نظرة مخالفة لما كان يستبيحه من ذلك في شبابه، ولعله ان يتوهم ذنوبا لم يقترفها. وربما بدا لي ان ابن عبد ربه كان اقرب إلى التزمت منه إلى الانطلاق، فقد أورثته ثقافته الفقهية نظرة محافظة متشددة تنفر من كل جديد وتعادي العلوم الدنيوية؟ إذا صحت التسمية - ويكفي ان نذكر صلته بمسلم بن احمد بن أبي عبيدة الليثي الذي كان عالما بالحساب والنجوم وكيف عابه لاهتمامه بهذه العلوم ووصفه بأنه شاذ عن رأي الجماعة وتهكم بمعارفه الفلكية والجغرافية، واعلمه بأنه لا يصدق ما تضمنته علومه، في قوله (١):
زعمت بهرام أو بيدخت يرزقنا ... لا بل عطارد أو مريخ أو زحلا
وقلت إن جميع الخلق في فلك ... بهم يحيط وفيهم يقسم الأجلا
والأرض كورية حف السماء بها ... فوقا وتحتا وصارت نقطة مثلا
صيف الجنوب شتاء للشمال بها ... قد صار بينهما هذا وذا دولا
كما استمر ابن موسى في غوايته ... فوعر السهل حتى خلته جبلا
أبلغ معاوية المصغي لقولها ... أني كفرت بما قالا وما فعلا وابن موسى هو الافشتين ومعاوية هو ابن الشبانسي. ومن صور العداء بينه وبين العلوم الجديدة انه ربما كره ابن أخيه سعيدا من أجلها، لا لأن هذا كان ثقيل الظل، كما يقول صاحب المغرب (٢) .
وعلى الرغم مما بلغه من مكانه، لما شهر عنه من تقوى وديانة، فقد كان، فيما يبدو، ضيق العطن حاد الطبع سريعا إلى الهجاء، متبرما بالناس، كثير الشكوى من الزمان، سيء الظن بالمجتمع، مسرعا إلى رؤية السيئات دون الحسنات في زمانه وأهله، وإذا عادى صديقا اندفع في هجائه، وقصته مع القلفاط الشاعر الذي كان من اقرب أصدقائه إليه
(١) طبقات صاعد: ٧٤ وابن الفرضي ٢: ١٢٦
(٢) انظر المغرب ١: ١٢٠، وطبقات صاعد: ١٢١، وابن أبي أصيبعة ٢: ٤٤، واليتمة ١: ٤٠٤، والتكملة: ٧١٠