How to Love God and Long for Him
كيف نحب الله ونشتاق إليه
Editorial
مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة
Número de edición
الأولى
Año de publicación
١٤٢٨ هـ - ٢٠٠٧ م
Ubicación del editor
القاهرة
Géneros
كيف نحب الله
ونشتاق إليه؟
مجدي الهلالي
www.alemanawalan.com
Página desconocida
جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى
١٤٢٨هـ - ٢٠٠٧م
رقم الإيداع: ٢٥١٢١/ ٢٠٠٦
الترقيم الدولي: I.S.B.N
٩٧٧ - ٤٤١ - ٠٠٩ - ٢
مؤسسة اقرأ
للنشر والتوزيع والترجمة
١٠ ش أحمد عمارة - بجوار حديقة الفسطاط
القاهرة ت: ٥٣٢٦٦١٠ ... محمول:٠١٠٢٣٢٧٣٠٢ - ٠١٠١١٧٥٤٤٧
www.iqraakotob.com
Email:info@iqraakotob.com
1 / 1
المقدمة
بالله أستعين
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام على الحبيب المصطفى محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد ..
الحب - كما نعلم - جزء أصيل من مشاعر الإنسان، وهو معاملة قلبية يشعر من خلالها المرء بميله وانجذابه إلى الآخر.
والواقع المشاهد يخبرنا بأنه عندما يتمكن الحب في القلب بين شخصين فإننا نجد آثار هذا الحب بادية في تعامل أحدهما مع الآخر، فتجد كلًا منهما يكثر من ذكر محبوبه، ويشتاق دومًا إلى رؤيته، ويرغب في الخلوة به، ويأنس بقربه، ويغضب من أجله، ويغار عليه .. يُقرَّب من يحبه محبوبه، ويُبعد من يبعده، يطيع أوامره بسعادة وحبور، ويضحي من أجله، ويفرح بهداياه مهما صغرت.
فهذه وغيرها بعض آثار الحب عندما يتمكن من قلوب البشر تجاه بعضهم البعض.
فكيف ينبغي أن تكون هذه الآثار عندما يصبح المحبوب هو المحبوب الأعظم؟!
كيف يكون حال من يتمكن حب الله من قلبه؟!
بلا شك أن آثارًا عظيمة ستظهر على هذا المحب الصادق لمولاه ﷾، ستراه دومًا يكثر من ذكره ويأنس بقربه، ويستوحش مما سواه، ويحب الخلوة به ومناجاته، يسارع في طاعته ويعمل دومًا على رضاه، يغار على محارمه، ويغضب من أجله، يفرح بعطاياه ويشكره دومًا عليها، يضحي بالغالي والرخيص من أجله، يرضى بكل ما يقضيه له، ويبذل غاية جهده في خدمته، ويشتاق دومًا إلى رؤيته.
ولكننا نحب الله!
فإن قال قائل: ولكننا نحب الله ومع ذلك لا نشعر بكل هذه العلامات.
نعم، في القلوب حب لله ﷿، ولكنه في الغالب لم يصل للدرجة التي تهمين وتسيطر على المشاعر وتحتل الجزء الأكبر منها، فمع وجود قدر من حب الله في القلب إلا أن هناك محاب أخرى تشوش عليه، وتنازعه المكان مثل حب المال والزوجة والأولاد والنفس و...
وليس معنى هذا أن المطلوب هو تجريد مشاعر الحب من هذه الأمور، بل المطلوب أن يكون حب الله أكبر منها جميعًا كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ﴾ [البقرة: ١٦٥] فإن لم يحدث هذا فلن تظهر تلك العلامات، وهذا ما أكده ﷺ بقوله: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما» (١) .. الحديث.
فلكي يجد المؤمن حلاوة الإيمان لا بد أن تكون مساحة حب الله في قلبه أكبر من مساحة حبه لما سواه من المحاب الأخرى مجتمعة.
المعرفة طريق المحبة
المحبة ما هي إلا صورة من صور المعاملة التي ينبغي أن يعامل بها العبد ربه، وأكبر عامل يؤثر ويحدد درجة المعاملة هو المعرفة.
فكلما ازدادت المعرفة بالله تحسنت درجة معاملة العبد له، وازداد له حبًا وإجلالا وهيبة وخشية، وفي المقابل عندما يجهل الإنسان ربه، ولا يعرف قدره فإن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى أن يعامله معاملة لا تليق بجلاله وكماله، فيخشى الناس أكثر مما يخشاه، ويحب نفسه وماله وعقاراته أكثر مما يحب ربه، ويجتهد في التزيُّن للآخرين دون أن يبالي بربه.
_________
(١) متفق عليه.
1 / 2
فالسبب الأول لإعراض الناس عن الله، واستهانتهم بأوامره هو جهلهم بقدره سبحانه .. ﴿وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ - وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [فصلت: ٢٢،٢٣].
ويؤكد الحافظ ابن رجب على أن المعاملة على قدر المعرفة بقوله:
لا قوت للقلب والروح، ولا غذاء لهما سوى معرفة الله تعالى، ومعرفة عظمته وجلاله وكبريائه. فيترتب على هذه المعرفة: خشيته، وتعظيمه، وإجلاله، والأنس به، والمحبة له، والشوق إلى لقائه، والرضا بقضائه (١).
المعرفة النافعة
المعرفة المؤثرة النافعة ليست تلك التي تخاطب العقل فقط، فالكثير من الناس يتحدث عن الله حديثًا جميلا ومبهرًا، فإذا ما نظرت لواقعه وجدت فعله بعيدًا عن قوله فلا خشية ولا تقوى ولا مهابة ولا إجلال لله ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُّخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُّدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾ [يونس: ٣١].
فإن أردنا معرفة تؤثر في المعاملة فلا بد أن يتم مخاطبة العقل والقلب معًا، وأن تستمر تلك المخاطبة حتى يستقر مدلولها في قلب ومشاعر الإنسان فتُشكل مقامًا إيمانيًا مستقرًا في القلب يظهر أثره في سلوك العبد وأعماله ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ﴾ [الحج: ٥٤].
معنى ذلك أن الطريق الأساسي لرحلة المحبة يبدأ من بوابة المعرفة الحقة بالله ﷿، على أن تخاطب تلك المعرفة: الفكر والوجدان.
يقول ابن تيمية: وأصل المحبة هو معرفة الله ﷾ (٢).
ومع هذه المعرفة، لا بد من القيام بأعمال تؤكد وترسخ مدلول الحب في قلوبنا فيزداد استقرارًا وهيمنةً على مشاعرنا: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا﴾ [النساء: ٦٦].
