ونقرأ المقطوعة الأخيرة فنحس بأن الواقع نسيج من الرضا والزهد والتسليم، وأن الشعلة التي تحولت إلى رماد لم تخب فيها جمرات الصدود والانكسار.
من الغريب أن يقضي الإنسان حياته في التنقل والتجوال. ولكن الأغرب منه أن يتم ذلك دائما في عز الشتاء.
لقد سافر الشاعر في ديسمبر سنة 1796م إلى فرانكفورت، وفي يناير سنة 1801م إلى هاوبتفيل، وفي يناير سنة 1802م - «في رحلة باردة طويلة» - إلى مدينة بوردو الفرنسية، أما رحلته الأولى - على ظهر عربة بريد كئيبة - فكانت في شهر ديسمبر سنة 1793م إلى فالترزهاوزن القريبة من مدينة ميننجن، عن طريق نورمبرج وارلانجن وبامبرج وكوبرج. كان الشاعر «شيلر» قد توسط له عند صديقته شارلوته فون كالب التي كانت على صلة طيبة بالحياة الأدبية ليعمل مربيا خاصا لابنها «فرنس» البالغ من العمر عشر سنوات. وكان هذا العمل بداية سلسلة من المحاولات الفاشلة لكسب قوته من إعطاء الدروس الخاصة. كما كان يفعل معظم الكتاب والشعراء البؤساء في ذلك الحين.
وتتضارب الأقوال حول الفترة التي قضاها هلدرلين في هذا العمل وانتهت بإعفائه منه بصورة مفاجئة، كما تختلف حول علاقته بهذه السيدة الغريبة الأطوار. كان من رأي الشاعر نفسه أن هذه السيدة - التي تكبره بتسع سنوات - امرأة نادرة لا نظير لها في اتساع أفقها وعمق شخصيتها ورقتها. وكانت السيدة نفسها امرأة متقلبة ملتهبة العاطفة تنتقل في سرعة خاطفة من حنان الأمومة إلى الغلظة والجفاء. ولقد استطاعت بفطرتها أن تحس بعذاب هلدرلين وتلمس آثار المحنة على كيانه الهش الرقيق. ولا نستطيع أن نجزم بشيء عن طبيعة العلاقة التي كانت بينها وبينه وخاض فيها كثير من الباحثين، ولكن لا بد أنها كانت شيئا أقرب إلى الصداقة العفيفة المترفعة، ولا بد أنها كانت تنطوي على شيء كثير من الإشفاق على الشاعر من حرفة التعليم التي لم يخلق لها، بل ورطه فيها أكل العيش، وأكل العيش مر كما نقول! ويكفي أن نقرأ الرسالة التي كتبتها إلى شيلر راجية أن يبحث للشاعر عن عمل آخر خفيف: «إن طيبتك تستطيع أن تفعل الكثير من أجله. حاول أن تبحث له عن أعمال خفيفة يمكن أن تيسر له معاشه بشكل سريع وتخلصه من الهموم التي قد تفيد فلسفته العملية، ولكنها لن تزيد الهدوء والاطمئنان في حياته. ليكن المجد والقناعة والثبات من نصيب هذا الإنسان القلق! إنها عجلة مسرعة في الدوران!»
ويبدو أن السيدة الذكية قد نفذت ببصرها الثاقب وراء حجب الغيب، ورأت العجلة المسرعة وهي تنقلب بصاحبها في ليل الجنون!
مهما يكن من شيء فقد أعفي هلدرلين في شهر يناير سنة 1795م من عمله، بعد الإخفاق في مهمته التربوية العسيرة. وكان قد انتقل مع تلميذه وربيبه إلى مدينة «يينا» في نوفمبر من السنة السابقة. وظل يعيش هناك بعد إعفائه من عمله إلى أن قرر فجأة أن يغادر المدينة، فتركها في أواخر شهر مايو وقفل راجعا إلى بلدته «نورتنجن».
بقي السر وراء هذا السفر المفاجئ محوطا بالغموض. وظلت الإشاعات تلاحق الشاعر الذي راح يشكو بعد ذلك في إحدى رسائله التي كتبها من مدينة فرانكفورت من علاقات نسائية نسبت إليه ظلما: «سيلاحقني الناس بأحكامهم القاسية حتى أخرج أخيرا من ألمانيا ...» وسواء أكان السبب في هذه الإشاعات والأحكام الظالمة هو جماله الرائع الذي عرف عنه في شبابه، أو حساسيته المريضة المرهفة، أو شعوره بالغربة في كل مكان يأوي إليه، فقد كانت كلمة واحدة تكفي لإثارة غضبه وحمله على الفرار بنفسه من بلد إلى بلد.
كان أقطاب الشعر والفكر الألمان يقيمون في ذلك الحين في مدينتي «فيمار» و«يينا». وكان كل هم شاعرنا القلق المتردد أن يتصل بهؤلاء الأعلام «ذوي القلوب الجريئة» علهم يبثون الشجاعة في قلبه ويعصمونه من الهروب إلى الزهد والانعزال. كان القرب منهم - على حد قوله - يسحقه ويسمو به في آن واحد. وكان يتمنى أن ينتزع نفسه من الضباب والنعاس الذي يخيم على حياته، ويوقظ الطاقات التي أوشكت أن تموت في صدره.
وكان شيلر في طليعة هذه الأرواح والقلوب الجريئة التي أثرت عليه تأثير السحر، وشدته إلى عالمها المثالي النبيل كأنها القدر. وكان موقفه منه هو موقف الإجلال والخوف الذي يجذبه إليه ويبعده عنه في وقت واحد، الإجلال لشخصيته القوية الواثقة، والخوف من أن تتحكم فيه وتسيطر عليه. ولذلك فهو يعترف بأنه لم يستطع أن يقترب منه بروح الصفاء والمرح، ولم يستطع كذلك أن يبتعد عن فلكه أو يخلص من تأثيره، ولو فعل لكانت سقطة لا يغتفرها لنفسه.
أقام هلدرلين ستة شهور في مدينة «يينا» وقدر له أن يحظى بعطف شيلر ورعايته. ولكنه ظل على الدوام يحس أنه لا يستحق هذه الرعاية الأبوية، حتى إنه كتب إلى أمه فقال إنه اعترف للرجل العظيم بدهشته من اهتمامه به! وتتكرر نفس الكلمات المنكسرة في بعض رسائله التي كان يكتبها لشيلر فيرجوه في إحداها أن يتعطف عليه بنظرة اهتمام أو يعترف في إحداها بأنه حاول بمختلف الوسائل أن يفوز منه بكلمات ودية قليلة ...
Página desconocida