفهم، يحملق فيها بنظرة لم ترها من قبل، أيفكر في قتلها؟
رفعت ذراعها وهمت بإلقاء البرميل فوق رأسه، بدت لها الحركة مشروعة تماما، مجرد دفاع عن النفس، قبل أن ترتفع ذراعها عاودت النظر في عينيه، ثم تراجعت إلى الوراء، عيناه لم ترهما أبدا بهذا الشكل، لم تكن الرعدة ظاهرة، لا شيء فيهما يعبر عن الخوف، لكن كل شيء فيه كان كأنما مات من الخوف.
امتدت يدها وأمسكت يده، تشابكت أصابعهما، حوطها بذراع واحدة وحوطته بذراعيها الاثنتين، أغمضت عينيها، وكان هو مغمض العينين، كانا يسيران متعانقين، لا يريان الأرض تحت أقدامهما، يغوصان معا إلى أغوار البركة كأنما يسقطان في قبضة قوة أكبر منهما، لا يستطيعان الفكاك منها.
في تلك اللحظة أصبح كل منهما يمسك بجسم الآخر، يشتد التماسك، يصبح الجسدان كتلة واحدة تتشبث بأجزائها، لا يبغي الانفصال عن جزء منها. - أكان ذلك هو الحب؟
Página desconocida