History of the Rightly Guided Caliphs: Conquests and Political Achievements
تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية
Editorial
دار النفائس
Número de edición
الطبعة الأولى ١٤٢٤هـ
Año de publicación
٢٠٠٣م
Géneros
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد بن عبد الله خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين، وبعد:
تتناول هذه الدراسة موضوعًا شائكًا في التاريخ الإسلامي المبكر، يعد من أهم الموضوعات في مجال البحث العلمي، ويشكل استمرارًا لانتقال الأمة الإسلامية من مرحلة التحالف القبلي إلى مرحلة الدولة الإسلامية التي ابتدأت في حياة النبي، ويحدد النهج لمرحلة ما بعد عصر الرسالة، ويتضمن ملابسات تكوينه، وتطوره في ضوء ما حدث في عصر صدر الإسلام من فتوح، وما ارتبط بها ونتج عنها من صراعات سياسية، ونقاشات دينية حادة، ونزاعات حزبية وتطورات اجتماعية، ويشير مصطلح صدر الإسلام إلى عصر الخلفاء الراشدين، ويعد الارتباط بين الجانب الديني، والتطور التاريخي أحد أهم ملامحه.
لقد تفاعلت عوامل مختلفة داخلية وخارجية، سياسية واجتماعية، اقتصادية ودينية؛ ساهمت، بشكل متفاوت، في رسم مسار الأحداث التاريخية، وتحديد غاياتها، ولا يمكننا استيعاب هذا التطور إلا من واقع متابعة الأحداث الأساسية المفردة، وتعقب نشاط الشخصيات التاريخية البارزة لهذا العصر، بالإضافة إلى نشاط مختلف شرائح المجتمع، والملاحظ أنه كلما توسعنا، وتعمقنا في التحليل التاريخي لأحداث هذا العصر؛ ازداد تنوع وتضارب الآراء، والتوجهات حول تقييمها.
وسوف يتم تسليط الأضواء على الأحداث التاريخية، والمشكلات الاجتماعية التي واجهت المسلمين الأوائل، الناتجة عن خلافة النبي ﷺ وحروب الردة، والفتوح بدءًا بخلافة أبي بكر الصديق، ومرورًا بخلافة عمر بن الخطاب، ووصولًا إلى خلافة عثمان بن عفان، وانتهاء بخلافة علي بن أبي طالب.
والواقع أن قضية نظام الحكم كانت المشكلة الأولى التي واجهت المسلمين بعد وفاة النبي الذي لم يعهد لأحد بتدبير أمور المسلمين من بعده، سياسيًا بشكل خاص.
1 / 5
وأضحى لزامًا على المسلمين أن يتصرفوا ضمن حدود القرآن والسنة، وينشئوا نظامًا يفهم الاختلاف والفرقة، فأنشأوا نظام الخلافة.
واجه أبو بكر، خلائل حياته السياسية القصيرة بعد أن اختير أول خليفة على المسلمين، مشكلتين كبيرتين، تمثلتا بردة العرب عن الدين الإسلامي بعد وفاة النبي، وبالفتوح خارج الجزيرة العربية، لكنه ما لبث أن تغلب عليهما، فاستعادت الجزيرة العربية وحدتها، ودانت بالطاعة للحكومة المركزية في المدينة مما سمح ببدء عمليات الفتوح والتوسع في العراق، وبلاد الشام التي وضع أساسها النبي لنشر الدين الإسلامي بين القبائل العربية خارج الجزيرة العربية.
وواصل عمر بعد انتخابه خليفة، على أثر وفاة أبي بكر وبعهدته، عمل هذا الأخير، فاستكمل الفتوح في العراق، وبلاد الشام بالإضافة إلى بلاد فارس ومصر، وأضحى المسلمون في عهده عاملًا مهمًا في التاريخ العام بعد أن فتحوا هذه المناطق، وقضوا على الإمبراطورية الفارسية، وانتزعوا أملاكًا واسعة من الإمبراطورية البيزنطية، وهو الحدث الملفت في التاريخ الذي تم إنجازه في أعوام معدودة، وتميز بطول المسافة وإتساع الرقعة، وعمق الأثر ودوامه، وشهد عهده نقلة نوعية من واقع استكمال خطوات النبي في الانتقال من مرحلة التحالف القبلي إلى مرحلة الدولة الإسلامية، وذلك بما وضع من تنظيمات سياسية، واجتماعية واقتصادية نظمت العلاقات بين مختلف أفراد المجتمع الإسلامي من جهة، وبينهم وبين الدولة المركزية من جهة أخرى، بالإضافة إلى تنظيم العلاقات بين الدولة الإسلامية، وسكان البلاد المفتوحة، والواقع أن هذه العملية تتميز بالتعقيد؛ لأنها خرجت إثر انقلاب شامل في جميع مجالات الحياة، وترافقت مع انتشار الإسلام.
وفي الوقت الذي كانت فيه الدولة الإسلامية تسير بخطى واسعة، وثابتة نحو الاستقرار، تعرضت لاضطرابات داخلية نتيجة تنامي النفوذ السياسي، والاقتصادي "للأرستقراطية" القرشية، فتجدد التنافس بعد مقتل عمر بن الخطاب، بين بني هاشم وبني أمية، تجلى منذ اختيار عثمان بن عفان خليفة للمسلمين، وتعرضت سياسة هذا الخليفة للسخط من جانب بعض الشخصيات الإسلامية من واقع انقسام المجتمع الإسلامي على نفسه بين مؤيد لبني هاشم، ومؤيد لبني أمية، بالإضافة إلى الفرز الاجتماعي الناتج عن عمليات الفتوح، والمتمثل بتحديد العطاء، وتوزيع الثروات المحصلة من الغنائم، وتنامي قوة الأمصار على حساب القوة المركزية في المدينة، وقد أدى كل ذلك إلى مقتل عثمان.
1 / 6
ودفع علي بن أبي طالب إلى تسلم الخلافة في خطوة تكاد تكون انقلابية ضد سياسة سلفه، لكنه ما لبث أن واجه معارضة سياسية مغلفة بإطار الثأر لمقتل عثمان، وبدا التنافس السياسي على السلطة واضحا بين قادة المسلمين، مما انعكس سلبا على أوضاعهم وقدراتهم، فتراجعت حركة الفتوح، وواجه علي حركتين معارضتين لحكمه، تمثلت الأولى بخروج طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعائشة أم المؤمنين، وانتهت هذه الحركة بانتصاره في حرب الجمل، وتمثلت الثانية بمعارضة بني أمية بزعامة معاوية بن أبي سفيان والي الشام، وقد تطورت إلى حرب دارت رحاها في صفين، وانتهت باتفاق الطرفين على التحكيم، لكن هذه الخطوة لم تنه الخصومة بين الهاشميين والأمويين، وأخذت الصعاب تلاحق عليًا في دولته حتى قتل على يد الخوارج، وانتهى بمقتله عصر صدر الإسلام.
اعتمدت في هذه الدراسة على مصادر أساسية، ومراجع متنوعة مبينة في ثبت المصادر والمراجع، وآمل بما اعتمدت عليه أن يخدم الحقيقة التاريخية.
أما تشكيل الموضوعات التي يراها القارئ بعناوينها، فقد قسمتها إلى أربعة أبواب تتضمن أربعة عشر فصلًا.
