هو الأثرة التي تظهر في مظهر الضعف والعجز والحاجة إلى التسلية والعزاء. لقد صرفتني عنك وعن أبوي الأثرة التي كانت تظهرها السعادة قوية طاغية باغية عنيفة، ولقد ردتني إليك وإلى أبوي الأثرة التي تظهرني ضعيفة عاجزة يائسة أشد اليأس شقية أشد الشقاء.
لقد جرى القلم إذن بما لم أكن أحب أن يجري به، ولقد سجلت على نفسي إذن ما كنت أكره أن أسجله، وما منعت نفسي من تسجيله منذ أسابيع، لقد اعترفت بأني ضعيفة، وبأني عاجزة، وبأني بائسة شقية.
ولقد آثرتك أنت بهذا الاعتراف، ولم أوثر أبوي منه بشيء؛ لأنك أقدر على احتمال الشكوى، ولأنك أحفظ للسر وأملك للعزاء، ولم أحتج إليك في يوم من الأيام كما أحتاج إليك الآن أيها الصديق، إليك وحدك أستطيع أن أشكو، وعليك وحدك أستطيع أن أعول، سأصدقك لأنك تحتمل الصدق، وسأكذب على أبوي لأن الصدق يقتلهما لو سمعاه.
أترى إليهما وقد ضحيا في تربيتي وتنشئتي بما ضحيا، واحتملا في سبيل سعادتي ما احتملا، وسعدا حين ظنا أنهما قد أتاحا لي هذه السعادة، وتعزيا بذلك عن كثير من آلامهما، بل تعزيا بذلك عن هذه الآلام التي صبها عليهما ما كان من التفريق بيننا؟!
أترى إليهما وهما يألمان لهذا الفراق ويشقيان بعزلتهما ويستلذان الألم ويستعذبان الشقاء لأنهما يظنانني سعيدة؟
أترى إليهما لو عرفا أني شقية بائسة، وأني قد استنفدت حظي من السعادة في عام وبعض عام، ثم أخذت هذه السعادة تكدر شيئا فشيئا ويمازجها البؤس قليلا قليلا، ثم أخذت تضؤل وتهون وتمحى، حتى صارت حياتي كلها ألما وشقاء؟! أترى إليهما لو عرفا هذا كله؟ أيثبتان له؟ أيتعزيان عنه؟ أيصبران عليه؟ كلاهما أضعف من ذلك. لقد قسوت عليهما حين كنت سعيدة، فلأرقن لهما ولأرفقن بهما حين استقبلت الشقاء.
أما أنت أيها الصديق العزيز فقد خلقت لغير هذا، خلقت لتحتمل قسوتي عليك بالشكاة والأنين، حين أشقى وأبتئس. وقد أخذت بحظك من قسوتي عليك أثناء السعادة والنعيم، فأما حظك من قسوتي عليك بالشكاة والأنين فسيتصل ما اتصلت بك وبي الحياة.
11
الآن نستطيع أن نتحدث في يسر وإسماح، أيها الصديق العزيز، فقد عدنا إلى البيئة الهادئة الحلوة التي نشأت فيها مودتنا هادئة منذ أعوام، حين تحدثت إليك لأول مرة بما كان يساور نفسي من اضطراب غامض عميق، فوجدت في الحديث إليك لذة وراحة وأمنا ودعة.
عدنا إلى هذه الغرفى التي عرفت صباي، وعرفت شبابي، والتي رأتني أنشأ وأتغير وأستقبل الحياة وما فيها من لذة وألم، والتي رأيتها أنا ثابتة باقية، وإن تغير ما يختلف عليها من الصور، وما ينتظم فيها من الأداة والأثاث. عدنا إلى هذه الغرفة الصديقة التي نشأت بينها وبيني مودة قديمة، لا أكاد أذكر متى ابتدأت ولا أكاد أعرف متى تنتهي، ولا أشك في أني قد نسيت أشياء كثيرة، أثناء الغيبة، ولكني لم أنسها ولم أنس مكاني أو أمكنتي منها، وإنما كنت أرى نفسي فيها مضطربة وساكنة، عاملة ومطمئنة إلى الكسل، مفكرة ومسترسلة في الأحلام، مستيقظة ونائمة، آوية إليها بما كان يملأ نفسي من الابتهاج حينا والابتئاس حينا آخر، مرسلة نفسي على سجيتها حين كانت تبتهج وتبتئس فمستمتعة بأقصى حظي من حريتي في الفرح والحزن وفي الأمل والقنوط.
Página desconocida