1 - اختطاف هيليني
2 - الوفاء بالعهد
3 - عراك أخيليوس
4 - بين باريس ومينيلاوس
5 - نقض الهدنة
6 - مشورة نسطور الحكيم
7 - ضياع الحلة الحربية
8 - مقتل هكتور
9 - عقب أخيليوس
10 - حصان طروادة
1 - اختطاف هيليني
2 - الوفاء بالعهد
3 - عراك أخيليوس
4 - بين باريس ومينيلاوس
5 - نقض الهدنة
6 - مشورة نسطور الحكيم
7 - ضياع الحلة الحربية
8 - مقتل هكتور
9 - عقب أخيليوس
10 - حصان طروادة
حصار طروادة
حصار طروادة
من الإلياذة لهوميروس
تأليف
أمين سلامة
الفصل الأول
اختطاف هيليني
كانت مدينة إسبرطة - إحدى مدن الإغريق - تعيش هادئة وادعة آمنة، يجلس على عرشها ملك أوتي بسطة في الجسم والحكمة والعلم، يدعى تنداريوس. وكان يقيم العدل بين أفراد قومه، ويرفع الجور عن أبناء شعبه. وشاءت الأقدار أن تهبه أطفالا أربعة: ولدين أسماهما كاستور وبوليديوكيس، وبنتين أسماهما كلوتمنسترا وهيليني.
نشأ الأطفال الأربعة في قصر أبيهم الملك، ينعمون بما يغدقه الوالدان عليهم من حنان، وما يحوطانهم به من رعاية؛ فتنمو أجسادهم، وتنضج عقولهم، وتتفتح كما تتفتح الزهور اليانعة في رعاية بستاني ماهر.
وما إن بلغت البنتان سن الشباب حتى توافد الأمراء الراغبون في الزواج، يخطبون ودهما، ويتمنى كل واحد منهم أن يحظى بواحدة منهما. وقد حالف الحظ أغاممنون ابن ملك موكيناي ففاز بكلوتمنسترا، وتزوجها. أما هيليني فظلت تتمنع على الراغبين، وتدل عليهم بجمالها وجلالها؛ فقد كانت آية عصرها، وفتنة دهرها جمالا ودلالا. وإذا تمنعها ودلالها يزيد الأمراء إصرارا على التقرب منها، ويزيد رغبتهم في الزواج بها اشتعالا، حتى إن أحدهم تستبد به هذه الرغبة، فيقسم أن يقتلها ويقتل من يتزوجها لو كانت من نصيب غيره. ولكن أباها الملك، وقد راعه ما يشهد من رغبة الأمراء، ومن إلحاحهم في الطلب، خشي أن يحدث بينهم ما لا تحمد عقباه، فآثر أن يحسم الأمر بطريقة ذكية لبقة. لقد اقترح على الأمراء أن يدعوا الأمر لهيليني، تختار شريك حياتها، ورفيق دربها، على أن يتعاهدوا على الإذعان لرأيها، واحترام قرارها، والوقوف صفا واحدا إلى جانب من تختاره من بينهم زوجا، ومساعدته بكل قوتهم على الاحتفاظ بها. واستجاب الأمراء لمقترحه، ونزلوا عند رأيه؛ فقد رأوا فيه مخرجا من الضيق ، ومنقذا من التطاحن والهلاك، واستدامة لهدوء وطنهم ورخائه.
وما إن أخذ الملك على الأمراء العهد والميثاق، حتى فوض الأمر لابنته هيليني، فوقع اختيارها على مينيلاوس شقيق أغاممنون ورضيته زوجا لها. واحترم الأمراء رغبتها، واستوثق بعضهم من بعض أن يكونوا عند عهدهم الذي قطعوه، وألا ينقضوا الميثاق الذي أخذوه، وأن يبذلوا ما استطاعوا من جهد للوفاء به.
في ذلك الحين كانت الشيخوخة قد أخذت تزحف على الملك تنداريوس - والد هيليني - بمتاعبها ومشكلاتها وذكرياتها؛ فآثر أن يتخفف من أعباء الملك، ويلقي بها على كاهل من يستطيع النهوض بحملها، والوفاء بتبعاتها، ويحسن تدبير شئون الملك، ويجيد تصريف أموره، ويسوس الرعية خير سياسة، ويقودها أفضل قيادة. فلم يجد خيرا من صهره مينيلاوس زوج هيليني، فتنازل له عن العرش. ومنذ ذلك الوقت أصبح مينيلاوس ملكا لإسبرطة.