عالجت في الفصل الأول الأوضاع السياسية في الجزيرة العربية عقب وفاة النبي، حيث برزت مشكلتان سياسيتان أمام المسلمين، تمثلت الولى في اختيار خليفة للنبي، وتمثلت الثانية في بروز الردة بين القبائل العربية، وإذا كان المسلمون قد نجحوا في حل المشكلة الأولى باختيار أبي بكر الصديق خليفة عليهم، فقد أخذ هذا على عاتقه التصدي لحل المشكلة الثانية.
وعالجت في الفصل الثاني تفشي ظاهرة التنبؤ في المجتمع العربي، حيث ظهر المتنبئون مثل: الأسود العنسي في اليمن، ومسيلمة الكذاب في اليمامة، وطليحة الأسدي في بزاخة، وسجاح التميمية، وذي التاج لقيط في عمان.
وتطرقت في الفصل الثالث إلى حروب الردة التي خاضها المسلمون ضد المتنبئين، والمرتدين حتى القضاء عليهم، مما أتاح لأبي بكر إعادة الوحدة السياسية، والدينية للعرب في جزيرتهم.
وتضمن الفصل الرابع سجلًا بأوضاع الدولتين الفارسية، والبيزنطية عشية الفتوح الإسلامية من كافة الجوانب السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية والدينية، بالإضافة إلى العلاقات بينهما تلك التي اتسمت بالعدائية غالبًا، والمعروف أن الدولة الأولى كانت تمر بمراحل شيخوختها، وأن الثانية كانت تعاني من صعاب داخلية وخارجية، مما سمح للمسلمين بالإنسياب إلى أراضيهما.
1 / 7
وعالجت في الفصل الخامس الفتوح في عهد أبي بكر الصديق، في العراق وبلاد الشام، وقد ارتبطت بدايات فتوح العراق بانتهاء حروب الردة حيث وجد المسلمون أنفسهم على حدود هذا البلد، فسيطروا على جنوبه ووسطه. واشتهر كل من المثنى ابن حارثة الشيباني، وخالد بن الوليد، اللذان حققا هذا الإنجاز، وكانت بلاد الشام في مقدمة اهتمامات أبي بكر الهادفة إلى
التوسع عبر المناطق المألوفة للعرب جغرافيًا، فأرسل الجيوش إلى هذه البلاد
لفتحها، فانتشر المسلمون في ربوعها، ونتيجة للصحوة البيزنطية المتمثلة برد الفعل، احتاج المسلمون إلى قيادة خالد بن الوليد، فانتقل من العراق إلى بلاد الشام بناء لأوامر الخليفة، وقاد المسلمين من نصر إلى نصر في عدة معارك أهمها أجنادين.
وخصصت الفصل السادس لتدوين أحداث فتوح العراق حتى معركة القادسية، وذلك في عهد عمر بن الخطاب الذي تولى الخلافة بعد وفاة أبي بكر الصديق. وخاض المسلمون عدة معارك ضد الجيوش الفارسية، أشهرها القادسية، وقد انتصر المسلمون فيها، وحطموا القوة الميدانية للجيش الفارسي، وأدى مقتل رستم، القائد الفارسي، في هذه المعركة إلى ازدياد اليأس، والاضطراب في المجتمع الفارسي، وفتح هذا الانتصار الباب واسعًا أمام المسلمين لاستكمال فتوح العراق، والانطلاق إلى المناطق الشرقية للإمبراطورية الفارسية، وبرز سعد بن أبي وقاص كقائد محترف أدار المعركة بنجاح.
وعالجت في الفصل السابع استكمال فتوح العراق، وفتوح بلاد فارس حيث نجح المسلمون في فتح المدائن عاصمة الإمبراطورية الفارسية، وجلولاء وحلوان، وطهروا العراق من بقايا الوجود الفارسي، ثم فتحوا تكريت ونينوى، والموصل في شمالي العراق، وقرقيسياء وهيت على الفرات، وماسبذان الواقعة على الحدود العراقية الفارسية، ثم الأبلة والبصرة في الجنوب، ودخلوا الأقاليم الفارسية الشرقية، ففتحوا الأهواز وتستر والسوس، ونهاوند وهمذان وأصفهان، وقومس وجرجان، وطبرستان وأذربيجان، وإقليم فارس وكرمان وسجستان، ومكران وخراسان، وطاردوا الإمبراطور الفارسي يزدجرد الذي فر من مدينة إلى مدينة حتى انتهى به المطاف إلى الخروج من بلاده، واحتمى بملك الترك حيث قتل بعد ذلك، وتم القضاء على الإمبراطورية الفارسية.
وتطرقت في الفصل الثامن إلى أحداث استكمال فتوح بلاد الشام، وفتوح الجزيرة وأرمينية والباب، وتحدثت عن عزل خالد بن الوليد، عن قيادة جيوش المسلمين في
1 / 8
بلاد الشام، وإسناد القيادة إلى أبي عبيدة بن الجراح، وهو القرار الذي اتخذه عمر، وخاض المسلمون عدة معارك كان أشدها اليرموك التي فتحت الباب واسعًا أمامهم للولوج إلى عمق بلاد الشام، وفتحوا كافة مدنها إما صلحًا، وإما عنوة، كما فتحوا الثغور الساحلية باستثناء طرابلس الشام، وإقليم الجزيرة الفراتية، وجزءًا من أرمينية، والباب على بحر قزوين.
وتضمن الفصل التاسع سجلًا بفتوح مصر التي كانت تحت الحكم البيزنطي، وقاد عمرو بن العاص جيش المسلمين، وحقق انتصارات مذهلة على القوى البيزنطية، وفتح كافة المدن المصرية بما فيها الإسكندرية، وأسس الفسطاط، وحتى يؤمن على مكتسبات الفتح من جهة الحدود الغربية، أو نتيجة لغريزة التوسع لدى القائد الإسلامي، فقد قام بحملة باتجاه الغرب، وفتح برقة وطرابلس الغرب، وكما حاول تأمين حدود مصر من جهة الجنوب بمهاجمة بلاد النوبة.
وعالجت في الفصل العاشر تنظيم الدولة في عهد عمر في خطوة،
فرضتها أوضاع المسلمين السياسية، والاجتماعية والاقتصادية، واحتكاكهم الحضاري بشعوب البلاد المفتوحة، ونمو الدولة بسرعة مذهلة، فتحدثت عن نظام الحكم والإدارة، والدواوين وبيت المال والقضاء، وعن علاقة الخليفة بالمجتمع الإسلامي، وإدارة البلاد المفتوحة من واقع الطابع العام لعقود الصالح، وختمته بعلاقة الفاتحين بسكان البلاد المفتوحة.
ودونت في الفصل الحادي عشر أحداث الفتوح في عهد عثمان بن عفان الذي خلف عمر بن الخطاب بعد مقتله، والواقع أن عمر عمد إلى بلورة وجهة نظر جديدة تجاه مسألة الحكم تنطلق من إحياء الشورى، التي تأستت عليها بيعة سقيفة بني ساعدة تاركًا لنخبة المسلمين من أهل الحل، والعقد قرار اختيار الخليفة المناسب، فاختار مجلسًا للشورى مؤلفًا من ستة أعضاء من بينهم عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وبعد مداولات تداخلت فيها المصالح العامة، والخاصة اختير عثمان خليفة، وقد واجه في مستهل حياته السياسية عدة ثورات في البلاد المفتوحة، ونجح في قمعها، ثم التفت إلى استكمال الفتوح، ففتح أرمينية وطرابلس الشام، وغزا الجزر البحرية، وإفريقية وبلاد النوبة، وخاض المسلمون في عهده معركة بحرية كبرى ضد البحرية البيزنطية في ذات الصواري.