وفي الصفحات القادمة سيكون الحديث بمشيئة الله عن أهمية المحبة وثمارها ونقطة البداية لرحلة المحبة مع ذكر بعض الوسائل العملية التي من شأنها أن تسير بنا قُدمًا في طريق حب الله ﷿، لعلنا نستنشق نسيم الأنس به في الدنيا، فتزداد قلوبنا شوقًا إليه سبحانه، لتكون أسعد لحظاتنا تلك اللحظات التي تقُبض فيها أرواحنا ونبشر من الملائكة بلقاء الحبيب جل وعلا وهو راض عنا.
* * *
_________
(١) مجموعة رسائل ابن رجب ٢/ ٤٦٧.
(٢) التحفة العراقية في الأعمال القلبية لابن تيمية /٦١.
1 / 3
تمهيد لابد منه
حول علاقة المحبة بالعبودية
والتحذير من التركيز عليها
دون غيرها من ألوان العبودية
1 / 4
تكامل العبودية
العبودية الحقة لله ﷿ تعني في حقيقتها اتجاه الجزء الأكبر من مشاعر العبد نحوه سبحانه، حتى ينعكس ذلك على معاملته له بمقتضى الحال التي يعيشها والأحداث التي يمر بها، ليتمثل فيه قوله ﷺ: «عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له» (١).
هذه هي العبودية الحقة من المؤمن لله ﷿، أن يعبده سبحانه، وتتجه مشاعره نحوه حسب الحالة التي يمر بها، فتجده يتقلب بين الخوف والرجاء والرضا والفرح والانكسار و...
أما العبودية الناقصة فهي تتمثل في التركيز على جانب أو جوانب بعينها وترك أخرى، فهذا الأمر له أضرار كثيرة، ومنزلقات خطيرة.
يقول ابن رجب: وقد عُلم أن العبادة إنما تنبني على ثلاثة أصول: الخوف والرجاء والمحبة، وكل منها فرض لازم، والجمع بين الثلاثة حتم واجب، فلهذا كان السلف يذمون من تعبد بواحد منها وأهمل الآخرَين.
فإن بدع الخوارج ومن أشبههم إنما حدثت من التشديد في الخوف والإعراض عن المحبة والرجاء.
وبدع المرجئة نشأت من التعلق بالرجاء وحده، والإعراض عن الخوف. وبدع كثير من أهل الإباحة والحلول - ممن ينسب إلى التعبد - نشأت من إفراد المحبة والإعراض عن الخوف والرجاء (٢).
سياج المحبة
معنى ذلك أن عبادة الله بالمحبة فقط لها مخاطرها ومنزلقاتها.
يقول ابن تيمية: الحب المجرد تتبسط النفوس به حتى تتسع في أهوائها إذا لم يزعها وازع الخشية لله، حتى قالت اليهود والنصاري ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨] (٣).
لذلك كان مقياس المحبة الصادقة لله ﷿ هو ظهور علاماتها التي بينها الله في كتابه، وبينها رسوله في سنته والتي سيأتي بيانها بشيء من التفصيل في الصفحات القادمة.
يقول ابن تيمية:
فاتباع سنة الرسول ﷺ واتباع شريعته هي موجب محبة الله، كما أن الجهاد في سبيله، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه هو حقيقتها، كما في الحديث «أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله» (٤).
وكثير ممن يدَّعي المحبة هو أبعد من غيره عن اتباع السنة، وعن الأمر بالمعروف، وعن النهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، ويدَّعي مع هذا أن ذلك أكمل لطريق المحبة من غيره، لزعمه أن طريق المحبة لله ليس فيه غيرة، ولا غضب لله، وهذا خلاف ما دل عليه الكتاب والسنة، ولهذا في الحديث المأثور: «يقول الله تعالى يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي» (٥).
فقوله: أين المتحابون بجلال الله، تنبيه على ما في قلوبهم من إجلال الله وتعظيمه والتحاب فيه، وبذلك يكونون حافظين لحدود الله، دون الذين لا يحفظون حدوده لضعف الإيمان في قلوبهم (٦).
ضرورة التوازن
لا بد إذن من التوازن بين ألوان العبودية، وأن نقرأ الأحاديث والأخبار الواردة في كل باب من أبواب العبودية لله فنضعه في حجمه المناسب، وألا نجعل جانبًا يطغى على الآخر.
قال ﷺ: «لو تعلمون قدر رحمة الله لاتكلتم وما عملتم من عمل، ولو علمتم قدر غضبه ما نفعكم شيء» (٧).
فكما أنه ينبغي للمسلم أن يفتح لقلبه بابًا لحب الله والرجاء فيه، فعليه كذلك أن يفتح بابًا للخوف منه سبحانه وخشيته.
لا بد من فتح هذين البابين لكي نحقق مراد الله في قوله تعالى: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللهِ﴾ [الذاريات:٥٠].
فمن رجا شيئًا طلبه، ومن خاف شيئًا هرب منه، فعلينا أن نطلب رضا الله ومحبته والقرب منه، ونفر من كل ما يغضبه فنحقق بذلك حقيقة الفرار إلى الله.
أما إذا فتحنا باب الخوف فقط فسيكون الفرار من الله لا إليه، وفي المقابل فإن العكس يخدع النفس ويدفعها للغرور.
قال أبو سليمان: من حَسُن ظنه بالله ﷿ ثم لا يخاف الله فهو مخدوع (٨).
_________
(١) رواه مسلم.
(٢) استنشاق نسيم الأنس لابن رجب/ ١٨ - ٢١.
(٣) التحفة العراقية في الأعمال القلبية لابن تيمية ٥٩.
(٤) حسن، حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (٩٩٨).
(٥) رواه مسلم (٢٥٦٦).
(٦) النحفة العراقية /٦٠.
(٧) أورده الهيثمي في مجمع الزوائد ١٠/ ٣٨٤.
(٨) حسن الظن بالله لابن أبى الدنيا /٢٧.
1 / 5
وهذا أحد السلف وهو عبد الواحد بن زيد يسأل زياد النميري: ما منتهى الخوف؟
قال: إجلال الله عن مقام السيئات.
فقال: ما منتهى الرجاء؟
قال: تأمل الله على كل الحالات (١).
رحلة المحبة
ولأننا في هذه الصفحات نتناول عبودية المحبة، وكيف ننميَّها في قلوبنا، فإن الحديث سيكون بمشيئة الله وعونه منصبًا على كل ما يستثير مشاعر الحب لله ﷿ والرجاء فيه، لذلك أطلب منك ومن نفسي - أخي القارئ - ألا تنسى هذه الكلمات التي تم ذكرها في هذا التمهيد وأنت تقرأ الصفحات القادمة، ونفس الأمر سنطلبه منك بمشيئة الله عندما نتحدث عن عبودية الخوف والخشية لله ﷿ في موضع آخر.
