حصوننا مهددة من داخلها
حصوننا مهددة من داخلها
Editorial
مؤسسة الرسالة
Número de edición
الثامنة
Año de publicación
١٤٠٤ هـ -١٩٨٣ م
Ubicación del editor
بيروت
Géneros
حُصُوُننا مهدَّدة من دَاخِلِهَا
بقلم الدكتور محمّد محمّد حسين
مؤسسة الرسالة
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
1 / 2
حصوننا مهددة
من داخلها
1 / 3
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولى: ١٣٨٧ هـ -١٩٦٧ م.
الطبعة الثانية: ١٣٨٨ هـ -١٩٦٨ م.
الطبعة الثالثة: ١٣٩١ هـ -١٩٧١ م.
الطبعة الرابعة: ١٣٩٧ هـ -١٩٧٧ م.
الطبعه الخامسة: ١٣٩٨ هـ -١٩٧٨ م
الطبعة السادسة: ١٤٠١ هـ -١٩٨١ م.
الطبعة السابعة: ١٤٠٢ هـ -١٩٨٢ م.
الطبعة الثامنة: ١٤٠٤ هـ -١٩٨٣ م.
مؤسسة الرسالة بيروت - شارع سوريا - بناية صمدي وصالحة
هاتف: ٣١٩٠٣٩ - ٢٤١٦٩٢ ص. ب:٧٤٦٠ برقيًا: بيوشران
1 / 4
مقدمة الطبعة الرابعة
الحمد لله رب السموات ورب الأرض رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين والمرسلين.
وبعد
هذه هي الطبعة الرابعة من كتاب "حصوننا مهددة من داخلها"، حبسها عن الظهور سنتين ظروف طارئة قاهرة، وقد رأيت أن أحدث فيها بعض التعديل، فأسقطت منها الفصول الثلاثة الأخيرة التي يضمها باب (في الدراسات الِإسلامية)، لأني فضلت أن أضيفها إلى أبواب كتابي "الإِسلام والحضارة الغربية" ورأيتها أليق به، وألصق بموضوعه، وأضفت إلى هذه الطبعة صورة مذكرة كتبتها في تطوير الدراسات العربية والاسلامية، فيها فضل بيان لبعض زوايا لم أمسها فيما كتبته في هذا الموضوع من قبل.
أسأل الله التوفيق والسداد في الفكر والعمل، والعفو والمغفرة فيما يزل فيه الفكر والقلم.
1 / 5
مقدمة الطبعة الثالثة
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. والصلاة والسلام على نعمة الله المهداة إلى البشر، الذي ختم به رسالاته وأتم كلماته، سيدنا مُحَمَّدْ. اللهم صل وسلم وبارك عليه، عَدَد الداخلين بسببه في رحمتك إلى يوم الدين.
وبعد
هذه كلمات كنت قد نشرتها منذ أكثر من عشر سنوات في مجلة الأزهر بمصر، تدور حول نقد مطبوعات واتجاهات ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية وتقييمها. وهي من هذه الناحية تعتبر امتدادًا لكتابي (الاتجاهات الوطنية في الأدب العربي المعاصر)، الذي وقف الجزء الثاني منه عند قيام جامعة الدول العربية. وبعضُ الذين تناولتهم هذه المقالات ممن ربطتني بهم صداقة أو صلة قديمة، وبعضهم ممن لم أكن قد عرفته ثم التقيت به من بعد وعرفت فيه نواحي من العلم والفضل. ومع ذلك فالله يشهد أن ما كان في هذه المقالات من حب أو بغض كان خالصًا لوجه الله، لم تشُبْهُ شائبة من شهوة أو هوى. وقد رأيت أن أترك كل شيء في هذه الطبعة كما كتبته أول مرة دون تغيير أو تبديل، لأنه صورة من صراع الآراء الذي جرى ولا يزال يجري في بلاد المسلمين، فهو من هذه الناحية قطعة من التاريخ الفكري لهذه الحقبة، لم يعد من حقي أن أبدل فيه أو أغير.