وتناولت في الفصل الثاني عشر أحداث الفتنة الكبرى التي عصفت بالمسلمين، وأدت إلى قتل عثمان، وذلك من واقع التطور الاجتماعي، والسياسي للمجتمع
1 / 9
الإسلامي نتيجة الفتوح، وتدفق الأموال وتكديسها، وقد أفرزت حياة جديدة للمسلمين، وعلاقات تصادمية بين الإدارة المركزية، وجمهور القبائل الذين تركزوا في الأمصار بفعل هيمنة المدينة على القرار السياسي من خلائل إعادة هيكلية، وتحديد وظيفة الخلافة، وصلاحيات الخليفة على حساب دور القبائل ومنزلتها، وقد ذهب عثمان ضحية ذلك.
وعالجت في الفصل الثالث عشر أوضاع المسلمين العامة في ظل خلافة علي بن أبي طالب الذي تولى الخلافة بعد مقتل عثمان في ظل الانقسام الذي أفرزته الثورة، واتساع الهوة بين الفئات المتناقضة التوجهات في المجتمع الإسلامي، وقد خلقت فرزًا اجتماعيًا جذريًا بين الجمهور القبلي من جانب، وبين النخبة القرشية من جانب آخر، وعد اختياره انقلابًا على نهج عثمان، وعودة إلى نهج عمر المتشدد، على الرغم من تغير الظروف الموضوعية واختلافها كثيرًا، مما خلق معارضة سياسية ضد حكمه تمثلت بقيام حلف بين طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعائشة أم المؤمنين، كما عارضته الفئات الأموية بزعامة معاويءة بن أبي سفيان، بحجة الثأر لمقتل عثمان، وتواجه المسلمون عسكريًا لأول مرة في تاريخهم في معركة الجمل، وانتصر علي على قوى التحالف، وقتل كل من طلحة والزبير، وسيطر علي على العراق، واستعد لمواجهة معاوية القابع في بلاد الشام.
واستكملت في الفصل الرابع عشر الحديث عن أوضاع المسلمين العامة في ظل خلافة علي بن أبي طالب من واقع الصراع بينه، وبين معاوية بالإضافة إلى الخوارج الذين ظهروا على الساحة السياسية بعد معركة صفين التي جرت بين الرجلين، وما جرى من إشكالات سياسية على أثر معركة صفين، فقد اتفق الخوارج على التخلص من علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص الذين عدوهم المسئولين المباشرين عن انقسام المسلمين وتشتتهم، فنجحوا في اغتيال الأول في الكوفة، وفشلوا في اغتيال معاوية في دمشق، وعمرو في مصر، وبمقتل علي بن أبي طالب، انتهى عصر صدر الإسلام.
وأنا على ثقة بأن القارئ سيجد في هذه الدراسة متعة وافئدة، كما سيلمس موضوعية في معالجة الأحداث.
والله أسأل أن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، وأن ينفع بها القارئ العربي والمسلم، إنه سميع مجيب.
بيروت في ٣/١/ ٢٠٠٣.
أ. د. محمد سهيل طقوش.
1 / 10
الباب الأول: أبو بكر الصديق ١١-١٣هـ-٦٣٢-٦٣٤م
الفصل الأول: الأوضاع السياسية في الجزيرة العربية عقب وفاة النبي
الأوضاع السياسية في المدينة
...
الفصل الأول: الأوضاع السياسية في الجزيرة العربية عقب وفاة النبي
الأوضاع السياسية في المدينة:
التعريف بأبي بكر:
هو عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب١، ويلتقي بنسبه مع النبي في مرة، كان يسمى في الجاهلية عبد الكعبة، فسماه النبي عبد الله، ولقبه بـ"عتيق" لحسن وجهه، وعتقه من النار٢، وبالصديق؛ لأنه بادر إلى تصديقه لا سيما صبيحة الإسراء٣. أبوه عثمان، ولقبه أبو قحافة، وأمه سلمى بنت صخر بن عمرو بن عامر بن كعب بن مرة، وكنيتها أم الخير٤.
ولد أبو بكر في مكة بعد عام الفيل بعامين وأشهر، وهو من سراة أهلها، عالمًا بأنساب العرب وأخبارهم٥، عمل بزازًا يتاجر بالثياب، وهو أول من أسلم من الرجال، وسرعان ما ترك التجارة بعد إسلامه، وتفرغ للدعوة الإسلامية مع النبي.
اشتهر أبو بكر بالعفة والخصال الحميدة، لم يشرب الخمر التي كانت متفشية في المجتمع الجاهلي، زاهدًا متواضعًا في أخلاقه ولباسه، ومطعمه ومشربه سخيًا كثير البذل والعطاء، لينًا، رقيقًا، بعيد النظر، ثاقب الفكر، حازمًا في اتخاذ القرارات، أعتق سبعة من المسلمين كانت قريش تعذبهم، منهم بلال من رباح وعامر بن فهيرة، أسلم بدعوته كثير من العرب الذين افتخر بهم الإسلام، مثل عثمان بن عفان، والزبير بن
_________
١ الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير: تاريخ الرسل والملوك، ج٣ ص٤٢٤، ٤٢٥.
٢ ابن هشام، أبو محمد عبد الملك بن هشام: السيرة النبوية على هامش الروض الأنف لأبي القاسم عبد الرحمن السهيلي، ج١ ص٢٨٧.
٣ الطبري: ج٣ ص٤٢٥، العسقلاني، الحافظ شهاب الدين المعروف بابن حجر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري ج٨ ص٨.
٤ الطبري: المصدر نفسه.
٥ ابن هشام: ج١ ص٢٨٨.
1 / 13
العوام وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله١.
كان إيمان أبي بكر بالنبي شديدًا، صدقه في صباه، ورافقه عندما هاجر إلى المدينة، فهو المقصود بقوله تعالى: ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوب: ٤٠] .
وعندما استقر النبي في المدينة كان أبو بكر ساعده الأيمن، وقد خصه بمزايا لم يخص أحدًا بها، وقدر له منزلته، وأشاد بذكره كثيرًا: "ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافأناه إلا أبا بكر، فإن له عندنا يدًا يكافئه الله ﷿ بها يوم القيامة"٢، "ما دعوت أحدًا إلى الإسلام إلا كانت له فيه كبوة، غير أبي بكر، فإنه ما عكم"٣.
روى أبو بكر مائة واثنين وأربعين حديثًا عن النبي، معظمها في حق الأنصار. وعندما قال النبي في آخر خطبة له: "إن عبدًا من عباد الله خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار الله"، فهمها أبو بكر وعلم أن النبي إنما يريد نفسه، وأن وفاته قد حانت؟ بكى وقال: "نفديك بأنفسنا وأبنائنا"، فقال: "على رسلك يا أبا بكر، انظروا هذه الأبواب الشوارع اللافظة في المسجد، فسدوها، إلا ما كان من بيت أبي بكر، فإني لا أعلم أحدًا كان أفضل عندي في الصحبة يدًا منه"، وفي رواية أنه قال: "إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن إخوة الإسلام؛ لا تبقى خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر" ٤.
_________
١ ابن هشام: ج١: ص٢٨٨، ٢٨٩، ج٢ ص٦٧، ٦٨.
٢ فنسك: المعجم المفهرس لألفاظ الحديث ج٧ ص٣٥٤.
٣ عكم: تردد.
٤ الطبري: ج٣ ص١٩٠، ١٩١.
اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ١ دوافع الاجتماع: توفي النبي محمد ﷺ ضحى يوم الاثنين "في ١٢ ربيع الأول ١١هـ/ ٧ حزيران ٦٣٢م" في المدينة٢، وأحدثت وفاته صدمة عنيفة، فاجأت المسلمين عامة، وخلقت _________ ١ سقيفة بني ساعدة في المدينة، وهي ظلة كانوا يجلسون تحتها، وأما بنو ساعدة الذين نسبت إليهم السقيفة، فهم حي من الأنصار، وهو بو ساعدة بن كعب بن الخزرج، الحموي، ياقوت: معجم البلدان ج٣ ص٢٢٨، ٢٢٩. ٢ الطبري: ج٣ ص٢٠٠.
اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ١ دوافع الاجتماع: توفي النبي محمد ﷺ ضحى يوم الاثنين "في ١٢ ربيع الأول ١١هـ/ ٧ حزيران ٦٣٢م" في المدينة٢، وأحدثت وفاته صدمة عنيفة، فاجأت المسلمين عامة، وخلقت _________ ١ سقيفة بني ساعدة في المدينة، وهي ظلة كانوا يجلسون تحتها، وأما بنو ساعدة الذين نسبت إليهم السقيفة، فهم حي من الأنصار، وهو بو ساعدة بن كعب بن الخزرج، الحموي، ياقوت: معجم البلدان ج٣ ص٢٢٨، ٢٢٩. ٢ الطبري: ج٣ ص٢٠٠.
1 / 14
وضعية خاصة ذات ملامح منفردة ومصيرية، وبرزت فورًا مسألة الحفاظ على أنجازاته من دين ودولة، وبالتالي مسألة خلافته.
وساهمت غيبته في إبراز الطابع الدنيوي لأحداث، حيث أخذت المصالح الاجتماعية للقبائل المختلفة، التي ما زالت ضمن الحظيرة الإسلامية، تعبر عن نفسها بأشكال مباشرة، وصريحة تتلاءم مباشرة مع محتواها.
والواضح أن مسألة قيادة المسلمين بعد وفاة النبي، كانت المسألة الرئيسية والحماسة التي ارتبطت بها كل المسائل الأخرى على أن تتلازم مع الأسس التي وضعها لإقامة دولة، ولا يستطيع المؤرخ لتاريخ صدر الإسلام السياسي، والاجتماعي أن يتجاهل التناقضات، والصراعات التي تفجرت بعد وفاته.
ففي الوقت الذي أعلن فيه خبر الوفاة، برزت لدى كبار الصحابة من الأنصار، الأوس والخزرج، قضية اختيار خليفة للنبي، ذلك أنه لم يرد في القرآن الكريم نص صريح يحدد أسس انتخاب خليفة لرسول الله، لكنه دعا إلى الشورى، يقول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ، وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [الشورى: ٣٧، ٣٨]، ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: ١٥٩] .
الواضح أن كلمة الشورى قرآنية كما يتضح من الآيتين السالفتين، أما الأولى، فتحدد للأمة الإسلامية خصائص من بينها أن "أمرهم شورى بينهم"، وأما الثانية، فقد نزلت بعد هزية أحد، ومن المعروف أن النبي شاور أصحابه قبل الخروج إلى أحد، وهي التي أدت إلى هذا الخروج للقاء المشركين في ميدان مكشون، وكان رأي النبي التحصن بالمدينة، وعدم الخروج.
وهكذا فإن القرآن الكريم يطلب من النبي استشارة الأمة في الأمر حتى تنتفي الشبهة تمامًا في المسألة، وهذا الأمر هو لفظ عام للأفعال، والأقوال والأحوال، ومن ضمنها مسائل الحرب التي أدت الآراء المختلفة فيها إلى الهزيمة١.
وتنفيذًا لهذا التوجه، لم يضع النبي تفاصيل خارجة عن إطار هذه المعاني القرآنية العامة، وبقيت سياسته منسجمة مع الهيكلية القبلية، ولم تمس نهائيًا زعاماتها
_________
١ السيد، رضوان: السلطة في الإسلام، دراسة في نشوء الخلافة، بحيث في كتاب: بلاد الشام في صدر الإسلام ص٤٠٧، ٤٠٨، المؤتمر الدولي الرابع لتاريخ بلاد الشام ١٩٨٧.
1 / 15
ورئاستها القائمة، بالإضافة إلى ذلك، فإن لم يتصرف كسياسي باسم قريش، أو باسم قبيلة ما، بل اكتفى في عمله السياسي بشخصه وحده، وكانت هيبته الدنيوية لا تنفصل عن سلطانه النبوي الروحي، فهو لم يقم بجمع القبائل من حوله كشريف قريشي، وإنما كنبي ورسول فحسب، وقبيلته قريش كانت آخر من يمكن أن يدعي أنها قد ساهمت مساهمة جدية في مساعدته ونصرته.
وكأن النبي أراد بذلك أن يترك الأمر شورى بين المسلمين ليختاروا من يصلح لخلافته من بينهم جريًا على عادة النظام القبلي الذي ألفه العرب، وبخاصة أنه لم يكن له ولد ذكر يستخلفه من بعده.
لا يمكن لهذه الإشكالية، أن تجد حلًا معقولًا، ومقبولًا إلا على أرضية النظام القبلي السائد، وإن المؤرخ لهذه الحقبة، لا بد أن يرى جملة من التناقضات والصراعات التي تفجرت بعد وفاة النبي على أنها جزء لا يتجزأ من تركيبة الأمة نفسها١، وهو ما يفسر لنا تسابق القبائل، والبطون على أن يكون الأمر لها دون غيرها، وتجلت النفس العربية والطبيعة القبلية إذ ذاك، فالنصار يخافون قريشًا والمهارجون إن استأثروا بالأمر دونهم، وهم جميعًا فيما بينهم يتوجسون، وتخشى كل من الأوس والخزرج صاحبتها، ولم يكن الوضع في مكة بأقل منه في المدينة، فقد دب التنافس في هذا الأمر بين بطون قريش، فسعى أبو سفيان بن حرب في إيغار صدر علي على أبي بكر، ونعت عليًا والعباس بـ"الأذلين المستضعفين"٢.
ومن جهة أخرى، تضمنت روايات المصادر نية النبي، وهو على فراش الموت، كتابة وصية للمسلمين لن يضلوا بعدها، غير أنه حصل لغط، واختلاف بين الحاضرين، فمن قال: "إن رسول الله ﷺ قد غلبه الوجه، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله"، وعلى رأس هؤلاء عمر بن الخطاب، ومن قائل: "قربوا يكتب لكم رسول الله ﷺ"، الأمر الذي ضايق النبي، فقال لهم: "قوموا عني، ما ينبغي أن يكون بين يدي النبي خلاف"، فقال عندئذ، ابن عباس: "الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله ﷺ، وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم"٣.
ولعل النبي قد تأثر برأي عمر أكثر مما تأثر برأي غيره نظرًا لصدقه، وإخلاصه وصراحته في رأيه.
_________
١ إبراهيم، أيمن: الإسلام والسلطان والملك ص١١٥.
٢ الطبري: ج٣ ص٢٠٩.
٣ ابن سعد: ج٢ ص٢٤٢.