كيف نفتح باب المحبة؟!
يقول ابن عطاء في حكمه:
إذا أردت أن ينفتح لك باب الرجاء فاشهد ما منه إليك، وإذا أردت أن ينفتح لك باب الخوف فاشهد ما منك إليه.
ونحن هنا في هذه الصفحات نريد - بعون الله وكرمه - أن ينفتح لنا باب الحب والرجاء في الله، لذلك سيكون غالب الحديث في التعرف على الله الودود، ومظاهر معاملته الحانية لنا.
* * *
_________
(١) المصدر السابق/ ٧٧.
1 / 6
الفصل الأول
أهمية المحبة الصادقة
من العبد لربه
1 / 7
الثمار الحلوة
كلما تعرف العبد على مظاهر حب ربه له، وسيطرت هذه المعرفة على مشاعره انعكس ذلك على علاقته به سبحانه فيزداد له حبًا وشوقًا.
وعندما يملأ هذا الحب القلب ستكون له بلا شك ثمار عظيمة تظهر في سلوك العبد وأعماله، هذه الثمار من الصعب الحصول عليها من أي شجرة أخرى غير شجرة الحب، فالحب يُخرج من القلب معانٍ للعبودية لا يخرجها غيره.
يقول ابن تيمية: فمن لا يحب الشيء لا يمكن أن يحب التقرب إليه، إذ التقرب إليه وسيلة، ومحبة الوسيلة تبع لمحبة المقصود (١).
وإذا كانت المحبة أصل كل عمل ديني، فالخوف والرجاء وغيرهما يستلزم المحبة ويرجع إليها، فإن الراجي الطامع إنما يطمع فيما يحبه لا فيما يبغضه، والخائف يفر من المخوف لينال المحبة ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾ [الإسراء: ٥٧] (٢).
ولهذا اتفقت الأُمتان من قبلنا على ما عندهم من مأثور وحكم عن موسى وعيسى أن أعظم الوصايا: أن تحب الله بقلبك وعقلك وقصدك، وهذه هي حقيقة الحنيفية ملة إبراهيم التي هي أصل شريعة التوراة والإنجيل والقرآن (٣).
لذلك أدعو نفسي، وأدعوك أخي القارئ إلى الاهتمام بغرس بذور محبة الله في القلب، وتعهدها بالأعمال الصالحة حتى يصير الله ﷿ أحب إلينا من كل شيء ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ﴾ [البقرة: ١٦٥]. عند ذلك سنجد الثمار الحلوة أمامنا دون عناء أو مشقة.
ومن هذه الثمار المتوقعة:
أولًا: الرضا بالقضاء
عندما يتعرف الواحد منا على مدى حب ربه له وحرصه عليه فإن هذا من شأنه أن يدفعه دومًا للرضى بقضائه، وكيف لا وقد أيقن أن ربه لا يريد له إلاّ الخير، وأنه ما خلقه ليعذبه، بل خلقه بيده، وكرمه على سائر خلقه ليدخله الجنة، دار النعيم الأبدي، ومن ثمَّ فإن كل قضاء يقضيه له ما هو إلا خطوة يمهد له من خلالها طريقه إلى تلك الدار، فالأقدار المؤلمة والبلايا ما هي إلا أدوات تذكير يُذكِّر الله بها عباده بحقيقة وجودهم في الدنيا وأنها ليست دار مقام بل دار امتحان، وأن عليهم الرجوع إليه قبل فوات الأوان ﴿وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الزخرف: ٤٨]، ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الأدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [السجدة: ٢١].
_________
(١) التحفة العراقية /٥١.
(٢) المصدر السابق.
(٣) المصدر السابق/٥٤.
1 / 8
وهي كذلك أدوات تطهير من أثر الذنوب والغفلات التي يقع فيها العبد «ما يصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه» (١).
فجميع الأقدار التي يُقدَّرها الله ﷿ لعباده تحمل في طياتها الخير الحقيقي لهم وإن بدت غير ذلك.
فعلى سبيل المثال: الرزق، فالله ﷿ يبسط الرزق للبعض ويضيقه على البعض لعلمه سبحانه بما يصلح عباده، ألم يقل سبحانه ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ [الشورى: ٢٧].
فمنعه الرزق الوفير عن بعض الناس ما هو إلا صورة من صور رحمته، وشفقته بهم. قال ﷺ: «إن الله تعالى ليحمي عبده المؤمن من الدنيا، وهو يحبه، كما تحمون مريضكم الطعام والشراب تخافون عليه» (٢).
هذه المعاني العظيمة لا يمكن تذكرها واستحضارها بصورة دائمة، وممارسة مقتضاها في الحياة العملية إلا إذا تمكن حب الله من القلب وهيمن عليه، فمفتاح: ﴿رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ هو: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة: ٥٤].
جاء في الأثر أن الله تعالى يقول: «معشر المتوجهين إليَّ بحبي، ما ضركم ما فاتكم من الدنيا إذا كنت لكم حظًا، وما ضركم من عاداكم إذا كنت لكم سلمًا» (٣).
وكان عامر بن عبد قيس يقول: أحببت الله حبًا سهل عليَّ كل مصيبة، ورضاني بكل قضية، فما أبالي مع حبي إياه ما أصبحت عليه وما أمسيت (٤).
نعم، أخي فإننا إن أحببنا الله حبًا صادقًا أحببنا كل ما يرد علينا منه سبحانه.
لما قدم سعد بن أبي وقاص إلى مكة، وقد كان كُفَّ بصره، جاءه الناس يهرعون إليه، كل واحد يسأله أن يدعو له، فيدعو لهذا ولهذا، وكان مجاب الدعوة، فأتاه عبد الله بن أبي السائب فقال له: يا عم، أنت تدعو للناس فلو دعوت لنفسك، فرد الله عليك بصرك؟ فتبسم وقال: يا بنيَّ، قضاء الله سبحانه عندي أحسن من بصري.
وكان عمران بن الحصين قد استسقى بطنه، فبقي ملقى على ظهره ثلاثين سنة لا يقوم ولا يقعد، قد نقب له في سرير من جريد كان عليه موضع لقضاء حاجته، فدخل عليه مطّرف وأخوه العلاء، فجعل يبكي لما يراه من حاله، فقال: لم تبكي؟ قال: لأني أراك على هذه الحالة العظيمة قال: لا تبك، فإن أحَبَّه إلى الله أحبه إليّ (٥).
ثانيًا: التلذذ بالعبادة وسرعة المبادرة إليها
كلما ازداد حب العبد لربه ازدادت مبادرته لطاعته واستمتاعه بذكره، وكان هذا الحب سببًا في استخراج معاني الأنس والشوق إلى محبوبه الأعظم، والتعبير عنها من خلال ذكره ومناجاته.