1 / 6
وقد نشر بعض هذه المقالات لأول مرة مجموعًا في كتاب تحت عنوان "في أوكار الهدامين" حين استأذنني الشيخ عبد المهيمن أبو السمح إمام الحرم المكي في نشرها فأذنت له. ولكن الكتاب صدر لسوء الحظ مليئًا بالأخطاء، ثم استؤذنت مرة أخرى في طبع هذه المقالات جميعًا حين زرت الكويت سنة ١٣٨٥ هـ -١٩٦٦ م بدعوة من وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية في موسمها الثقافي الأول، فأذنت في ذلك، وطبع منها خمسة الآف نسخة سنة ١٣٨٧ هـ - ١٩٦٧ م. وأُعِرتُ بعد ذلك من جامعة الاسكندرية إلى جامعة بيروت العربية سنة ١٣٨٨ هـ (١٩٦٨ م) فتبين لي أن الكتاب قد طبع في بيروت، وراجعته فوجدت فيه أخطاء كثيرة نبهت إليها صاحب الدار التي أصدرته ورجوته أن يتلافاها في الطبعة التالية. ولكن الكتاب نشر كما هو في طبعته الثانية (١٣٨٨ هـ - ١٩٦٨ م) مصورًا عن الطبعة الأولى بكل أخطائها، لذلك رأيت أن لا يطبع الكتاب بعد ذلك إلّا بإِذن كتابي مني. وقد أذنت للأستاذ مُحَمَّدْ عادل العاقل صاحب دار الإرشاد ببيروت في أن يطبع الطبعة الثالثة منه في خمسة الآف نسخة، بعد أنَ أصلحت ما فيه من أخطاء وبعد شيء يسير من التعديل. فقد رأيت أن أبدأ الكتاب بالمقالات التي نُشِرت في مجلة الأزهر لأول مرة تحت عنوان (حصوننا مهددة من داخلها)، وهو العنوان الذي اتخذته من بعدُ للكتاب. ثم رأيت أن أضم إلى مقال (الثقافة الإِسلامية والحياة المعاصرة) مقالين آخرين في الموضوع نفسه، لتكون جميعًا تحت عنوان (في الدراسات الإِسلامية). وأحد هذين المقالين في دراسة مؤتمر آخر من نوع مؤتمر (الثقافة الإِسلامية والحياة المعاصرة)، نُشرت البحوث التي ألقيت فيه ثم ترجمت إلى العربية تحت عنوان (الشرق الأدنى: مجتمعه وثقافته). والمقال الآخر في كتاب للمستشرق سْمِثْ (w. c . smith) عن: الإِسلام في العصر الحديث islam in) (modern History صدر عن جامعة برنستون - وهي الجامعة التي دعت للمؤتمرين السابقين- سنة ١٩٥٧. ثم إني أضفت إلى القسم المنشور تحت عنوان (في مناهج اللغة والدين) كلمة عن بحث ملحد منحرف في قراءات القرآن، قُدّم لجامعة الإِسكندرية سنة ١٣٨٥ هـ -١٩٦٥ م للحصول على درجة الماجستير، ذهبت فيه صاحبته إلى أن القرآن غيرُ متواتر بلفظه، وأنه قد حدث فيه تغيير وتبديل، وزعمت أن الرسول قد غَيرَّ فيه، وسمح لأصحابه
1 / 7
بالتغيير وأقرهم عليه. ومع هذه الافتراءات الظالمة التي لا تستند إلى أي دليل، ولا تقوم إلّا على الرغبة في الهدم، فقد قررت اللجنة التي ناقشته وقتذاك منحه درجة الماجستير. ثم امتنعت الجامعة عن توثيق هذا القرار بعد معركة طويلة خاضها من جانب واحد أنصارُ الباطل، أفرادًا وجماعات وصُحُفًا. ورأيت يومذاك أن أحصر القضية من جانبي بين جدران الجامعة، فلم أرُدّ على من جندته الصحف لتزيين ذلك الإِلحاد وتزوير صورته. ثم رأيت الآن أن أثبت ما كان، بعد أن هدأت الزوبعة، للتاريخ وللحق، وليعرف من اطلع على القضية وقتذاك من جانبٍ واحدٍ حقيقةَ الأمر. ثم إني حذفت القسم الأخير من الكتاب المنشور تحتَ عنوان (في شؤون الروح). وهو جزء عن بحث كنت أُعده لجلة الأزهر، ثم انقطعت عن نشر بقيته بعد أن نُحّيَ الأُستاذ محب الدين الخطيب ﵀ عن رياسة تحرير المجلة، وحل محله أحمد حسن الزيات. وقد نشرتُ البحث بعد ذلك كاملًا في الاسكندرية سنة ١٣٨٠ هـ -١٩٦٠ م ثم أعيد نشره في دار الإِرشاد ببيروت سنة ١٣٨٨ هـ -١٩٦٩ م تحت عنوان (الروحية الحديثة دعوة هدامة).
أسأل الله أن يتقبل مني هذا الجهد الذي لا يفي بنعمه علي، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وأن يغفر لي ضعفي وعجزي وتقصيري.
بيروت في صباح الإِثنين ١٠ من جمادي الآخرة ١٣٩١ هـ
(٢/ ٨/ ١٩٧١ م).