1 / 16
توضحت إذن الخطورة التاريخية لمسألة الخلافة على مصير الأمة الإسلامية السياسي بعد وفاة النبي، وكانت مفتوحة وموضع أخذ ورد، ومثار جدل بين قوى مختلفة، وتذكر المصادر أن الأنصار اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة للتباحث فيمن يتولى الأمر بعد وفاة النبي، لكنها لم تذكر من الذي دعا إلى هذا الاجتماع، ولا كيف تمت الدعوة، وإنما روت حصول الاجتماع في السقيفة.
ويبدو أن الدعوة للاجتماع تمت على عجل دون إعلام المهاجرين، وكأن الهدف أخذهم على حين غرة، وخلق واقعة سياسية، أو أن بعض الأنصار تذاكروا في أمر من يخلف النبي خلال مرضه، وأنهم توقعوا وفاته، فلما حصلت الوفاة دعوا إلى هذا الاجتماع فاجتمعوا.
يقول الطبري: "إن النبي ﷺ لما قبض اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة، فقالوا: نولي هذا الأمر بعد محمد ﷺ سعد بن عبادة"١، والراجح أن تغلب الخزرج على الأوس هو الذي دفع الخزرج إلى ترشيح رئيسهم سعد بن عبادة، والجدير بالذكر أن سيد الأوس سعد بن معاذ كان قد توفي قبل ذلك، ويبدو أن الأوس لم يكونوا راضين في قراره أنفسهم عن تولية سيد الخزرج، ولا ندري أكانوا جميعًا حاضرين في اجتماع السقيفة، أنهم كانوا يراقبون الموقف من بعيد، وينتظرون تطوراته.
والراجح أن الأنصار كانوا مدفوعين بعدة عوامل للاجتماع على عجل لعل أهمها:
- شعورهم بأنهم بحاجة ماسة إلى اختيار خليفة يتولى شئون المدينة، وأمر المسلمين، فمدينتهم مهددة بعد وفاة النبي من الإعراب، ورجال القبائل بوصفها العاصمة الإسلامية، كما أن كثيرًا من الإعراب، ومعظم رجال القبائل لم يؤمنوا، وإنما أسلموا بلسانهم خوفًا من قوة المسلمين المتنامية.
- إدراكهم بأنهم مهددون قبل غيرهم من أولئك؛ لأنهم كانوا السند لرسول الله، وهم الذين ناصروه، واستطاعوا مع المهاجرين أن يضعوا نواة الدولة الإسلامية الأولى، التي تمكنت من إخضاعهم، والسيطرة على ديارهم٢.
- رأوا أنهم أصحاب المدينة، وأصحاب الغلبة والنفوذ فيها، وأنهم ما زالوا أصحاب الضرع والزرع، وأن الحكم حق لهم دون غيرهم، ويرغبون في التصرف
_________
١ تاريخ الرسل والملوك: ج٣ ص٢٠١- ٢١٨.
٢ شاكر، محمود: تاريخ الإسلام ج٣ ص٤٩.
1 / 17
كأسياد واسترداد سيادتهم التي تنازلوا عنها للنبي في حياته، ولا يجوز لغيرهم أن يحكمهم في بلدهم، بدليل أن الحباب بنا لمنذر الأنصاري طلب من الأنصار، في إحدى مراحل النقاش مع أبي بكر، وأصحابه من المهاجرين، بإجلاء هؤلاء عن أرضهم إذا لم يصغوا لما يقول١.
- أحقيتهم بالخلافة من المهاجرين نظرًا لسابقتهم في الإسلام، ونصرتهم لرسول الله وأصحابه، وإيوائهم له، وإليهم كانت الهجرة٢، وما نتج عن ذلك من فضائل لم تتوفر لية قبيلة عربية، وعززوا موقفهم بالإشارة إلى أن النبي استمر مدة طويلة يدعو قومه إلى الدين الجديد، ولم يؤمن به منهم إلا عدد ضئيل لم يكونوا قادرين على الدفاع عنه أو تعزيزه، وهذا ما اختص به الأنصار، فبقوتهم دانت العرب للإسلام، وهو ما دفع سعد بن عبادة إلى أن يخاطبهم بقوله: "استبدوا بهذا الأمر، فإنه لكم دون الناس"٣.
- أرادوا تحاشي هيمنة قريش الظاهرة منذ فتح مكة، والتي ارتضوها احترامًا للنبي، وخشوا إن انتخب مرشح قرشي من المهاجرين، أن يستبد بالأمر، فيقعوا تحت سيطرة قريش التي حاربوها ثماني سنوات، مما يهدد باختلال التوازن لغير مصلحتهم في المرحلة القادمة.
والواضح أن هذه الهواجس لم تكن غائبة عن تفكيرهم منذ فتح مكة حيث كانت الراية معقودة لسعد بن عبادة، وقد بلغت به الحماسة، فقال: "اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة"٤، فعد النبي هذا القول على أنه موجه ضد قريش، فأخذ الراية منه وأعطاها لقرشي مهاجر هو علي بن أبي طالب٥، كما استثناهم النبي من العطاء في أعقاب غزوة الطائف٦، مما أثار قلقهم، وقد أدرك النبي هذا الشعور لديهم بعد أن كثرت القالة منهم، فبدده قائلًا: "ألا ترضون يا معشر الأنصار أن تذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبًا وسلكت الأنصار شعبًا، لسلكت شعب الأنصار" ٧، كما أوصى المهارجين بهم في مرضه الأخير حين
_________
١ ابن قتيبة، أبو محمد عبد الله بن مسلم: الإمامة والسياسة ج١، ص١٢، الطبري: ج٣ ص٢١٨- ٢٢٠.
٢ المصدران نفساهما.
٣ الطبري: ج٣ ص٢١٨.
٤ ابن هشام: ج٤ ص٩١.
٥ المصدر نفسه.
٦ المصدر نفسه: ص١٥٦.
٧ المصدر نفسه: ص١٥٦، ١٥٧.
1 / 18
قال: "يا معشر المهاجرين استوصوا بالأنصار خيرًا، فإن الناس يزيدون والآنصار على هيئتها لا تزيد، وإنهم كانوا عيبتي التي أويت إليها، فأحسنوا إلى محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم"١.
وتدل فكرة الانتخاب على:
- وجود نهج سياسي محصور بالنخبة.
- وإن الوظيفة النبوية كانت تفهم كوظيفة قيادية تستلزم خلفًا٢.
موقف الأنصار خلائل المناقشة مع المهاجرين:
مما لا شك فيه أن الروايات التاريخية الكثيرة التي حفظتها لنا المصادر حول ما دار في اجتماع السقيفة، يشوبها الكثير من التضارب، ومع ذلك فهي تشترك في نقاط جوهرية تشكل أرضية صالحة ينظر إليها على أنها ذات محتوى تاريخي يستند إليه في التاريخ لهذه الحقبة، حيث كانت مسألة خلافة النبي مسار جدل اتسم بالحدة أحيانًا، وقد تولى كل من سعد بن عبادة، والحباب بن المنذر، التكلم باسم الأنصار عامة، وقد افتتح الأول المناقشة بخطبة تشير إلى أن الأنصار أعطوا لأنفسهم الحق بالتفرد في تقرير مصير خلافة النبي مع ما لهذه القضية من أهمية وخطورة، دون الوقوف على رأي الطرف الآخر الذي يشكل شطر المجتمع الإسلامي في المدينة، وهم المهاجرون، وقد عللوا موقفهم هذا بأسباب موجبة لا تخرج عن موقفهم المشرف من الدين وصاحبه، ونصرتهم له، وخذلان أكثر العرب له، وعجز المهاجرين عن حمايته، وحماية أنفسهم حتى اضطروا إلى الهجرة إلى مدينة الأنصار، فكان بعد ذلك النصر المؤزر، مما أوضحناه في دوافع الاجتماع٣.
