فتحت عينيها فأحست حرقة الشمس، كانت تهذي بالحمى، وكلمة العمل المضاد ترسم من حولها ستائر من الوهم، ترى نفسها متربعة كالبرميل فوق رءوس النسوة، يسرن بها في أزقة القرية، تطل عليهن العيون من فوق الأسطح، يخبطن الأرض بأقدامهن، وتهتز صورة صاحب الجلالة فوق العمود، ثم تسقط تحت الأقدام تدوسها.
دعكت عينها بطرف أصبعها، الألم حارق، وهي ممدودة فوق الأرض، منهوكة القوى، طارت ذبابة ووقفت فوق أنفها، راحت تأكل قطعة متسلخة من الجلد، رفعت ذراعها لتهشها، لكن الذبابة بقيت في مكانها، في يدها الأخرى كان الإزميل راقدا، بلا حراك، ترامى من بعيد صوت نباح، وأطفال يتقاذفون بالحجارة، ورجال يتشابكون بالأيدي، والنفط يتدفق بلا اتجاه، وألوان السماء تغيب في الظلمة. - جهزي العشاء!
صوت الرجل يخرق أذنيها، نبرة آمرة، طبيعية تماما حين يخاطب الرجل زوجته، خادمة غير مدفوعة الأجر، أيكون هو زوجها؟ لا تعلم تماما متى تزوجها، ربما أقدم على الزواج منها في غيابها وحرر العقد دون حضورها، لم تكن المرأة تحضر عقد زواجها على أي حال، وكل شيء يمكن أن يتم دون الحاجة إلى وجودها.
تقلصت عضلات أصابعها حول الإزميل، شحنة مفاجئة من الغضب، دفعت الدم في العضل، رفعت ذراعها وضربت بطن الأرض، ارتطم رأس الإزميل بشيء صلب، تمثال من البرونز، أو حجر السيج، لونه أقل عتامة كالزجاج البركاني.
ارتعدت أصابعها وهي تشده إلى الخارج، لامست أطراف أناملها سطحه الناعم، تحسست العنق والصدر، ارتطمت يدها بالنهدين البارزين، أطلقت صيحة وفتحت عينيها، كانت هي الإلهة حتحور، عارية الثديين، تمسك نهديها بكفيها في وضع عطاء كامل، ممسكة بزوج من الأفاعي.
كادت تمسكها لولا أن تدفقت كثبان النفط وأغرقت كل شيء، أيكون هو طوفان نوح؟ في كتاب الحفريات قرأت عن الطوفان، سنين القحط والجفاف، وزحف الجبل والصحراء، كانت الأرض مقبلة على العصر الجليدي، وحدث خلل في التوازن الحيوي للغلاف الجوي، وانقلب نظام الحكم بعد مقتل الإلهة الأم. - جهزي الأكل، أنا جعان!
لم تسمع هذه المرة، كان صوت النفط المتدفق يغطي على كل شيء، تراخت أصابعها حول الإزميل وسقط، كاد التيار يجرفه لولا أن مدت جذعها وأطلت برأسها حتى الحافة، تشبه دوامة البحر، تدور حول نفسها بسرعة دورات الأرض، يتصاعد منها الدخان كأنما هي تغلي، ارتدت طفلة تصرخ: يا أماه!
ارتج جسدها مع الكلمة، أماه؟ لأول مرة تنطق الاسم بوضوح، منذ ولدت لم يحدث أن نادت على أمها، ربما لأنها ماتت وهي تلدها، أو لأنها لم تكن تعرف النطق بعد.
حين هدأت العاصفة تمددت في استرخاء، أنفاسها تلهث وعيناها مغلقتان، عادت إليها صورة الطوفان القديم، كان الخوف من الغرق يملأ قلوب الناس، وفي قمة الخوف يلهجون مثلها باسم الأم، خالتها حين كانت تخاف تصرخ: «يا امه»، بدلا من «يا أماه!» تبصق في فتحة جلبابها، الأزقة كانت ضيقة مسدودة بأكوام السباخ، البيوت طينية لا يظهر منها إلا ذؤابات ضوء، ترسم الظلال كالأشباح، ليل القرية كان مخيفا، ليل مسكون يلائم الشيطان تماما ليتجول فيه، كانت خالتها تمشي في بطن الجسر حين رأته تلك الليلة ، كان هو الشيطان بلحمه ودمه متجسدا على شكل البشر، وقال الناس: الطوفان من الشيطان. وراحوا ينادون على الإلهة الأم لتنقذهم: يا أمنا الحبيبة، أين أنت؟ - أهو الشيطان الذي أخفاك؟ - وضع غلالة سميكة فوق وجهك؟ - شوه صورتك وغير اسمك؟
كانت نائمة حين قرأت الأغنية في الكتاب، صوت غنائهم يسري في أذنيها من تحت الوسادة، ينقطع الغناء فجأة، ويدوي صوت زوجها. - أنا جعان! ألا تسمعين؟!
Página desconocida