وعلى بعد بعيد من إسبرطة، عبر البحر الإيجي، كانت تقع مدينة طروادة. وهي مدينة ذائعة الصيت، واسعة الشهرة، يتربع على عرشها الملك برياموس. وهو ملك عظيم، عريض الثراء، شديد البأس، بالغ القوة والنفوذ، أنجبت له زوجته هيكابي ولدا هو هكتور. ولما حملت للمرة الثانية رأت حلما مزعجا، سبب لها ولزوجها الملك كثيرا من الفزع والهلع. فقد رأت أنها أنجبت شعلة متوهجة من النار، سرعان ما انتشرت في أرجاء طروادة؛ فأتت على الأخضر واليابس، وتركتها رمادا تذروه الرياح.
خشي الملك برياموس على نفسه وعلى عرشه، كما خشي على زوجته ووطنه، ونفرت نفسه من هذا الجنين أشد النفور. فلما وضعته هيكابي تقاذفتهم الأفكار، وتناوشتهم الخواطر: ماذا يصنعون به؟ وكيف يتخلصون منه؟ حفاظا على أنفسهم من شره، وعلى طروادة من ضره. وكانت فكرة قتله أشد الأفكار سيطرة عليهم، ولكنهم لم يجدوا الشجاعة الكافية لتنفيذها، ففكر الملك في وسيلة أخرى ينقذ بها نفسه وزوجه وعرشه وبلده، فحمل الطفل بين ذراعيه، وذهب به إلى خارج المدينة، وهناك فوق قمة جبل إيدا ترك حمله على الأرض؛ أملا في أن تفترسه الوحوش الضارية، أو تلتقمه الطيور الجارحة، أو يهلك من الجوع والعطش. ولكن ظنونه ذهبت بددا ؛ فقد عثر عليه أحد الرعاة، فالتقطه ليكون له ولدا، وأحاطه برعايته وعنايته بين أبنائه، وسماه باريس.
عاش باريس في كنف هذا الراعي حياة الرعاة البسيطة، يحترف حرفتهم، وينطلق بين أحضان الطبيعة انطلاقهم. لا يعرف إلا أنه واحد منهم، وأنه ابن لذلك الراعي البسيط، ولا يدري أنه أمير جليل، وابن للملك برياموس العظيم. وكذلك من حوله لا يدرون عن حقيقته شيئا! حتى إذا ما اشتد عوده، وأزهر شبابه، واستحصدت قوته، وقع حادث كان له أكبر الأثر في توجيه حياته، وتغيير مسارها؛ فقد تزوج بيليوس ملك المورميدونيين ثيتيس إحدى ربات البحر، وأقيم لهذا الزواج حفل رائع باهر، شهده الأرباب جميعا، يتقدمهم زيوس، رب الأرباب وكبير الآلهة، ومعه زوجته هيرا، وكذلك أثينة، ربة الحكمة، وأفروديتي، ربة الجمال والحب. كلهم بارك هذا الزواج، وسعد به، غير ربة واحدة لم تدع إلى الحفل، هي ربة الشقاق إيريس؛ خشية أن تفسد بهجته، بما قد تبذره من بذور الخلاف. فعز عليها إهمالها، وأوغر صدرها عدم الاهتمام بها. فأضمرت في نفسها شرا، وعقدت العزم على إفساد متعتهم بالحفل وهي غائبة عنه. فليس ضروريا لكي تنفث سمومها أن تكون بين المدعوين بشخصها، ولكنها ستكون حاضرة بينهم بحقدها. ولذلك ألقت على المائدة التي يجلس إليها المدعوون تفاحة ذهبية، كتبت عليها عبارة مثيرة مغرية بالاختلاف والنزاع: «إلى أجمل النساء طرا»، وهي تعرف ما يمكن أن تشعله هذه الجملة في نفوس الربات من غيرة وشقاق، فكل واحدة منهن تظن نفسها أجمل النساء، سواء كان الجمال جمال البشرة والجسد، أو جمال العقل والحكمة، أو جمال السمو والرفعة. وما واحدة منهن براغبة في أن تتنازل للأخرى عن التفاحة؛ إذ كل واحدة منهن تود أن تحظى بهذا اللقب الجميل المثير.
