لك الله، أيها الزوج العزيز التعس، لو تعلم إلى أي حد انتهى بك الإثم، وإلى أي طور أخرجك النزق، لو تعلم أنك قتلت نفسا وسحقت قلبا ومزقت ضميرا، لو ينفذ هذا الشعور إلى نفسك، لو يستقر هذا الخاطر في عقلك؛ إذن لكنت أشقى الناس، وأضيقهم بالحياة وأزهدهم فيما تضطرب فيه من لذة، وما تتهالك عليه من نعيم. لقد وثقت بك ثقة الطفل بأمه، ولقد أمنت إليك كما يأمن الطفل إلى أمه، فأضعت تلك الثقة وأزلت هذا الأمن، ووطئت بقدميك نفسا أنت تحبها وتؤثرها، وعرضت للشقاء والبؤس شخصا هو أكرم عليك من نفسك وسعادته آثر عندك من سعادتك.
ولكنك غافل لا تدري. لقد هممت منذ أيام أن أرد عنك هذه الغفلة، وأذود عنك هذا الجهل، وأزيل عن بصيرتك الغطاء، وأظهرك على هذا القلب الذي تدميه، وعلى هذا الضمير الذي تؤذيه، وعلى هذه النفس التي تمزقها تمزيقا. ولكني لم أجرؤ لأني أحبك وأعلم أنك تحبني وأخشى أن تكون المصارحة بما بينك وبيني من هذا السوء خطرا على هذا الحب الذي أريد أن أحوطه وأصونه وأحميه من الموت. لقد هممت بهذه المصارحة في تلك الليلة التي جعلت تناقش فيها صديقك فيليب فيما ينبغي من احترام الأوضاع الاجتماعية، لقد كنت لبقا قوي الحجة في ذلك الجدال، ولكن صديقك قد أفحمك واضطرك إلى الصمت، واضطرني أنا إلى أن أترك غرفة الاستقبال حينا لأكظم حزنا كاد ينفجر وأكفكف دموعا كادت تنهل، وأستعير من الصبر والجلد وقوة الإرادة وجها مشرقا يمكن إظهاره لأضيافنا.
كنت تقول لصديقك إن الخير في ألا يستطيع أحد أن يباديك من أمرك بما يخجلك، فأجابك: خير من ذلك ألا تبادي أنت نفسك بما يخجلها. فصدمتك هذه الجملة، واضطرب لها لسانك، واحمر لها وجهك شيئا، واضطررت أنا إلى أن أتحول عنكما حتى لا يظهر من أمري مثل ما ظهر من أمرك.
أنت إذن عاجز عن أن تبلغ بنفسك هذا الطور، وأنت إذن تعرف من أمر نفسك ما لا تستطيع أن تباديها به لأنه يخجلها. فلو عرفت أن غيرك يستطيع أن يباديها بهذا المخجل، ولو عرفت أني أستطيع أن أقص عليك قصتك كلها مع صديقتنا لورنس. فماذا أنت صانع؟
12
ربما كان ابننا هذا العزيز البريء مصدر هذه الآلام التي تملأ قلبي، وهذا الشقاء الذي يغمر نفسي، وهذا اليأس الذي أحاول أن أخفيه فلا أكاد أظفر من ذلك بما أريد إلا مع الجهد العنيف الذي احتملته إلى الآن، والذي لا أدري أأستطيع أن أمضي في احتماله والصبر عليه. وكم يؤذيني ويضنيني ويمزق نفسي البائسة أن أقرن ابني هذا العزيز البريء إلى ما أحس من ألم، وما أجد من شقاء، وما أتعرض له من يأس، على حين أنه قرة عيني ونعمة بالي ومصدر سعادتي، والقيمة لحياتي منذ عرفت نفسي إلى أن عرفته، والغاية الصحيحة لحياتي منذ عرفته إلى الوقت الذي لا أقدر له فيه على شيء.
ولكن الشجاعة إنما هي مواجهة الحق كما هو، والاعتراف بالواقع كما وقع، وأمور الحياة كلها متناقضة على هذا النحو؛ فيها الخير والشر، وفيها النعيم والبؤس، وعنها تصدر السعادة ويصدر الشقاء. فلو أني خيرت بين ابني هذا العزيز البريء وبين أي لون من ألوان السعادة، لما ترددت في الاختيار؛ فهو حياتي بل هو آثر إلي من حياتي، ولكنه مع هذا كله كان مصدر ما أحس من ألم وما أجد من شقاء.
كنت قبل مقدمه فارغة لزوجي مشغولة به مصروفة إليه موقوفة الجهد على حبه وإمتاعه بهذا الحب. وكان هو قبل مقدم هذا الصبي يحبني كما تعود الأزواج العشاق أن يحبوا نساءهم، يمنحني خلاصة نفسه وصفوة ضميره، ولكنه لا يمنحني نفسه كلها ولا ضميره كله كما كنت أمنحه نفسي كلها وضميري كله. كان يصرف عني بين حين وحين إلى أعمال الحياة وأعراضها، وإلى أسباب العيش وشواغله.
ومن الحق أنه كان يضطرب في هذا كله مفكرا في، محبا لي، مؤثرا لي بخير ما يستطيع أن يؤثرني به من الحب والإخلاص، ولكنه كان على كل حال يضطرب في الحياة ويعنى بأعراضها وأسبابها، ويصرف عني بعض الشيء في أثناء ذلك. ولم أكن أنا أفكر إلا فيه، ولم أكن أعيش إلا له، بل لم أكن أعيش إلا به، فكان حبي يحوطه وكان حبي يغمره، وكان حبي يأخذ عليه كل سبيل، وكان حبي يشتد حتى يثقل عليه أحيانا، وكنت أحس هذا وآلم له وألوم نفسي عليه وأرفه على صديقي فأعفيه من بعض ما كان يدفعني إليه الحب الجامح من الكلف والهيام ومن البر والحنان.
ولكن ابننا، هذا العزيز البريء، أقبل ذات يوم فسعدنا بمقدمه وما زلنا سعيدين، ونعمنا بتنشئته وما زلنا ناعمين، ونشأت بيننا صلة جديدة هو قوامها، وشغلت أنا بهذا الصبي شيئا وأصبحت لي في الحياة غاية جديدة لم تكن لي من قبل. والله يشهد ما أضعفت هذه الغاية من حبي، ولا خفقت من وجدي، ولا صرفت قلبي عن زوجي قليلا ولا كثيرا، فإن لقلوب النساء سعة لا تعرفها قلوب الرجال؛ فهي تستطيع أن تحب الولد إلى أقصى غاية الحب، وأن تحب الزوج إلى أقصى غاية الحب؛ وهي تستطيع أن تجمع بين هذين النوعين من الحب، وأن تلائم بينهما وأن تخلص فيهما دون تهاون أو تقصير.
Página desconocida