محمّد محمّد حسين
1 / 8
مقدمة الطبعة الأولى
الحمد لله
وسلام على عباده الذين اصطفى
الحمد لله وحده، هو الحميد المجيد، منه العون وبه التوفيق. اللهم اهدنا سبلنا، وألهمنا رشدنا، وأرنا الحق حقًا وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
وبعد
فهذه كلمات كنت قد نشرتها في مجلة "الأزهر" خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة (١٣٧٦، ٧٧، ٧٨). وكان أكثرها تحت عنوان "حصوننا مهددة من داخلها"، جمعتها في هذه الصفحات مرتبة بحسب تاريخ نشرها. ولم أتناولها بتغيير أو تبديل، إلّا ما يكون مما لا بد أن يعنَّ لكل كاتب إذا أعاد النظر فيما كتب، وهو من أمارات نقص الإِنسان وعجزه وقصور فكره.
وقد كان الذي دعاني إلى كتابة هذه السلسلة من المقالات أني رأيت الِإلحاد والانحلال في هذه الأيام يشتعل ويسري سريان النار في يابس الحطب، ورأيت دعاته يستفحل أمرهم في كل مكان، ورأيت الناس مشغولين بالجدل والنقاش حول ما يثيرونه من موضوعات يسترون مآربهم الهدَّامة من ورائها تحت أسماء خلاَّبة برَّاقة، كالنهضة، والتحرر، والتطور، ومتابعة ركب الحياة، وهي موضوعات منوعة تشمل الحياة في شتى نواحيها، يخترعونها ثم يهولون من شأنها ويكثرون من الأخذ والرد حولها حتى يلفتوا إليها أنظار الناس، وحتى ينشأ جيل جديد مرنت أذنه منذ وعى على سماع المناقشات حول هذه الموضوعات، فيتوهم أنها مشكلات حقيقية لا بد لها من حل،
1 / 9
ويتجه في أغلب الأحيان - كما جرت عادة الناس - إلى أنصاف الحلول التي ترضي الطرفين المتخاصمين حسب وهمه. والخاسر في حقيقة الأمر هو صاحب الحق. والربح كله للباطل وأصحابه.
ولا يزال أصحاب الباطل ماضين في اتخاذ هذا الأسلوب نفسه جيلًا من بعد جيل، يزحفون ويزحفون، حتى يسدّوا على الناس كل سبيل للحق، أو يفتح الله بابًا من أبواب رحمته فيبعث عليهم من ينكّل بهم ويقطع دابر ما يثيرونه من فتن. ولكن الجديد في أمر هؤلاء الدعاة أن شرهم لم يعد مقصورًا في هذه الأيام على الكلام، فقد انتقلوا من مرحلة الكلام إلى مرحلة العمل بعد أن نجحوا في التسرب إلى الحصون التي تحمي قيمنا، وأصبح كثير منهم في مناصب تمكّنهم من أن يدسّوا برامجهم وخططهم على المسؤولين من رؤسائهم وينفذوها في صمت، ودون أن يثيروا ضجة تلفت إليهم المعارضين.
ولهؤلاء المفسدين عصابة تشد أزرهم وتُشِيد بهم وتنوَّه بذكرهم وتحميهم من خصومهم وتقطع ما يهاجمون به مما ينبه الناس إلى شرهم عن كل وسائل النشر، فلا يصل إلى آذان الناس أو عيونهم شيء منه. وأنا حين أزعم أن هؤلاء الدعاة ينتمون إلى عصابة ذات خطر إنما أعني بالعصابة كل مدلولها وكل حرف من حروفها وكل مفهوم من مفاهيمها.