ولا شك بأن هذا التصرف هو سلوك انفصالي لا يأخذ بالحسبان مجموع الأمة، ثم إن رئاسة الدولة إنما هو أمر ديني، وسياسي معًا.
ويبدو أن بعض الأنصار أدركوا بعد ذلك، حقيقة وضعهم في أنهم ليسوا وحدهم أصحاب الحق في تقرير أمر الخلافة، وأن لهم منافسًا قويًا سوف يزاحمهم، إنهم المهاجرون، يدل على ذلك، رد الفعل الأولي عند هؤلاء على خطاب سعد بن عبادة، فبعد أن دعموا رأيه، وأيدوا موقفه، استدركوا الواقع التاريخي الذي يعيشون فيه، ورأوا أن المهاجرين لن يسلموا بهذا الأمر، ولا بد أن يعارضوه، وجرت بينهم
_________
١ ابن هشام: ج٤: ص٢٥٧.
٢ جعيط، هشام: الفتنة ص٣٤.
٣ انظر نص الخطبة في الطبري: ج٣ ص٢١٨.
1 / 19
مناقشة هادئة انتهت إلى القول بالثنائية في الحكم "منا أمير ومنكم أمير"١.
كان الحباب بن المنذر صاحب هذه النظرية، وجاءت كجواب على الرفض القاطع للمهاجرين في تفرد الأنصار بالإمارة دون سواهم، معللًا رأي هؤلاء بقوله: "منا أمير ومنكم أمير، فإنا والله ما ننفس هذا الأمر عليكم أيها الرهط، ولكنا نخاف أن يليه أقوام قتلنا آباءهم وإخوانهم"٢.
حاول الجاحظ أن يشرح موقف الأنصار، وسلوكهم في اجتماع السقيفة وبخاصة في ما يتعلق برأيهم في ازدواجية الإمارة، وهو يفهم كلام الأنصار: "منا أمير ومنكم أمير"، كما لو أنهم أرادوا أن يقولوا: "لا بد لنا معشر الأنصار من أمير على أي حال، وأنتم بعد أعلم بشأنكم، فأقروا عليكم من بدا لكم، وليس في هذا طعن على خاصة أبي بكر، كما أنه ليس فيه تأكيد لإمامته دون غيره"٣.
موقف المهاجرين:
كان المهاجرون آنذاك أكثر بعدًا عن هذا المناخ السياسي، بعضهم قد شغل بوفاة النبي وجهازه، ودفنه، وبعضهم ما تزال الصدمة تملأ نفسه، وبعضهم لم يفكر في اختيار خليفة، معتقدًا أن هذا الأمر هو آخر ما يقع الاختلاف فيه، وهم على يقين أن ما من طائفة من المسلمين سوف تنازعهم في هذا الأمر٤.
ولما بلغ خبر اجتماع السقيفة أبا بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، مضيًا إلى هناك مسرعين، بفعل أهمية وخطر الموضوع المطروح من مشكلة الحكم، والتقيا في طريقهما أبا عبيدة بن الجراح فأخذاه معهما، وشكل هذا الثلاثي جماعة متماسكة، ربما منذ المرحلة المكية من الدعوة، فهم ينتمون إلى عشائر قرشية صغيرة، وكان هذا سببًا لتقاربهم، وقد واجهوا خصوصية متفردة لم تكن قادرة على خلافة النبي في عمله التوحيدي.
وشق أبو بكر طريقه إلى صدر الاجتماع، وألقى خطبة في المجتمعين بين فيها وجهة نظر المهاجرين عامة من قضية اختيار خليفة لرسول الله٥، وهي تختلف في مضمونها عن خطبة سعد بن عبادة.
_________
١ الطبري: ج٣ ص٣١٨.
٢ البلاذري، أحمد بن يحيى بن جابر: أنساب الأشراف ج٢ ص٢٦٠.
٣ الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر: العثمانية ص١٧٧.
٤ شاكر: ج٣ ص٥١.
٥ انظر نص الخطبة عند الطبري: ج٣ ص٢١٩، ٢٢٠.
1 / 20
لقد فضل أبو بكر وحدة الأمة التي أسسها النبي، والسابقة في الجهاد من أجل الإسلام، وحدد الأولوية بالأقدمية في حياة الإسلام، وبالعذاب في سبيل العقيدة والإيمان، وقدم قاعدة الصحبة كمعيار لاختيار الأفضل، ثم أشاد بمزايا الأنصار، ولم يغمطهم حقهم من التكريم، إلا أن ذلك يأتي في المرتبة الثانية.
وتضمنت الخطبة الأسباب الموجبة ليكون المراء من المهاجرين محصورة في أنهم أول من عبد الله في الأرض، وآمن بالله وبالرسول، وهم أولياؤه وعشيرته، وأحق الناس بهذا الأمر من بعده، لا ينازعهم في ذلك إلا ظالم.
ويبدو أنها رد على مقالة سعد بن عبادة التي قالها في الأنصار قبل حضور المهارجين، وكررها الحباب بن المنذر، وهي صفة جعلت كثيرًا من المسلمين يتراجعون عن المطالبة بالحكم خشية من أن يكون ظالمًا لا سيما أن توقيت إثارة هذه المطالب لم يكن مناسبًا؛ لأن الوضع كان مفعمًا بالحزن، والألم نتيجة وفاة النبي، ولكن هناك صراعًا خفيًا يكاد يعصف بالأمة الإسلامية يتمثل في اعتقاد أهل النبي، وعشيرته بأحقيتهم بهذا الأمر١.
وهكذا كانت السابقة في جانب المهاجرين من زاوية إسلامية محض، وكان التفوق في جانبهم أيضا من وجهة نظر عربية محض؛ لأنهم ينتمون إلى قبيلة قريش، قبيلة النبي، وبالتالي فإن الوراثة في جانبهم٢.
إذن لا انقسام للسلطة، بل وحدة الأمة، وتفوق قريش، وأولوية المهاجرين، ومواصلة العمل النبوي.
وحتى انتهاء أبي بكر من إلقاء كلمته التي وجهها إلى الأنصار، لم يكن المهاجرون قد استقروا على تحديد الشخص الذي سيتولى هذا الأمر، ويدل ذلك على أن اهتمامهم كان بالمبدأ، وليس بالأشخاص، على عكس الأنصار الذين كانت رؤيتهم واضحة، وقدموا مرشحهم سعد بن عبادة.
بيعة أبي بكر:
تطورت المواقف المتباينة التي عرضت في اجتماع السقيفة نحو التأزم، ولم تنفرج إلا بعد أن أيد بشير بن سعد الأنصاري أبو النعمان بن بشير، وهو من الخزرج، موقف المهاجرين٣، ويبدو أنه استاء من تولية سعد بن عبادة، ويدل ذلك
_________
١ شنقارو، عواطف العربي: فتنة السلطة ص٣٨.
٢ جعيط: ص٣٥.
٣ ابن قتيبة: ج١ ص١٢، ١٣.
1 / 21
على أن الاعتراضات في اجتماع السقيفة نحت اتجاهًا قبليًا، فقد خشيت الأوس أن يتزعم خزرجي الأمة الإسلامية، وكذلك خشيت الخزرج من أن يترأس أوسي حكم المسلمين، وقد أنهت هذه المفارقة موقف
الأنصار ودورهم، الأمر الذي أدى إلى مبايعة أبي بكر كأمر واقع، أو فلتة١ على حد قول عمر بن الخطاب.