هذه المعاني ما كانت لتخرج إلا إذا فُتح لها باب الحب، فالمحب يقبل على محبوبه بسعادة، ويطيع أوامره برضى، لا تحركه لتلك الطاعة سياط الخوف من عقوبة عدم أدائه للعمل، بل يحركه ما حرك موسى ﵇ عندما قال لربه ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾ [طه: ٨٤] وكذلك ما جعل رسولنا ﷺ يقول لبلال: «أرحنا بها يا بلال».
إن هناك بالفعل سعادة حقيقية ومتعة وشعور باللذة والنعيم يجدها المحب في مناجاته وذكره وخلوته بربه، وهذا ما يُطلق عليه: «جنة الدنيا»، هذه الجنة من الصعب علينا أن ندخلها من غير باب المحبة.
_________
(١) متفق عليه.
(٢) صحيح، أخرجه الإمام في المسند، والحاكم عن أبي سعيد، وصححه الألباني في صحيح الجامع (١٨١٤).
(٣) المحبة لله سبحانه للإمام الجنيد/٦٠ - دار المكتبي.
(٤) استنشاق نسيم الأنس لابن رجب/ ٣٦.
(٥) صلاح الأمة في علو الهمة ٤/ ٥١٦.
1 / 9
قال أحد الصالحين: مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله تعالى ومعرفته وذكره.
وقال آخر: إنه لتمر بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب (١).
ثالثًا: الشوق إلى الله
عندما يتمكن حب الله من قلب العبد، فإن هذا من شانه أن يجعله دومًا حريصًا على اغتنام أية فرصة تتاح له فيها الخلوة به سبحانه وبذكره ومناجاته، وجمع قلبه معه، وشيئًا فشيئًا تستثار كوامن الشوق إليه سبحانه، وتستبد بالقلب، وتلح عليه في طلب رؤيته، ليأتي العِلم فيخبره بأنه لا رؤية ولا لقاء لله في الحياة الدنيا، بل بعد الموت، فيزداد الشوق إلى هذا اللقاء، وأي لقاء:
لقاء المحبوب الأعظم الذي ناجاه لسنوات طويلة، وسكب الدمع في محرابه.
لقاء من دعاه في أوقات عصيبة فوجده منه قريبًا، ولدعائه مجيبًا.
لقاء من كفاه وحماه وأعانه على نفسه وعدوه.
لقاء من أعطاه وأكرمه وحفظه ورعاه وبكل بلاء حسن أبلاه.
يقول الحسن البصري: إن أحباء الله هم الذين ورثوا الحياة الطيبة وذاقوا نعيمها بما وصلوا إليه من مناجاة حبيبهم، وبما وجدوا من حلاوة في قلوبهم، لاسيما إذا خطر على بالهم ذكر مشافهته وكشف ستور الحجب عنه في المقام الأمين والسرور، وأراهم جلاله وأسمعهم لذة كلامه ورد عليهم جواب ما ناجوه به أيام حياتهم (٢).
فالشوق إلى الله - إذن - ثمرة من ثمار تمكن حبه في قلب العبد، ويؤكد ابن رجب على ذلك بقوله:
الشوق إلى الله درجة عالية رفيعة تنشأ من قوة محبة الله ﷿، وقد كان ﷺ يسأل الله هذه الدرجة (٣).
ففي دعائه ﷺ «اللهم إني أسألك الرضى بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة» (٤) فهو ﷺ يسأل ربه الشوق إلى لقائه دون وجود أسباب ضاغطة عليه تدعوه لذلك مثل: ضراء الدنيا وأقدارها المؤلمة، أو الفتن في الدين المضلة، أو بمعنى آخر أن يكون الشوق إلى الله ناشئًا عن محض المحبة.
جاء في الأثر أن الله ﵎ يقول:
ألا قد طال شوق الأبرار إلى لقائي، وإني إليهم لأشد شوقًا، وما شوق المشتاقين إليَّ إلا بفضل شوقي إليهم. ألا من طلبني وجدني، ومن طلب غيري لم يجدني، من ذا الذي أقبل عليَّ فلم أقبل عليه؟ ومن ذا الذي دعاني فلم أجبه؟ ومن ذا الذي سألني فلم أعطه (٥).
رابعًا: التضحية من أجله والجهاد في سبيله
المحبة الصادقة لله ﷿ تدفع صاحبها لبذل كل ما يملكه من أجل نيل رضا محبوبه، وليس ذلك فحسب بل إنه يفعل ذلك بسعادة، وكل ما يتمناه أن تحوز هذه التضحية على رضاه.
تأمل معي ما حدث من عبد الله بن جحش ليلة غزوة أحد عندما قال لسعد بن أبي وقاص: ألا تأتي ندعو الله تعالى، فَخَلَوا في ناحية، فدعا سعد، فقال: يا رب إذا لقينا العدو غدًا فَلَقِّني رجلًا شديدًا بأسه، شديدًا حرده، أقاتله ويقاتلني، ثم ارزقني الظفر عليه حتى أقتله فآخذ سلبه فأمَّن عبد الله، ثم قال: اللهم ارزقني غدًا رجلًا شديدًا بأسه، شديدًا حرده، أقاتله ويقاتلني، ثم يأخذني، فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك غدًا قلت لي: يا عبد الله فيم جُدع أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول: صدقت.
قال سعد: كانت دعوته خيرًا من دعوتي، فلقد رأيته آخر النهار، وإن أنفه وأذنه لمعلق في خيط (٦).
_________
(١) الوابل الصيب ص٩٧.
(٢) شرح حديث لبيك اللهم لبيك لابن رجب ص ٨٩ - دار عالم الفوائد.
(٣) استنشاق نسيم الأنس /٩٣.
(٤) أخرجه الطبراني.
(٥) المحبة لله سبحانه للجنيد /١١١.
(٦) سير أعلام النبلاء للذهبي ١/ ١١٢.
1 / 10
وفي يوم من الأيام رأى رسول الله ﷺ مصعب بن عمير يمشي وعليه إهاب كبش قد تمنطق به، فقال النبي ﷺ: «انظروا إلى هذا الرجل الذي قد نور الله قلبه، ولقد رأيته بين أبوين يغذيانه بأطيب الطعام والشراب فدعاه حب الله ورسوله إلى ما ترون» (١).
فالتضحية والجهاد من أعظم دلائل المحبة.
خامسًا: الرجاء والطمع فيما عند الله
فكلما اشتد الحب اشتد الرجاء في الله وحسن الظن فيه ألا يلقي حبيبه في النار، فالمحب لا يعذب حبيبه كما جاء الرد الإلهي على اليهود عندما قالوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم﴾ [المائدة: ١٨].
