وقد تذكر هلدرلين صديقه فكتب إليه في سنة 1799 يرجوه أن يسهم في مشروع صحيفة أدبية كان يفكر في إصدارها. إلا أن شيلنج لم يرد على رسالته ولم يشارك في المشروع الخيالي الذي لم يعرف النور. ومن الظلم أن نتهمه بالجحود أو الجفاء، لأن مشاركته في ذلك المشروع الفاشل لم تكن لتقدم أو تؤخر. ويكفي أن نقول إنه تألم ألما لا حد له عندما بلغته أخبار المرض الأخير الذي أودى بعقله، وهو ما سنعرض له في فصل قادم.
سار الأصدقاء كل في طريقه كما قلت، لكنهم اشتركوا في نسيج واحد أو شبكة واحدة قدم لها كل منهم خيوطه. ويصعب أن نسمي هذا النسيج المشترك باسم محدد. ولكن لعلنا لا نجاوز الصواب كثيرا إذا سميناه «الفكر الديالكتيكي»، على الرغم مما في هذه الكلمة الأخيرة من رنين مخيف! أسهم كل منهم في هذا النسيج بالخيط الذي يميزه عن صاحبه؛ هلدرلين بالورع والخشوع المطلق، وشيلنج بالفكر الجسور الدقيق الحاد، وهيجل بالبناء الضخم والقدرة الخارقة على الاستدلال والتمحيص.
تأثر الثلاثة في مبدأ الأمر بلغة هردر (1744-1803م) المتدفقة ومنهجه العضوي الحي في التفكير، ثم شجعتهم فلسفة «فشته» المثالية المطلقة ونظريته الضخمة المتعسفة عن العلم (وكان يقصد به الفلسفة) وأمدتهم بالمران والقدرة على مواجهة الحياة على اختلاف صورها. وليس التفكير الديالكتيكي إلا مواجهة الحياة المتطورة المتغيرة من خلال التوتر بين قطبين متضادين؛ أي إدراك الصيرورة والتحول الناجم عن الصراع بين طرفين بحيث يتحقق الطرف أو المبدأ الثالث الذي يصالح بينهما ويتجاوزهما.
لم يكن هذا التفكير الديالكتيكي أو الجدلي منهجا طبقه الأصدقاء الثلاثة كل في مجاله، بقدر ما كان الفعل الفكري الأصيل الذي جمع بينهم. ومن طبيعة هذا الفكر المتغير المتطور تطور الحياة نفسها أن يفهم العقل أو الروح فهما تاريخيا. أي أنه لا يتم إلا في التاريخ، لأن التاريخ جوهره وقوامه.
يقول هلدرلين في قصيدته عن «عيد السلام»: «إن الروح العظيم يفض صورة الزمان.» ويقول هيجل: «إن الروح يشرح أو يفسر نفسه في التاريخ.» كما يطرق شيلنج نفس المعنى حين يقول: «كل لحظة خاصة من لحظات الزمان هي كشف عن جانب خاص من الله، يكون مطلقا في كل واحد منها.»
هكذا يفضي التوتر بين المرحلة الأولى (مرحلة الوجود الخالص البسيط الذي لم يتميز أو لم يتفتح بعد) والمرحلة الثانية (وهي مرحلة الوجود الذي يتفكر في ذاته ويتبلور على نفسه) إلى مرحلة ثالثة يتم فيها التصالح والسلام في الوجود. وهكذا أيضا نستطيع أن نتصور هذا الطريق بخطواته الثلاث التي سارها هيجل وشيلنج وهلدرلين كل على طريقته، بالتأمل أو الرؤية أو الشعر. ولا شك أن هذا تبسيط مخل بهذا الطريق المعقد المتنوع الذي لا حد لتعدد صوره ومستوياته. ولكن الذي يعنينا في هذا السياق هو أن الأصدقاء الثلاثة - كل على طريقته وبقدر طاقته وملكاته كما قلت - يشتركون في الغاية الأخيرة، وهي السلام الذي ينتهي عنده موكب الصراع، وتتحقق أمنية العقل والقلب.
ونعود فنسأل: كيف سيبدو هذا السلام السماوي الهادئ الجبار كما يسميه هلدرلين؟ وفي أي مكان أو زمان يفي بوعده ويبني بيته؟
سيقول الأصدقاء الثلاثة «في مملكة الله». وسيراها كل منهم على طريقته في الرؤية والتفكير ...
إن هلدرلين يكتب إلى هيجل في صيف سنة 1794م - وبعد تسعة شهور من وداعهما لمدينة توبنجن - فيذكره بكلمة السر التي افترقا عليها، ويؤكد له أنها ستجمعهما بعد كل تحول وتغير واغتراب. ولم تكن كلمة السر هذه سوى «مملكة الله». ولم تكن مملكة الله في تصورهم شيئا مجردا متعاليا غريبا عن الواقع، بل شيئا يستطيع كل واحد منهم أن يشارك فيه بجهده وإيمانه وحبه وأمله. ها هو ذا هيجل يصف هذه المملكة الإلهية الصغيرة فيقول إنها دائرة الحب والأفئدة التي تتنازل عن حقوقها الخاصة بعضها تجاه بعض فلا يجمع بينها غير الإيمان المشترك والأمل المشترك.
ويبحث الأصدقاء الثلاثة عن نواة هذه المملكة الإلهية فيجدونها في الفكرة التي قال بها قبلهم «لوثر» و«كانت» و«هردر» عن «الكنيسة غير المنظورة». ويتلقفون الفكرة ويتعمقونها كل من جانبه. ويكتب هيجل إلى شيلنج في سنة 1795م فيقول: «لتأت مملكة الله، ولنعمل بأيدينا على تحقيقها ولا ندعها تسترخي فارغة في حجرنا. ليبق العقل والحرية دائما قدرنا وكلمة السر بيننا، ولتكن الكنيسة غير المنظورة هي النقطة التي نلتقي عندها ...»
Página desconocida