وحدث ما توقعته ودبرت له ربة الشقاق من نزاع واختلاف بين الربات، كاد يتطور إلى شجار وعراك. ولكن زيوس كبير الآلهة أراد أن يحسم النزاع، فأصدر أمره بأن يحكم في هذا النزاع باريس راعي جبل إيدا. وأرسل إليه التفاحة مع إيريس، وأمرها بأن تخبره بأن يقدم التفاحة للربة التي يراها تفوق الأخريات جمالا في نظره.
بينما كان باريس، راعي جبل إيدا، يرعى أغنامه عصر يوم من الأيام، إذا بمفاجأة تذهله، وتكاد تفقده وعيه. فقد شاهد الربات الثلاث يقفن أمامه، ومعهن إيريس تنبئه بما وقع، وتبلغه رسالة زيوس. وعندئذ تكلمت هيرا، فقالت له: «أي باريس، إنك تجهل حقيقة أمرك. إنك أمير عظيم، ولست الراعي الخامل الحقير. أنت ابن ملك طروادة برياموس، ولسوف أجعلك - إذا أعطيتني التفاحة - أقوى الملوك بأسا، وأوسعهم ثراء، وأبسطهم جاها ونفوذا؛ فلا يكون في الدنيا كلها من يضارعك.»
وهزه قولها، فقد كشفت له عن حقيقته. فطالما أحس إحساسا غامضا مبهما، لم يستطع تحققه ولا تصوره؛ أنه لم يخلق لهذه الحياة التافهة الخاملة، حتى جاءت هذه الربة فأماطت له اللثام عن حقيقة أمره. إنها - إذا - جديرة بهذه التفاحة! وهم أن يمنحها التفاحة، لكن خاطرا هتف به أن يتريث في الأمر، وأن يتلبث حتى يستمع إلى قول أثينة وأفروديتي.
ووقفت أثينة في كبرياء وجلال تقول له: «أي باريس، إذا أعطيتني التفاحة فسأعلمك كيف تكون أرجح الناس عقلا، وأحسنهم تدبيرا، وأرزنهم حلما، وأكثرهم حكمة. سأجعل منك رجلا عظيما، يهابه الناس ولا يعصون له أمرا، لا من خوف ورهبة، بل عن حب ومودة.»
وكاد باريس يعطيها التفاحة، فقد رغب فيما عندها من الحكمة والرشد، يسوس بهما الناس، وفيما وعدته به من حب الناس له، يعطف قلوبهم نحوه. ولكنه فوجئ بأفروديتي - ربة الجمال والحب - تقف في دلال، وتتقدم منه في خيلاء، وترنو إليه بابتسامة رائعة، لم يستطع لسحرها مقاومة، ولا عليه امتناعا، وتقول له بصوت ندي رخيم، كأنما يعلن به الحب عن نفسه: «أي باريس، أعطني التفاحة، وسوف أهبك أجمل امرأة في العالم؛ لتصبح زوجة لك!» ولم يتمالك باريس نفسه، ولم يخامره التردد لحظة، بل اندفع مسرعا، وأعطى أفروديتي - ربة الجمال والحب - التفاحة. •••
أصبح باريس ضائق الصدر بهذه الحياة التافهة الخاملة - حياة الرعي والرعاة - هذه الحياة التي تحصره في أن يغدو بقطيع أغنامه إلى المرعى، ويروح به إلى المأوى، ولا هم له فيما بين ذلك إلا الجلوس منصتا إلى ثغائها، أو شاردا في مجالي الطبيعة، أو خامدا خاملا، لا فكر في ذهنه، ولا نشاط في جسمه.