وفي الحديث أنه ﷺ قال: «والله، لا يلقي الله حبيبه في النار» (٢).
مرض أعرابي فقيل له: إنك تموت. قال: وأين أذهب؟ قالوا: إلى الله. قال: فما كراهتى أن أذهب إلى من لا أرى الخير إلا منه (٣).
وكان سفيان الثوري يقول: ما أُحب أن حسابي جعل إلى والديَّ، ربي خير لي من والدي (٤).
وقال ابن المبارك: أتيت سفيان الثوري عشية عرفة وهو جاث على ركبته وعيناه تهملان فبكيت، فالتفت إلى فقال: ما شأنك؟ فقلت: من أسوأ أهل الجمع حالا؟ قال: الذي يظن أن الله لا يغفر له (٥).
سادسًا: الحياء من الله
فالمحب الصادق في حبه لله ﷿ يستحي أن يراه حبيبه في وضع مشين، أو مكان لا يحب أن يراه فيه، فإذا ما وقع في معصية أو تقصير سارع بالاعتذار إليه واسترضائه بشتى الطرق.
بل إن أي بلاء يتعرض إليه يجعله قلقًا بأن يكون هذا البلاء مظهر من مظاهر لوم الله له وغضبه عليه، لذلك تجده حينئذٍ يهرع إلى مولاه يسترضيه ويتذلل إليه ويستغفره، ويطلب منه العفو والصفح.
ويتجلى هذا الأمر جيدًا في دعاء رسولنا ﷺ بعد أحداث الطائف وما تعرض فيها من استهزاء وتضيق وإيذاء، فكان مما قاله لربه «... إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، لكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة: أن ينزل بي غضبك أو يحل علىّ سخطك، لك العتبي (٦) حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك».
وفي هذا المعنى يقول ابن رجب: إن محبة الله إذا صدقت أوجبت محبة طاعته وامتثالها، وبغض معصيته واجتنابها، وقد يقع المحب أحيانًا في تفريط في بعض المأمورات، وارتكاب بعض المحظورات، ثم يرجع إلى نفسه بالملامة، وينزع عن ذلك، ويتداركه بالتوبة (٧).
سابعًا: الشفقة على الخلق
من الثمار العظيمة للحب الصادق تلك الشفقة التي يجدها المحب في قلبه تجاه الناس جميعًا بخاصة العصاة منهم، وكيف لا وقد علم أنه ما من أحد من البشر إلا وفيه نفخة علوية كرَّمه الله بها على سائر خلقه، وأن الذي يرضيه - سبحانه - هو عودة الجميع إليه ودخولهم الجنة، لذلك تجد هذا المحب شفيقًا على الخلق، حريصًا على دعوتهم لسان حاله يقول: ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الأعراف: ٥٩].
يستخدم في ذلك كل الطرق والوسائل الممكنة، ولا يرتاح له بال حتى يُعيد الشاردين إلى حظيرة العبودية لربهم.
_________
(١) رواه أبو نعيم في الحلية.
(٢) صحيح الجامع (٧٠٩٥).
(٣) حسن الظن بالله لابن أبي الدنيا برقم (٤٠).
(٤) المصدر السابق برقم (٢٧).
(٥) المصدر السابق برقم (٧٧).
(٦) لك أن تعاتبني حتى ترضى.
(٧) استنشاق نسيم الأنس لابن رجب / ٣٧.
1 / 11
ومن الأمثلة العظيمة التي تبين تلك الشفقة على العصاة ما فعله مؤمن آل فرعون مع قومه، تأمل أقواله الذي جاء ذكرها في سورة غافر ﴿يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ [غافر:٣٨]. ﴿يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ﴾ [غافر:٣٠]، ﴿وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ﴾ [غافر:٤١]. ﴿وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ﴾ [غافر:٤٢].
هذه الثمرة العظيمة من ثمار المحبة من شأنها أن تجعلنا نقوم بتعديل خطابنا الدعوي، فنستوعب الجميع ونبشرهم ونطمئنهم تجاه ربهم قبل تخويفهم وترهيبهم.
ثامنًا: الغيرة لله
عندما يستبد حب الله في قلب العبد فإن هذا من شأنه أن يجعله يغار لمولاه، وعلى محارمه أن تنتهك، وحدوده أن تُتجاوز، وأوامره أن تخالف.
فمع شفقته على العصاة، إلاّ أن هذا لا يمنعه من بغضه لتصرفاتهم التي تغضب ربه، ولو كانت من أقرب الناس إليه ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَاءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ﴾ [الممتحنة: ٤].
لقد علم المحب الصادق أن محبوبه الأعظم يحب عباده، ويحب من يحببهم فيه، ويعيدهم إليه، وفي نفس الوقت فإنه سبحانه لا يحب تصرفاتهم المخالفة لأوامره، المنافية لصفة العبودية التي ينبغي أن يتصفوا بها ﴿وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ﴾ [الزمر: ٧] فهو لا يحب الكفر، ولا يحب الظلم، ولا الطغيان، ولا الكبر، ولا الفسق، لذلك ترى المحب لله يجمع بين الأمرين: الشفقة على الخلق، وحب الخير لهم من جانب، وبغضه لتصرفاتهم التي لا ترضى مولاه، ونهيهم عنها، بل ومحاربتهم عليها إن تطلب الأمر من جانب آخر.
ومن لوازم هذه الغيرة: الغيرة على رسوله، وكيف لا وهو أحب الخلق إلى الله، فلو كانت المحبة لله صادقة لتبعتها ولازمتها محبة رسوله والغيرة عليه، ولقد تمثل هذا الأمر في الصحابة جيدًا، ولعل ما حدث لخبيب بن عدي ما يؤكد ذلك، فقد تم أسره في يوم الرجيع، وصُلب لكي يُقتل، وقبل قتله قال المشركون له: أتحب أن محمدًا مكانك؟ فقال: لا والله العظيم. ما أحب أن يفديني بشوكة يُشاكها في قدمه (١).
تاسعًا: الغنى بالله
ومع كل الثمار السابقة تأتي أهم ثمرة للمحبة ألا وهي الاستغناء بالله ﷾، والاكتفاء به ﴿وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [طه: ٧٣].
فينعكس ذلك على تعاملات العبد مع الأحداث التي تمر به، فإن ادلهمت الخطوب استشعر معية الله له ﴿لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا﴾ [التوبة: ٤٠]، وإن تشابكت أمامه الأمور تذكر فردد فى نفسه ﴿إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: ٦٢].
شعاره الدائم ﴿وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾ [النساء: ١٣٢].