هذه العصابة قليلة العدد. ولا ترجع قوتها إلى كثرة عددها. ولكنها ترجع إلى تماسك أفرادها وتضامنهم، يساعد بعضهم بعضًا، ويحمىِ كبيرهم الصغير، ويمهد السابق منهم للاحق، ويهيىء له فرص الظهور والترقي، بينما يتخلصون بمختلف الوسائل من الخصوم الذين يعارضونهم والذين يقفون في وجه خططهم. يحدث ذلك كله في الظلام وفي صمت. وقد لا يكون هناك تنظيم واحد معروف بعينه يضم الهدامين ودعاة الشر كلهم جميعًا، ولكن المهم في الأمر أنهم جميعًا، على اختلاف نزعاتهم وعلى تباين ساداتهم وشياطينهم، متعارفون متضامنون. والمتدبر لخططهم وتحركاتهم في إحكامها، وفي تناسقها، وفي وحدة أهدافها، وتشابه أساليبها في كثير من الأحيان، وفيما تستند إليه من
1 / 10
نفوذ واسع، لا بد أن ينتهىِ إلى أن هناك هيئات منظمة تنظيمًا دقيقًا من وراء هذه الحركات، وأن بين هذه الهيئات قدرًا كبيرًا من التفاهم واتفاق المصالح. وعصابة الهدَّامين تستمد قوتها وخطورتها من هذا التنظيم من ناحية، ومن أنها مجهولة الرأس والحدود والأطراف والأساليب والأعوان من ناحية أُخرى. وهذا التنظيم وهذه السريَّة هما مصدر قوة هذه العصابة التي لا تفترق عن عصابات السطو والِإرهاب في شيء. فهي لا تعتمد في تنفيذ خططها على الإِقناع شأنَ أصحاب الرأي، ولا على الكثرة شأن أصحاب (الديموقراطية) المزعومة، ولكنها تعتمد على العمل في الظلام وعلى البطش بالخصوم والتخلص من المعارضين ومؤازرة الأولياء والأصدقاء وتمكينهم من مقاليد السلطة. وهم يسلكون لذلك كل سبيل، ويستغلون فيه كل وسيلة، وعلى رأس هذه الوسائل الصحافة والإِذاعة والمنابر ودور النشر وشراء الذمم والتهديد بالفضائح.
ومن هذه الأساليب التي لا تحصى أسلوب مشهور معروف لم يعد يخفى على بَصير، يُلقي أعضاء هذه العصابة شباكهم حول أصحاب النفوذ والسلطان ويدخلون إليهم من أقرب الأبواب إلى قلوبهم وأضعف الثغرات في نفوسهم، ثم يتظاهرون بالتفاني في حبهم والِإخلاص في خدمتهم، فيلازمونهم ملازمة الظل، لا يغادرونهم طرفة عين، ويراقبون منهم الِإشارة والبادرة، مراقبة الكلب الأمين لصاحبه، حتى يصبح التابع منهم لازمة من لوازم سيده ووهمًا مسلطًا عليه لا يتخيل إمكان الاستغناء عنه، وبمرور الأيام تتحول هذه البطانة إلى سور ضخم شاهق يحجب عن بصر صاحب النفوذ كل شيء عداه، فحيثما وجّه البصر لا يرى إلّا هذا السور، وتصبح هذه الدائرة الضيقة هي دنياه، لا يعرف شيئًا مما يجري وراءها في دنيا الناس. وعند ذلك يصبح صاحب النفوذ في حقيقة أمره سجينًا من حيث لا يدري، لأنه لا يرى إلّا ما يسمحون له برؤيته، ولايسمع إلا مايسمحون له بسماعه وحسبك بهذا سجنًا، ثم ينتهي به الأمر إلى أن يصبح صنمًا. معبودًا كعجل الكفار من الفراعنة، يحبس في الظلام، ولا يَنْتفِع بعبادته وتقديسه إلّا سدنتُه.
وأخطر ما في أمر هذه العصابة أن أفرادها يتمتعون بكل ما في حرب
1 / 11
العصابات من مزايا. ومن أخطر هذه الزايا أن الجهاز الحكومي - وهو يشبه الجيش النظامي - لا يستطيع توجيه الضربة القاضية إليهم. لذلك كان من أنجح الأساليب في مكافحتهم أن تدرس خططهم وأساليبهم في الكيد والدس وينبه الناس إليها. عند ذلك ينكشف الستر عن الذين يستمدون قوتهم من العمل في الظلام، ويجدون أنفسهم وقد غمرتهم الأضواء وكشفت أوكارهم وسراديبهم، ولا يجدون بدًا من اللجوء إلى سلاحهم القديم الذي بدءوا به وهو سلاح الدعاية. وقد فشلوا فيه من قبل، وسيكون فشلهم في هذه المرة ساحقًا ماحقًا بعد افتضاح أمرهم، لأنهم يسبحون اليوم ضد تيار قوي غلَّاب، ترعاه عناية الله سبحانه، ويحفه توفيقه، ويمده مدده الذي لا ينفد وجنوده التي لا يعلمها إلّا هو. ذلك هو تيار النهضة العربية واليقظة الإِسلامية.