وتحرك أبو بكر في تلك اللحظة مستغلًا تحول الموقف لصالح المهاجرين، فلم ينح لأحد من المتكلمين التعليق على كلام بشير بن سعد، ورأى الفرصة سانحة لإقفال باب المناقشة، فدعا المجتمعين إلى مبايعة عمر بن الخطاب، أو أبي عبيدة بن الجراح، أمين هذه الأمة، ولكن عمر أبى إلا أن يتولاها أبو بكر، أفضل المهاجرين، وثاني اثنين إذ هما في الغار، وخليفة رسول الله على الصلاة، فطلب منه أن يبسط يده ليبايعه، فسبقه بشير بن سعد، وأسيد بن حضير، ثم أقبل الأوس والخزرج على مبايعته، ووثب بعد ذلك أهل السقيفة يبتدرون البيعة، وكأنهم كانوا يترقبون أن يأخذ أحدهم زمام المبادرة، ولم يبق أحد لم يبايع سوى سعد بن عبادة، وما منعه من ذلك سوى حراجة وضعه كزعيم رشحته الخزرج، وصحة جسمه حيث كان عليلًا، وفي اليوم التالي لهذه البيعة الخاصة، بويع أبو بكر البيعة العامة في المسجد٢.
وهكذا تولى المهاجرون السلطة الفعلية في الوقت الذي ابتعد الأنصار عنها كثيرًا دون أن يكون للتسوية التي طرحها أبو بكر في اجتماع السقيفة: "نحن الأمراء وأنتم الوزراء"، أي نصيب من التنفيذ، باستثناء مشاركة تمت لهم في عهد عمر بن الخطاب الذي قرب جماعة منهم على حساب قريش، ومشاركة أكثر فعالية في عهد علي بن أبي طالب الذي اعتمد عليهم في إدراته وحروبه.
جرت هذه الوقائع في الوقت الذي كان فيه علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، ونفر من بني هاشم، وطلحة بن عبيد الله، مشغولين بجهاز النبي، ودفنه، فغابوا عن اجتماع السقيفة، وعليه، لم يكن لعلي رأي مباشر في النقاش إلا أنه بايع أبا بكر، واتفق مع جماعة المسلمين بغض النظر عن المدة التي قضاها بدون بيعة٣.
وربما يكون من المفيد استعراض الكيفية التي حدثت بها مبايعة أبي بكر من قبل القرشيين، فقد ذكر ابن قتيبة: "وإن بني هاشم اجتمعت عند بيعة الأنصار، إلى علي بن أبي طالب، ومعهم الزبير بن العوام ﵁، وكانت أمه صفية بنت عبد
_________
١ فلتة: بغتة وفجأة.
٢ الطبري: ج٣ ص٢٢١، ٢٢٢.
٣ البلاذري: ج٢ ص٢٦٢، ٢٦٣.
1 / 22
المطلب، وإنما كان يعد نفسه من بني هاشم، واجتمعت بنو أمية إلى عثمان، واجتمعت بنو زهرة إلى سعد وعبد الرحمن بن عوف، فكانوا في المسجد الشريف مجتمعين، فلما أقبل عليهم أبو بكر وأبو عبيدة، وقد بايع الناس أبا بكر قال لهم عمر: "ما لي أراكم مجتمعين حلقًا شتى، قوموا فبايعوا أبا بكر فقد بايعته الأنصار، فقام عثمان بن عفان، ومن معه من بني أمية فبايعوه، وقام سعد وعبد الرحمن بن عوف، ومن معهما من بني زهرة فبايعوا"١.
كما غابت عن المنافسة المباشرة في اجتماع السقيفة الفئة "الأرستقراطية"، بزعامة أبي سفيان بن حرب، إلا أنه تبنى المرشح الأوفر حظًا بهدف استمرارية مصالحه على الرغم من أنه حرض عليًا، ودعاه إلى البيعة لنفسه، فزجره علي، غير أن خالد بن سعيد بن العاص، وهو أحد أشراف مكة ووجهًا من وجوه بني أمية، وكان النبي قد أرسله عاملًا على صدقات مذحج، كان له موقف متميز، فبعد أن قدم إلى المدينة، وكانت البيعة قد تمت، توجه إلى علي وعثمان، وخاطبهما قائلًا: "إنما الشعار دون الدثار، أرضيتم يا بني عبد مناف أن يلي أمركم عليكم غيركم؟ فقال علي: "أوغلبة تراها؟ إنما هو أمر الله يضعه حيث يشاء، قال: فلم يحتملها عليه أبو بكر واضطغنها عمر"، وبقي هذا الصحابي ممتنعًا عن بيعة أبي بكر مدة ستة أشهر٢.
التعقيب على اجتماع السقيفة:
- يعد اجتماع السقيفة بمثابة مؤتمر سياسي، عالج فيه المسلمون مشكلة لم يكن لهم بمثلها عهد من قبل، ودارت فيه المناقشات وفق الأساليب الحديثة.
- إن حدة الحوار في اجتماع السقيفة، وقسوة العبارات المتبادلة أحيانًا، وروعة العبارات البليغة أحيانًا أخرى، تجعلنا نقف في هذا الاجتماع على حقيقتين:
الأولى: التعرف على الدوافع التي تحرك المتحاورين وتوجههم.
الثانية: حجم الحرية الذي أوصل الحوار إلى هذا المستوى الراقي٣.
-لقد تمت بيعة أبي بكر وفقًا للعادات المتعارف عليها في تصنيف، وانتخاب الزعامات القبلية، لكن ضمن إطار الدين٤؛ لأن المسلمين افتقدوا في ذلك الوقت، وتلك المرحلة من تطور أوضاعهم السياسية والاجتماعية، إلى أسس تحدد كيفةد
_________
١ الإمامة والسياسة: ج١ ص١٧.
٢ الطبري: ج٣ ص٣٨٨.
٣ عبد المجيد، أحمد فؤاد عبد الجواد: البيعة عند مفكري أهل السنة ص٣٨.
٤ الدوري، عبد العزيز: مقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي ص١٥، ١٦.
1 / 23
انتخاب خليفة، ويؤكد الاختلاف القوي بين الصحابة في بداية الاجتماع على أن ما حدث لم يتحقق عن طريق الشورى كما روت المصادر، إذ المعروف أن الشورى في عهد النبي هي التي كانت تتم في المسجد، حيث يجتمع المسلمون بالنبي، ويتناقشون في أمور دينهم، ودنياهم دون تمييز، ويأخذ برأيهم ومشورتهم، وبالتالي كان يسمح بإعطاء الرأي لأكبر عدد منهم، اهتداء بما دعا إليه القرآن الكريم، كمبدأ عام ونهج كلي، وترك التفصيل فيه والتحديد له لاجتهاد الأمة وفق مصالحها المتجدة، وحاجتها المتطورة١.
- إن غيبة النبي وما نجم عنها من فراغ معنوي، خلقت توافقًا تامًا في المحتوى، والشكل في سلوك الجماعات الإسلامية المختلفة، وما كان للرابط الديني أن يطغى في هذه المرحلة، على المعايير الاجتماعية السائدة، وأخلاقياتها، وسلوكها، القائلة على القبلية، لهذا كان السجال في اجتماع السقيفة أقرب إلى السجال
القبلي بين القبائل المسلمة٢.