يتغنى بمثل قول الشاعر:
فليتك تحلو والحياة مريرة ... وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر ... وبين وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين ... وكل الذي فوق التراب تراب
_________
(١) حياة الصحابة للكاندهلوي ١/ ٤٠٠.
1 / 12
قال الجنيد: قد أوجب الله لأهل محبته الصنع والتوفيق في جميع أحوالهم، فأورثهم الغنى، وسدّ عنهم طلب الحاجات إلى الخلق، تأتيهم ألطاف من الله من حيث لا يحتسبون، وقام لهم بما يكتفون، ونزَّه أنفسهم عما سوى ذلك، إكرامًا لهم عن فضول الدنيا، وطهارة لقلوبهم من كل دنس، وأمشاهم في طرقات الدنيا طيبين، وقد رفع أبصار قلوبهم إليه، فهم ينظرون إليه بتلك القلوب غير محجوبة عنه (١).
* * *
_________
(١) المحبة لله سبحانه /٨٤.
1 / 13
الفصل الثاني
لماذا يحب الله عباده؟
1 / 14
النفخة العلوية
العلاقة بين الله ﷿ وبين عباده من بنى آدم تختلف عن علاقته سبحانه بجميع خلقه، وكيف لا وما من مخلوق من البشر إلاَّ وفيه نفخة علوية من روح الله ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ - فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [ص: ٧١، ٧٢].
نعم، هذه النفخة ليست جزءًا من ذات الله - كما ادعت النصارى - بل هي من ملكه (١) وأمره، اختص بها سبحانه الإنسان وميزه عن سائر مخلوقاته، وجعلها مرحلة هامة وأساسية ومميزة في خلقه ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾ [الحجر:٢٩] بينما لم يُذكر ذلك في حق أي مخلوق آخر.
ومما يؤكد هذا الأمر قوله تعالى لإبليس ﴿مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: ٧٥].
وفي هذا المعنى يقول سيد قطب: ولأن الله ﷿ خالق كل شيء، فلا بد أن تكون هناك خصوصية في خلق هذا الإنسان تستحق هذا التنويه، هي خصوصية العناية الربانية بهذا الكائن، وإيداعه نفخة من روح الله دلالة على هذه العناية (٢).
ويقول ﵀: وما كان هذا الكائن الصغير الحجم، المحدود القوة، القصير الأجل، المحدود المعرفة، ما كان له أن ينال شيئًا من هذه الكرامة لولا تلك اللطيفة الربانية الكريمة، وإلا فماذا يبلغ هذا الإنسان لتسجد له ملائكة الرحمن، إلا بهذا السر اللطيف العظيم؟! (٣).
تكريم الإنسان
وليس أدل على خصوصية العناية الربانية بالإنسان من هذا التكريم الذي شمله منذ بدء خلق أبيه آدم وسجود الملائكة له ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ﴾ [البقرة: ٣٤]. مرورًا بالصورة الحسنة التي خُلق عليها ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين: ٤].
وتميزه بنعمة العقل الذي يُعد بمثابة وعاء للعلم والإدراك والتمييز بين الخير والشر والنافع والضار.
قال الحسن البصري: لما خلق الله ﷿ العقل، قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبر، وقال: ما خلقت خلقًا هو أحب إلىَّ منك، إني بك أُعبد، وبك أُعرف، وبك آخذ، وبك أُعطي (٤).
ومن مظاهر هذا التكريم كذلك: تسخير الكون كله لخدمته ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ﴾ [الجاثية: ١٣].
_________
(١) يقول عبد الرحمن حسن حبنكه الميداني: والإضافة في (روحي) ليست على معنى أنها جزء من روح ذات الله ﷾، بل هي على معنى الملك، كما أن كل شيء في السماوات والأرض، وما بينهما ملك لله، فلله ما في السماوات والأرض، وهذا التعبير نظير التعبير في (سمائي، وأرضي، وجنتي، وناري) أو على معنى الاختصاص بأمر من أموري، مثل «وطهر بيتي للطائفين» وبسبب الفهم الخطأ في هذه الإضافة سقط النصاري في توهم أن عيسى ﵇ جزء من ذات الله، سبحانه وتعالى عما يصفون، انظر تفسير معارج التفكر ودقائق التدبر الجزء الثالث ص (٢٦٧).
(٢) في ظلال القرآن ٥/ ٣٠٢٨.
(٣) في ظلال القرآن ٥/ ٣١٢٩.
(٤) شعب الإيمان للبيهقي (٤/ ١٥٤) برقم (٤٦٣٢).
1 / 15
هذا التكريم يشمل جميع بني آدم دون تفرقة بين لون أو جنس أو عرق ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: ٧٠].
أليست نفسًا؟!
إن النفخة العلوية التي يحملها الإنسان تجعله دومًا موضعًا للتكريم ولو كان من الكافرين.
وإليك - أخي القارئ- هذا الخبر الصحيح الذي يؤكد لنا جميعًا هذا المعنى:
كان سهل بن حنيف وقيس بن سعد ﵄ قاعدين بالقادسية فمروا عليهما بجنازة فقاما، فقيل لهما: إنها من أهل الأرض، أي من أهل الذمة، فقالا: «إن النبي ﷺ مرت به جنازة فقام، فقيل له: إنها جنازة يهودي، فقال: أليست نفسًا؟» (١).
وليس هذا فحسب بل إننا نجد الشريعة الإسلامية توجه المسلمين إلى حُسن التعامل مع جميع الناس في السلم والحرب، ومن ذلك النهي عن التمثيل بالقتلى في الحرب، وكان ﵊ إذا أمَّر أميرًا على جيش أو سرية يوصيه، فكان مما يقول له: «لا تمثلون» (٢) وفي الحديث القدسي: «لا تمثلوا بعبادي» (٣).
وكذلك حصر القتل فيمن يقاتل دون غيره ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [البقرة: ١٩٠]. فلا قتل لامرأة أو صبي أو أجير أو راهب في صومعته، فإن انتهت الحرب وكان هناك أسرى فلا إهانة ولا إذلال بل احترام لإنسانيتهم ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾ [الإنسان: ٨].
وعندما أسر المسلمون من المشركين يوم بدر، كانت وصية الرسول ﷺ بهم كبيرة، فقال لأصحابه: «استوصوا بهم خيرًا» (٤).
تقرب الملائكة إلى الله بالدعاء للبشر
لقد اختص الله ﷿ الإنسان لنفسه من بين سائر مخلوقات كما جاء في الأثر: يا ابن آدم خلقت كل شيء لك وخلقتك لنفسي، فلا تشتغل بما خلقته لك عما خلقتك له.