من أجل ذلك كتبت هذه الكلمات لجلة الأزهر، ثَم أعدت نشرها مجموعة وهذه الصفحات. كتبتها لألقي الأضواء على الذين يعملون في الظلام، وأكشف الستر عما يدبرون في الخفاء، ولأفضح دسائسهم التي يلقون عليها حجبًا كثيفة من الرياء والنفاق، حين يندسون بين صفوف العاملين على بعث معالم شخصيتنا وإحياء شعائرنا وأشعرتنا، يتظاهرون بالغيرة على إسلامنا وعلى عروبتنا، حين تنطوي ضمائرهم على فساد العقيدة وحين يعملون لحساب العدو الذي يستعبدنا ولحساب الصهيونية الهدامة التي لا تريد أن تبقى على بناء قديم. هؤلاء هم أخطر الأعداء، وهم أول ما ينبغي البدء به في تطهير الحصون وتنظيف الدار، لأن الأعداء والمارقين ظاهر أمرهم لا يخفون، وهم خليقون أن ينفِّروا الناس، فهم كالمريض الظاهر يتحاشاه الناس ولا يقتربون منه. أما هؤلاء فهم كالريض الذي لا يظهر المرض على بدنه، فالمخالطون لا يحتاطون لأنفسهم في مخالطته. وأكثر ما تتعرض الشعوب للخطر من هذا الفريق في أطوار ثورتها ونهضتها، لأنها في هذا الطور تمر في دور انسلاخ تحاول أن تطهير نفسها فيه من الأوضار ومن النقائص، فيُلبِّس هذا الفريق من المنافقين والضالين والمضللين عليها أمرها، ويزينون لها الباطل زاعمين لها أنه هو سبيل النهضة، ويوهمونها أن كثيرًا من عاداتها الصحيحة الأصيلة هي من
1 / 12
أسباب تخلفها وضعفها، ويزجون بها فيما رسمته عصابتهم من قبل وما قدَّرته من طرق ومسالك.
كتبت هذه الصفحات حين كتبتها لكي أفضح هذا النفر من المفسدين وأنبه إلى ما انكشف لي من أهدافهم وأساليبهم التي خُدعت بها أنا نفسي حينًا من الزمان مع المخدوعين، أسأل الله أن يغفر لي فيه ما سبق به اللسان والقلم. وإن مد الله في عمري رجوت أن أصلح بعض ما أفسدت مما أصبح الآن في أيدي القراء. وأكثره في بحث حصلت به على درجة (دكتور في الآداب) من جامعة القاهرة (فؤاد الأول وقتذاك)، ثم نشرته تحت اسم "الهجاء والهجاءون" (*).
وقد كان مصابي هذا في نفسي وفي تفكيري مما جعلني أقوى الناس إحساسًا بالكارثة التي يتردى فيها ضحايا هؤلاء المفسدين، وأشدهم رغبة في إنقاذهم منها، بالكشف عما خفي من أساليب الهدَّامين وشراكهم.
ومن الواضح أن هذه الصفحات لا تستقصي نشاط الهدامين ولا تستوعب كل ميادينهم ولا تحصيها عددًا، ولكنها تقدم نماذج منها تكشف عن أساليبهم في الدس والتزييف والهدم والتخريب، وهي أساليب لا يقتصر شرها على بلد دون بلد، فهي تعم بلاد العرب، بل بلاد المسلمين، بل الشرق كله، يسقونه السم على حين نهضته حتى لا تصح له نهضة، وليقودوه إلى الهاوية التي يوشك الغرب كله - شرقيه وغربيه - أن يتردى فيها. وسيعلم القارئ من بعد أن اصبع الصهيونية العالمية الهدامة التي تطمع في أن ترث الأرض وتستعبد كل من عليها لليهود من وراء هذه الدعايات والدعوات.
لذلك لم يكن من قصدي في هذه الصفحات أن أقنع الذين أنبه إلى خطورتهم، فأكثر هؤلاء دعاة وليسوا طلاب حق، لا يخرجهم من ضلالهم إلَّا أن يرزقهم الله الهداية، ويشرح صدورهم للِإيمان، ولا حرج عن فضل الله ولا يأس من رحمته. ولكن أكثر قصدي في هذه الكلمات كان إلى الشباب
_________
(*) أصلحت أخطاء الكتاب بقدر ما وسعته الطاقة في الطبعات التي ظهرت في بيروت منذ ١٩٦٩ م.
1 / 13
خاصة، أنبههم إلى ما قد يخفى عليهم من حيل الهدامين وأساليبهم. وشيء آخر كان بين عيني أيضًا حين كتبت هذه الكلمات، وهو أن أقوم بواجب في عنقي نحو ولاة أمورنا، وأن أعينهم بالنصح فيما أعلم ابتغاء لثواب الله، وإبراءً للذمة من عهدة لا تبرئنى منها إلَّا هذه الكلمات.
ولست أبالي أن يكون المنتفعون بهذه الكلمات والذين يعونها حق الوعي قلة من الناس، بل إني لا أطمع في أكثر من ذلك. ولكني أعلم أن الله سبحانه قد يْجُري خيرًا كثيرًا على يد نفر قليل إن أعان ووفق وبارك، وأنا أسأل الله العون والتوفيق، وأن يبارك جهود المخلصين ممن يبتغون بعملهم وجهه الكريم.