- لم يكن أحد أكثر تعبيرًا عن الواقع القبلي كما كان أبو بكر حين خاطب الأنصار، فبدأ الانقسام بين تجمعين، أو وحدتين قبليتين "أما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن تدين العرب إلا لهذا الحي من قريش، هو أوسط العرب نسبًا ودارًا"٣، ثم إن الاعتراضات التي ظهرت من كلا الفريقين لم تكن شخصية، أو دينية بقدر ما كانت ذات طابع قبلي.
- احتوت الخلافة في طورها الأول، على الأقل، على مبدأين:
الأول: الفضل والمنزلة في الإسلام.
الثاني: النسب والشرف.
ولم يكن النقاش الذي دار بين المهاجرين، والأنصار سوى انعكاس لهذين المبدأين.
- اقتنع الأنصار بما قاله أبو بكر من أن العرب لن تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، وأن المهاجرين سوف لا يستبدون بالأمر، وسيشاورونهم في الشئون العامة، ولا يتفردون باتخاذ القرارات مكتفين بالعيش إلى جانبهم، وفي كنفهم، مطمئنين إلى وصية النبي في مرضه الأخير.
_________
١ شنقارو: ص٤٠، ٤١.
٢ إبراهيم: ص١٢٠.
٣ البلاذري: ج٢ ص٢٦٢، ٢٦٣.
1 / 24
- بغض النظر عن المناقشات التي دارت حول هذا الموضوع الحساس، عبر فريق الأنصار عن أول اتجاه سياسي في الإسلام بعد وفاة النبي، إلا أنه كان أوهى الاتجاهات، وأقلها خطورة، وبخاصة أنه اصطدم بوحدة غير منتظرة من جانب قريش مما أعاق حركته منذ بدايتها، كما أنه لم يكن بقادر على أن يقنع فريق المهاجرين بوجهه نظره في خلافة النبي، وبالتالي أن يكون سيد الموقف، والواقع أنه افتقر إلى الانسجام وإلى الزعامة، وكلتاهما من ركائز الطموح إلى السلطة، ومن شروطها المبدأية١، فمن حيث فقدان الانسجام، لم يكن الأنصار يشكلون جبهة موحدة، وإن مثلوا جبهة مشتركة لم تتأخر في التصدع أمام مقاومة المهاجرين، ولم يتفقوا على المرشح سعد بن عبادة، كان هناك الأوس من جهة والخزرج من جهة أخرى، وكان يفصل بينهما في الماضي نزاعات قبلية، فوحدهم الإسلام داخل قضية مشتركة، فقد ترددت قبيلة الأوس في منحه التأييد لكونه خزرجيًا، إذ عز عليهم أن يتفرد على زعامة المسلمين بعامة، والأنصار بخاصة، بدليل قول أسيد بن حضير، سيد الأوس، لعشيرته: "لا والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة، ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيبًا أبدًا"٢، كما ساد التنافس الداخلي بين الخزرج، إذ عندما ساند بشير بن سعد الخزرجي موقف المهاجرين، وطلب من الأنصار ألا ينازعوهم في هذا الأمر؛ لأن النبي من قريش، وقومه أحق به وأولى، ثم قام فبايع أبا بكر؛ قال له الحباب بن المنذر: "أنفست الإمارة على ابن عمك؟ "٣.
ومن حيث الافتقار إلى الزعامة السياسية، فقد كان سعد بن عبادة مريضًا، ولم يكن بحجم المنصب الكبير، أما الأوس فقد تراجعت قوتهم السياسية بعد وفاة زعيمهم سعد بن معاذ، فالزعامة السياسية إذن كانت غائبة عن تكتل الأنصار الذي طالب بالسلطة٤، غير أن هؤلاء قدموا الخدمة بتفجيرهم المشكلة لفريق المهاجرين المعتدل الذي قاده أبو بكر، وعمر وأبو عبيدة، حيث كان الأقدر على التحرك بما يملكه من خلفيات نضالية، فضلًا عن التقدير لزعامته٥، كما لم يثيروا غضب التيار المتشدد الذي التف حول علي، ولا تيار المحافظين بزعامة أبي سفيان بن حرب صاحب النفوذ القوي قبل الإسلام.
_________
١ بيضون، إبراهيم: ملامح التيارات السياسية في القرن الأول الهجري، ص١٣.
٢ الطبري: ج٣ ص٢٢١.
٣ المصدر نفسه.
٤ بيضون: ص١٣، ١٤.
٥ المرجع نفسه: ص١٤.
1 / 25
- أدى عمر دورًا بارزًا في إيصال أبي بكر إلى منصب الخلافة من واقع قوة شخصيته، ونتيجة لتفكيره السياسي المستنير الذي جعله أحد مستشاري النبي الأكثر حظوة وإصغاء، لقد أدرك أن الأمر قد يتطور إلى نزاع مسلح حيث اعتقدت كل فئة بأحقيتها بهذا الأمر، فكانت السرعة في التحرك، وفي الاختيار، وفي الأسباب التي أدت إلى نجاحه في اختيار أبي بكر، ولئن كان صحيحًا أن هذا الأخير قد فرض نفسه بنفسه من واقع شخصيته الهادئة، والمعتدلة والمقبولة من الجمع بالإضافة إلى حب النبي له، وقربه منه، وأسبقيته في الإسلام، فمن الصحيح أيضًا أن عمر قد ساعده كثيرًا، حيث قام بالحركة الأولى للاعتراف به، وشكل معه ثنائيًا لا يقبل الانفكاك، كما ارتبطا مع الأنصار برباط المصاهرة، ويبدو أن انتماءهما لعشائر قرشية صغيرة، طمأن الأنصار إلى كونهما لا يحكمان بالاعتماد، أكثر، على عشائر قريش القوية، وأن سياستهما ستكون إسلامية قائمة على السابقة في الإيمان والعقيدة، أكثر مما تقوم على روابط الدم١.
- إن ما أوردته روايات المصادر في أن الإمامة في قريش، تستند إلى رواية أبي بكر حين قال: "سمعت رسول الله ﷺ يقول: "الأئمة من قريش"، فهي مقولة استغلتها جميع الفرق الإسلامية وفسرت بها الإمامة، كل حسب رؤيتها ومصالحها، ولو سلمنا جدلًا أن النبي قد قالها، فإننا نرى أنه قصد إمامة الصلاة، والنظر في الشئون الدينية، ولم يقصد الجانب السياسي، فكلمة الإمامة لم تكن معروفة بالمفهوم السياسي إلا بعد ظهور الشيعة، والغلاة ثم الخوارج، وتحديدًا في عهد عثمان بن عفان حيث أصبح الإمام في نظرهم هو من يتولى الشئون السياسية والدينية، وخصوا بها شيعة علي، وأولاده من بعده، أما في عهد النبي فكانت الإمامة تعني الصلاة بدليل أن النبي طلب من أبي بكر أثناء مرضه أن يؤم المسلمين في الصلاة، ولهذا السبب أخذها المسلمون عن طريق القياس، في حين نجد أن النبي يستعمل لفظ أمير للقائد الذي يقود السرايا التي كان يرسلها في مهمات عسكرية، وهي ذات دلالة سياسية أكثر؛ لأنها تعني
الزعامة، وبالتالي لو أن النبي كان يقصد الزعامة، لقال لهم مثلًا: "الأمراء من قريش"، ولكنه قال: "الأئمة"٢.
_________
١ جعيط: ص٣٦، ٣٧.
٢ شنقارو: ص٤١، ٤٢.
1 / 26