اختصه ليقوم بمهمة عظيمة ألا وهي عبادته سبحانه بالغيب في ظل تمتعه بخاصية حرية الاختيار، ووجود نفس أمارة بالسوء، وشيطان يوسوس، ودنيا تتزين.
وإن كانت العلاقة بين الأب وأبنائه تتسم بالحب والحنان والرحمة والحرص الدائم على مصلحتهم، فإن علاقته سبحانه بالبشر أسمى وأسمى، إنها علاقة الرب بعباده الذين أوجدهم من العدم ونفخ فيهم من روحه.
علاقة الخالق بالمخلوق الذي اختصه لنفسه فهو يحبه ويريد له الخير، والنجاح في مهمته العظيمة.
ومن عجب أن الملائكة الأطهار الكرام لما علمت بمنزلة البشر عند الله جعلت جزءًا من عبادتها دعاءها لهم وهي بذلك تريد التقرب إليه سبحانه وتطمع في نيل رضاه ﴿وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ﴾ [الشورى: ٥].
_________
(١) رواه البخاري (١٢٥٠).
(٢) رواه مسلم (٣٢٦١).
(٣) رواه أحمد (١٦٨٩٩).
(٤) انظر مجلة الوعي الإسلامي عدد ٤٩٤ مقالا بعنوان (حفظ الإسلام للكرامة الإنسانية) د. إبراهيم أحمد مهنا.
1 / 16
ويزداد تقربهم وتوددهم إليه سبحانه بكثرة الدعاء لمن لهم حب خاص وولاية خاصة عنده ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ - رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ - وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [غافر: ٧ - ٩].
ويزداد ويزداد لأحب الخلق إليه ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ﴾ [الأحزاب: ٥٦].
مباهاته بعباده
ومما يؤكد علاقته - سبحانه - الخاصة بعباده البشر الموحدين له: مباهاته بهم الملائكة عند قيامهم بطاعته.
خرج ﷺ يومًا على حلقة من أصحابه فقال: «ما أجلسكم؟» قالوا: جلسنا نذكر الله، ونحمده على ما هدانا للإسلام، ومنَّ به علينا. قال: «آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟» قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك قال: «أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة» (١).
وانظر إليه ﷺ وهو يحدث أصحابه عن صورة أخرى من صور هذه المباهاة فيقول: «إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء، فيقول لهم: انظروا إلى عبادي جاءوني شعثًا غبرًا» (٢).
مع أنه سبحانه -يقينًا- لا تنفعه طاعة الطائعين مهما بلغت، ولا تضره معصية العاصين مهما عظمت، وما مباهاته وفرحه بطاعات عباده إلا لأنه يحبهم ويريد لهم الخير.
وما إخبارهم بتلك المباهاة في أكثر من موضع على لسان رسول الله ﷺ إلا رسالة حب منه لهم لعلها تزيدهم إقبالا عليه وحبًا له وشوقًا إلى لقائه.
ضحكه سبحانه
ومن مظاهر العلاقة المميَّزة بين الله تعالى وعباده وبخاصة الطائعين منهم: ضحكه سبحانه عندما يرى عباده يخلصون أعمالهم له، ويضحون من أجله.
عن أبي الدرداء ﵁ عن النبي ﷺ قال: «ثلاثة يحبهم الله، ويضحك إليهم، ويستبشر بهم: الذي إذا انكشفت فئة قاتل وراءها بنفسه لله ﷿، فإما أن يُقتل وإما أن ينصره الله ويكفيه، فيقول: انظروا إلى عبدي هذا كيف صبر لي بنفسه؟، والذي له امرأة حسنة وفراش لين حسن، فيقوم من الليل، فيقول: يذر شهوته ويذكرني، ولو شاء رقد، والذي كان في سفر، وكان معه ركب، فسهروا، ثم هجعوا، فقام من السحر في ضراء وسراء» (٣).
ومما يؤكد هذا المعنى قوله ﷺ: «يعجب ربك من راعي غنم، في رأس شظية بجبل، يؤذن للصلاة، ويصلي، فيقول الله ﷿: انظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم الصلاة، يخاف مني، قد غفرت لعبدي، وأدخلته الجنة» (٤).
قدر المؤمن عند الله
إن الجسد الذي خلقه الله ﷿ ونفخ فيه نفخة علوية له حرمة عظيمة عنده سبحانه ويكفيك في ذلك قوله تعالى: ﴿أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: ٣٢].
_________
(١) رواه مسلم (٢٧٠١).
(٢) صحيح، رواه ابن حبان والحاكم وصححه الألباني في ص. ج (١٨٦٧).
(٣) حسن، رواه الطبراني في الكبير وقال إسناده حسن وقال عنه الهيثمي: رجاله ثقات، وحسنه، الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (٦٢٤).
(٤) صحيح الجامع الصغير (٨١٠٢).
1 / 17
وهذا يؤكد مكانة الإنسان الخاصة عند الله ﷿، وتزداد هذه المكانة كلما كان الإنسان أطوع لله ﷿، قال ﷺ: «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق» (١).
يكره سبحانه مساءة عبده المؤمن
تأمل معي أخي القارئ قول الله ﷿ في الحديث القدسي:
«وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته، ولا بد له منه» (٢).
يعلق ابن تيمية على ذلك فيقول: فبيَّن سبحانه أنه يتردد (عن قبض نفس عبده المؤمن) لأن التردد تعارض إرادتين، وهو سبحانه يحب ما يحبه عبده، ويكره ما يكرهه، وهو يكره الموت فهو يكرهه كما قال (وأنا أكره مساءته) وهو سبحانه قد قضى بالموت، فهو يريد له أن يموت، فسمى ذلك ترددًا، ثم بين أنه لابد من وقوع ذلك (٣).
فرحه - سبحانه - بتوبة العاصين
أرأيت لو أن ابنًا قد شرد بعيدًا عن أبيه، وسار في طريق الفساد، ثم عاد إلى رشده وارتمى في حضن أبيه، أي فرحة يكون عليها الأب في هذا الوقت؟!
هذه الفرحة لا تساوي شيئًا بجوار فرحته سبحانه بتوبة عبد من عباده مهما أسرف في ذنبه ولجَّ في طغيانه.
تأمل معي الحديث الذي يؤكد فيه ﷺ هذا المعنى بقوله:
«والله، لله أشد فرحًا بتوبة عبده من رجل كان في سفر، في فلاة من الأرض فأوى إلى ظل شجرة فنام تحتها، واستيقظ فلم يجد راحلته، فأتى شرفًا فصعد عليه، فلم ير شيئًا، ثم أتى آخر، فأشرف فلم ير شيئًا، فقال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه، فأكون فيه حتى أموت، فذهب، فإذا براحلته تجر خطامها، فالله أشد فرحًا بتوبة عبده من هذا براحلته» (٤).