وصلى الله على سيدنا محمّد وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا.
في ٩ رجب ١٣٧٨ هـ
(١٨/ ١/ ١٩٥٩ م)
محمّد محمّد حسين
1 / 14
في الدراسات النفسية والاجتماعية
1 / 15
حُصُوننَا مُهَدَّدة مِن دَاخِلهَا*
يظن بعض الناس أن الدول القوية هي التي تملك عددًا ضخمًا من عدد القتال وآلاته، وتنتج مقادير هائلة من الصناعات التي تغمر أسواق العالم. وحقيقة الأمر أن هذه الدول لا تتاح لها القوة حتى يكون من وراء كل هذه العدة الهائلة وذلك الإِنتاج الضخم خلق متين يجمع أهلها ويشد بعضهم إلى بعض، ويعطف كل واحد منهم على أخيه، ويمنع عناصر الفساد وأسباب الفرقة والخلاف أن تتسرب إلى صفوفهم وتنخر عظامهم. إن الدول لا تسود ولا تعلو بالحديد والنار ولا بالمال، ولكنها تسود وتعلو بالخلق المتماسك. وأعلى مصادر الخلق المتماسك وأعمقها جذورًا وأدومها أثرًا هو الدين، فهو الذي يجمع الناس على التواد والتراحم ويقيهم ما طبعت عليه النفس البشرية من الشح، ويكف بعضهم عن بعض. وهذه هي دول الغرب، يستطيع كل ذي بصر أن يرى - كما رأى المؤرخ الإِنجليزي توينبي من قبل، منذ الحرب العالمية الأولى - مظاهر تدهورها وإنحلالها وهي في كامل مجدها الصناعي والآلي، لم يعوزها المال ولم تنقصها الآلات ولا المعارف الفنية ولا العلوم العقلية، ولكن أعوزها الخلق والدين، فسرى الفساد في جسدها ودب الخلاف في صفوفها. إن مظهر هذه الدول الضخم قد يخدع كثيرًا من الناس فيظنون أن نهايتها بعيدة، والحقيقة أن الدول الكبيرة لا تضمر ولا تذوي ولا تنكمش، ولكنها تنهار كما ينهار عمود الخشب الضخم الذي نخر السوس لبه.
_________
(*) نشرت في عدد المحرم وصفر سنة ١٣٧٧ من مجلة الأزهر.
1 / 17
كذلك انتهت كل الدول الكبرى من قبل، في أثينا وفي روما وفي بغداد وفي الأندلس وفي الأستانة. انتهت حين كانت ضخامتها ومظاهر الترف فيها تخدع الناظر عن السوس الذين ينخر عظامها.
وما ينبغي لنا أن نغفل عن هذا الدرس الماثل أمام أعيننا إن غفلنا عما حفظه التاريخ من دروس ومن عظات. يجب أن نعرف معرفة اليقين أن المتقدم الصناعي لا يغني عنا شيئًا إذا دبّ فينا دبيبُ الخلاف، فتفرقت بنا السبل وتوزعتنا الأهواء والآراء، ومزقتنا الدعوات المتنافرة التي ينقض بعضها بعضًا. والدين واللغة هما أهم دواعي الألفة والتماسك في كل مجتمع إنساني. فالدين هو الذي يوحّد العادات والأمزجة، فيجتمع الناس فيما يحبون وفيما يكرهون، وفيما يألفون وفيما يعافون، وفيما يستحسنونه وفيما ينفرون منه، على ألوان معينة من غذاء الأبدان والنفوس. واللغة هي الوعاء الذي يشتمل على ذلك كله، وهي أداة التفاهم التي لا يتم بدونها تواصل. ثم إنها بعد ذلك تجمع أمزجة الناس وأذواقهم على ألوان معينة من الأساليب البيانية في الجمال الفني. لذلك كانت المعاهد والمؤسسات التي تقوم على صيانة الدين واللغة هي بمثابة الحصون والمعاقل التي تسهر على حمايتنا وسلامتنا، وكانت العناية بأمرها خليقة أن تنال من اهتمامنا مثل ما تناله العناية بإِعداد العدة الحربية والصناعية بل أشد. وشر ما يطرأ على هذه المعاقل من الوهن أن تؤتىَ من بعض الذين وُكِلَ إليهم حمايتُها والدفاع عنها حين يخونون الأمانة، فيتسللون متلصصين إلى الأبواب يفتحونها للأعداء المهاجمين بِلَيْلٍ، والحماة الساهرون في غفلة لا يشعرون. من أجل ذلك سوف أتناول في هذه السلسلة بعض معاقل الدين واللغة، منبهًا إلى ما طرأ عليها من انحراف بعض حراسها.
ولا شك أن وزارات التربية والتعليم هي أهم هذه المعاقل والحصون الساهرة على أمن الشعوب وكيانها، لأنها هي المؤتمنة على أثمن ما تملكه الأمة من كنوز، وهى الثروة البشرية بما تنطوي عليه من قوى مادية ومن ملكات عقلية وخلقية، ممثلة في رجال الغد الذين تشرف على تربيتهم، وهي ثروة تتضاءل إلى جانبها كل كنوز الأرض، لأن كنوز الأرض لا تساوي شيئًا بدونها.
1 / 18
فالعقل هو الذي يستخرجها من مكامنها ويحيلها من مادة صماء جامدة إلى قوة حية منتجة، والخلق المديني هو الذي يدفع الناس إلى إعمال هذا العقل في الطريق الصحيح، وإلى بذل الجهد فيما وكل إليهم من أمور، أداءًا للأمانة، وابتغاءًا للعزة والسيادة وإعلاء الحق.
وقد أصبحت مطامع أمريكا في هذه المنطقة وعداوتُها لحماتها الذين يتصدون لحراستها ويتزعمون نهضتها مشهورة لا تخفى ولا تحتاج إلى تنبيه. فاتصال القائمين على شؤون التربية والتعليم في هذه الأمة العربية بالؤسسات الأمريكية، والتعاوُن معها في ترويج مبادئ وأساليب يقال إن المقصود بها هو رفع مستوى التعليم وإصلاح شؤون الجيل الجديد، أمر لا يصدّقه العقل ولا يتفق مع ما يبذلون من محاولات ظاهرة وخفية لابتلاع هذه الأمة والكيد لها. فالذين يشتركون في المؤتمرات الأمريكية، والذين يتعاونون مع دور النشر الأمريكية، وكلها يموَّل من مصادر مريبة، يَسْخرون من عقولنا، ويخدعون أنفسهم إن زعموا أنهم يخدمون أمتهم بالاشتراك في هذه المؤسسات، لأن الأموال الأمريكية التي تنفق بسخاء يبلغ حد السّفه على هذه المؤتمرات وعلى هذه الدور لا يمكن أن تستهدف خير هذه الأمة ونفع أهلها.
وقد وقع بين يدي في هذه الأيام كتاب أصدرته الجامعة الأمريكية ببيروت في العام الماضي (يوليو ١٩٥٦)، يحتوي على محاضرات في نظم التربية، هي سجل لما دار في مؤتمر دعت إليه هذه الجامعة، واشترك فيه جماعة من كبار المسؤولين عن التربية في مصر وفي سوريا والعراق والاردن ولبنان. وقد مُثِّلت ثلاثة من هذه البلاد في ذلك المؤتمر الأمريكي بثلاثة وزراء سابقين للتربية والتعليم. فمثلت مصر باسماعيل القباني، ومثلت العراق بعبد الحميد كاظم، ومثلت الأردن بأحمد طوقان، والأخيران من تلاميذ الجامعة الأمريكية الداعية لعقد هذا المؤتمر، وقد كان العضو الأردني يشغل عند عقد هذا المؤتمر منصب مستشار لشؤون اللاجئين الفلسطينيين في منظمة الإِغاثة الدولية. أما البلدان الباقيان - سوريا ولبنان - فقد مثلهما رجلان من كبار المسؤولين عن التعليم وهما جميل صليبا عميد كلية التربية في الجامعة السورية، ونجيب صدقة المدير العام لوزارة التربية الوطنية والفنون في لبنان. وقد اشترك مع إسماعيل القباني
1 / 19
في هذا المؤتمر عضو مصري آخر هو حامد عمار الأستاذ في معهد التربية العالي بجامعة عين شمس ورئيس قسم التدريب في المركز الدولي للتربية الأساسية في العالم العربي بسرس الليان.