مراده أن تدخل الجنة
عندما يقرأ المرء الأخبار السابقة، وبخاصة ما يتعلق بفرح الله ﷿ العظيم بتوبة عبد من عباده فمن المتوقع أن تقفز إلى الذهن بعض التساؤلات عن أسباب هذا الفرح فالله ﷿ لا تنفعه هذه التوبة بشيء، فهو الغنى الحميد، فلماذا هذه الفرحة إذن؟
من السهل علينا أن ندرك سر هذا الفرح عندما نتذكر أن الله ﷿ اختص الإنسان لنفسه دون خلقه جميعًا، وأنه يريد منه أن ينجح في امتحان العبودية ليُدخله الجنة، فمراده سبحانه من جميع البشر دخول جنته ﴿وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة: ٢٢١].
مراده أن يعود الجميع إليه ليكرمهم وينعمهم في دار أعدها خصيصًا لهم، وجعل لكل منهم فيها جزءًا مقسومًا، وهو سبحانه يريد لكل منهم أن ينال نصيبه في تلك الدار، ويتبوأ منزله فيها ﴿وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ﴾ [يونس: ٢٥] وفي نفس الوقت فهو لا يريد أن يُدخل أحدًا من عباده النار ﴿وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ
الْكُفْرَ﴾ [الزمر: ٧].
هذا الأمر ينطبق على جميع البشر في مشارق الأرض ومغاربها، وفي كل العصور والأزمان .. عباد الصليب .. عباد البقر .. الملحدين والوثنيين .. كل هؤلاء يريد الله منهم أن يدخلوا الجنة، ويكفيك في هذا أنه ﷾ يمهل هؤلاء وغيرهم من الكافرين، ويعطيهم الفرصة تلو الفرصة، مع قدرته المطلقة عليهم وإحاطته التامة بهم، فلو شاء أن يهلكم لأي ذنب يفعلونه لأهلكهم، لكنه لا يفعل، بل يحلم ويصبر ويمهل لعلهم ينتبهون من غفلتهم.
معنى ذلك أنه ما من واحد يدخل النار إلا لأنه يأبى ويصر على ألا يدخل الجنة كما قال ﷺ: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّة إلاَّ مَنْ أَبَى» (٥).
_________
(١) صحيح الجامع (٥٠٧٧).
(٢) رواه البخاري (٦٥٠٢).
(٣) التحفة العراقية/ ٤٣.
(٤) رواه مسلم.
(٥) صحيح البخاري ج (٦٧٣٧).
1 / 18
نعم، هذه هي الحقيقة التي يغفل عنها البشر «كلكم يدخل الجنة إلا من شرد على الله شراد البعير على أهله» (١).
ومثال ذلك ما حدث لأصحاب القرية التي كذبت الرسل فأصابهم العذاب بعد طول إمهال ليأتي التعقيب القرآني ليؤكد أنهم هم الذين أبوا إلا العذاب ﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [يس:٣٠].
أحب العباد إلى الله
وأهم صور الإباء والإصرار على عدم دخول الجنة عدم الاعتراف بالله، ربًا وخالقُا ورازقًا، وإلهًا معبودًا، أو إشراك أحد معه في ذلك.
فالشرك أو الكفر ظلم عظيم يظلم فيه العبد الحقيقة العظيمة، حقيقة التوحيد التي قامت عليها السماوات والأرض، ومن ثَّم يهون على الله هوانًا عظيمًا، فيرتد إلى أسفل السافلين، ومع ذلك يظل الباب مفتوحًا للجميع للتوبة والعودة إليه سبحانه قبل فوات الأوان، بل إنه ﷾ جعل أحب خلقه إليه من يُحبب الناس فيه، ويدعوهم للعودة إليه وإلى طاعته كي يدخلهم الجنة.
قال ﷺ: «إني لأعرف ناسًا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء بمنزلتهم عند الله سبحانه يوم القيامة، الذين يحبون الله ويحببونه إلى خلقه، يأمرونهم بطاعة الله فإذا أطاعوا الله أحبهم الله» (٢).
فالله ﷿ يبغض الشرك والكفر الذي تلبَّس بالمشركين الكفار، ولكنه سبحانه يريد أن يتوب عليهم، ويدخلهم الجنة بينما هم يأبون، لذلك فإنه سبحانه رغَّب عباده المؤمنين بدعوة هؤلاء وتحبيبهم فيه علَّهم يفيقون من غفلتهم، ويعودون إلى ربهم.
تأمل قوله تعالى الذي يتفجر إشفاقًا ورحمة: ﴿قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: ٣٨]. وتأمل كذلك قوله: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ﴾ [التوبة: ٦].
أشد ما يغضبه:
ومع فرحه سبحانه بتوبة عبد من عباده الضالين، ومع حبه الخاص لمن يحبب الناس فيه، فإنه سبحانه يغضب أشد الغضب لمن يُيئس الناس من بلوغ رحمته ويُنذرهم بانقطاع الأمل، وبأنه لا مآل لهم إلا النار.
وما إمهال الله لعباده المقصرين والمسرفين على أنفسهم، بل والكفار والمشركين - كما أسلفنا- إلا لأنه سبحانه يهيئ لهم من الأمور، ويرسل لهم من الرسائل ما قد يوقظهم من سباتهم، ويذكرهم بربهم.
فإذا ما جاء شخص ما وأشعر هؤلاء بأن الله لن يغفر لهم، وأنهم مغضوب عليهم، ولا أمل أمامهم، فسيؤدي ذلك إلى قنوطهم ويأسهم من رحمة الله، ومن ثمّ زيادة تماديهم في الطغيان، وانحرافهم، وابتعادهم عن طريق الهدى، لتكون نهايتهم النار.
فإن كنت- أخي القارئ- في شك من هذا فاقرأ هذا الحديث:
عن أبى قتادة أن رسول الله ﷺ قال: «قال الله ﵎ للملائكة: ألا أخبركم عن عبدين من بني إسرائيل أما أحدهما فيرى بنو إسرائيل أنه أفضلهما في الدين والعلم والخلق، والآخر يَرى أنه مسرف، فذُكر عند صاحبه، فقال: لن يغفر الله له، فقال: ألم يعلم بأني أرحم الراحمين؟ ألم يعلم أن رحمتي سبقت غضبي؟ وإني قد أوجبت لهذا الرحمة وأوجبت لهذا العذاب، فقال رسول الله ﷺ: فلا تألوا على الله ﷿» (٣).
_________
(١) صحيح الجامع (٤٥٧٠).
(٢) أورده الهيثمي في مجمع الزوائد ١/ ١٢٦.
(٣) رواه مسلم.
1 / 19