وهذا المركز الدولي للتربية الأساسية في العالم العربي لا عمل له إلا (سلخ) الريف العربي من دينه وخلقه وعروبته، و(طبعه) بالطابع الأمريكي، وهو يتولى هذه المهمة إتمامًا لما بذله الغرب من جهود في فرنجة هذه المنطقة، بعد أن تبين المستشرقون الذين يبحثون في شؤون هذا الشرق الإِسلامي والعربي أن تأثير الفرنجة أو ما يسمون (westernization) لم يتجاوز المدن، لأن كل الوسائل والأساليب التي يستخدمها الغربيون في هذا الصدد من صحافة ودعاية ومؤسسات علمية أو اجتماعية وسينما وشراء للأقلام وللذمم وللرجال إلى آخر ما هنالك، كل ذلك لا يصل إلى الريف، ولا يتجاوز حدود المدن. فما الذي صنعته امريكا لتلافي هذا النقص، والاحتيال لدخول الريف الذي عجز التبشير وعجزت الأساليب الاستعمارية العتيقة عن اقتحامه إلى ما قبل الحرب العالمية الأخيرة؟ اخترعت أمريكا تحت ستار (الدولية) وعن طريق (الأمم المتحدة) شيئًا اسمه "التربية الأساسية". وما هي التربية الأساسية؟ يقول الدكتور حامد عمار في بحثه الذي ألقاه في هذا المؤتمر الأمريكي: "التربية الأساسية منهج من مناهج الإِصلاح الاجتماعي لرفع مستوى المعيشة يؤكد قيمة العملية التربوية وتغيير الأفكار والنزعات إلى جانب تغيير الأوضاع المادية - ص ٩٢ محاضرات في نظم التربية". ويقول في موضع آخر: "تسعى التربية الأساسية إلى محاولة تغيير الأفكار والنزعات والاتجاهات، كما تسعى إلى تغيير في الأوضاع المادية في الدائرة التي تلتزمها. ويؤمن دعاة التربية الأساسية أن كل عمل أو مشروع مادي لا بد أن يسبقه ويصاحبه ويتبعه تغيير في تفكير الناسِ، وفي الاتجاهات الفكرية والنفسية، حتى يمكن أن يكون العمل منتجًا إنتاجًا كاملًا - ص ٨٥".
وواضح أن تغيير الأفكار والنزعات والاتجاهات الذي أشار إليه الباحث يقوم على أسس غريبة خالصة، تروَّج باسم العلم - علم مزعوم لا يستقر له قرار ولا يقطع في ظاهرة برأيٍ يتفق عليه أصحابُ الرأي، يسمونه "علم
1 / 20
النفس" - وواضح أيضًا أن هذا (التغيير) - تغيير الأفكار والنزعات والاتجاهات - لا يبالي أن يخالف الإِسلام وتعاليمه في الريف المسلم، لأن القائم على هذا (التغيير) ليس هو مشيخة الأزهر، ولكن القائم عليه هم مجموعة من الخواجات) يختفون خلف الشخوص العربية التي تبدو للناظر وكأنها تتحرك بإرادتها، وواقع الأمر أنها لا إرادة لها، وأنها تسير في خطوط مرسومة، وحسب خطط مدبرة قدرها أناس أقل ما يوصفون به أنهم لا يبالون بإِلاسلام وتعاليمه، دائمًا يكونوا معادين لها يعملون على محوها واستئصالها من نفوس الناس. ولهم في ذلك أساليب خبيثة يتسللون عن طريقها إلى قلوب أهل الريف السذج الغافلين. وسوف لا أصف لك أنا هذه الأساليب ولكني سأدع العضو العربي المحترم في هذا المؤتمر الأمريكي يقدم لك صورًا منها بألفاظه كما جاءت في الكتاب الذي بين يدي.
فأول مراحل العمل في الريف هي "مرحلة التعرف"، (وهدفها أن يتحسس العامل الاجتماعي طريقه في القرية بصورة عامة وأن يألفه الناس ويألفهم ... ومن المستحسن أن تكون هذه المرحلة من العمل مرحلة فيها شىِء من الاسترخاء وأخذ الأمور بمأخذ غير محدد، إذ أن هذا الهدوء والاسترخاء ضروريان لتأسيس العلاقات الاجتماعية وتنميتها، وبخاصة إذا تذكرنا أن الفلاح سريعًا ما تأخذه الريبة ويتولاه الشك إذا تعيين إلحاحًا من غريب عليه في أمر من الأمور ... ثم إنه لا بد من التعرف على قادة القرية الطبيعيين الذين يعتبرون عناصر فعالة في تكوين الرأي العام والتأثير فيه ... وليس من المهم أن يكون هؤلاء القادة من النوع الذي يرغب فيه المصلح، لكنه لا بد من الاعتراف بهم واستغلالهم).
(وإذا كان التعرف يتطلب الاتصال والزيارة ومبادلة الحديث فإِن هذا شرط لازم، وليس بكاف في كثير من الأحيان. وربما كان القيام بعمل إنشائي سريع من أنجح الوسائل لكسب الثقة وتأسيس علاقة طيبة مع الأهلين ... وقد تبين بالتجربة أن دق طلمبة مياه بالقرية، أو إصلاح خزان المياه بالجامع، أو مقاومة الآفات الحشرية في الزراعة، كان من أقوى العوامل التي وثَّقت الصلة بين أهل القرية ويبن المشرفين على مختلف جوانب الخدمة الاجتماعية
1 / 21