ضاقت نفسه بهذه الحياة، وخاصة بعد أن علم حقيقة أمره، وأدرك أنه لم يخلق لهذه الحياة البائسة، وإنما خلق لحياة ناشطة ساعية. فاعتزم التخلي عن حياة الرعي، وشخص إلى طروادة؛ ليتعرف على أبيه وأمه، وليحيا حياة الأمراء في قصور الملوك. وما إن طالعته طروادة، حتى أحس نسائم الحياة الجديدة تصافح وجهه، ودماءها تجري في عروقه، وفورة من النشاط تدب في جسده. فأغذ السير كي يدخل المدينة من أوسع أبوابها، وأن يقدم نفسه لوالديه. وما إن ألقى نفسه بين يديهما، وأماط اللثام عن شخصه، حتى بلغ منهما السرور كل مبلغ، وانزاحت عن قلبيها كل آثار الخوف والضيق، وانقشعت عن نفسيهما سحب الكآبة التي كانت تخيم عليهما منذ أن تركه أبوه فوق قمة الجبل. فقد كانا يظنان أن ابنهما قد تخطفته الطير أو نهشته السباع، ولكن ها هو ذا شاخص أمامهما بلحمه وعظمه. لقد غمرتهما الفرحة، وعمت أرجاء المدينة، وسادها جو مفعم بالحبور والغبطة، لم تذقه منذ سنوات عديدة.
كانت الرغبة التي أثارتها أفروديتي - ربة الجمال والحب - في نفس باريس لا تزال مشتعلة، والوعد الذي وعدته به لا يزال ماثلا بين ناظريه. وعليه أن يسعى لتحقيق رغبته، ويبذل جهده للحصول على ما وعد به، ويحشد كل إمكانات السلطة في سبيل ذلك. ومن ثم راح يعمل هو وإخوته في جمع الأخشاب لبناء سفينة يجوب بها البحار، بحثا عن أجمل امرأة في العالم، تلك التي وعدته بها أفروديتي. وما كان لربة الجمال والحب أن تخيس في وعدها، أو تحنث في عهدها! لكن أخته كاسندرا حذرته مما قد ينجم من عواقب وخيمة عن فعله، وتوسلت إليه أن يكف عن البحث، ويصرف جهده إلى ما يفيد نفسه ووطنه. ولكنه - وقد سيطر هذا الأمل على نفسه - سخر من تحذيرها، وتهكم على ضعفها، وآثر أن يمضي في طريقه.
وتقاذفته البحار حتى ألقت به قريبا من شواطئ إسبرطة. ولما علم مينيلاوس ملكها بقدومه، خف مسرعا إلى الشاطئ لاستقباله والترحيب به، واقترح عليه أن ينزل عنده ضيفا عزيزا. وهناك لقي باريس هيليني زوجة مينيلاوس. وما إن وقع بصره عليها حتى بهره جمالها، وسحرته فتنتها، واستحوذ حبها على فؤاده. فما عاد يستطيع عنها تحولا، ولا يجد عنها منصرفا. لقد أصبح مشدودا إليها بقوة خفية، لا يدري كنهها، ولا يستطيع مقاومتها. لقد كانت آية في الجمال، وفتنة للناظرين. إنها هي التي وعدته بها أفروديتي - ربة الجمال والحب - فما يظن أن هناك على وجه الأرض من هي أروع منها جمالا، أو أشد سحرا ودلالا! فقرر أن يعود بها إلى طروادة مهما كانت الصعاب التي تقف في سبيله، ومهما كانت العقبات التي تحول بينه وبينها. إن عليه أن يقهر الصعاب، ويتخطى العقبات، ويحطم الحواجز والسدود في سبيل تحقيق هذه الرغبة.
وانتهز فرصة خروج الملك مينيلاوس في رحلة بحرية إلى جزيرة كريت، وراح يتقرب من هيليني، ويطري جمالها، ويفصح عن حبه لها. وما زال يتملق عواطفها، ويغريها بالذهاب معه، حتى استجابت له، ونقلت كل ما استطاعت من كنوز قصر زوجها الملك مينيلاوس إلى سفن الطرواديين. ثم أبحرت السفن تتهادى بهيليني وما حملت من تحف وكنوز، وباريس في سفينته وإلى جانبه من كان يحلم بها، يكاد يطير من شدة الفرح. وبلغت به السعادة مبلغا لا يحيط به الوصف، وتعجز الكلمات عن تصويره؛ فقد ظفر بمن كان يريد، ظفر بما وعدته به أفروديتي - ربة الجمال والحب - فلا يعنيه ماذا تكون العاقبة، ولا يعنيه ما قد يصنعه الملك مينيلاوس. لقد حجبت الغشاوة بصره وبصيرته عن التفكير في العاقبة.
الفصل الثاني
الوفاء بالعهد
لم تنس الربتان، هيرا وأثينة، صنيع باريس فيهما، وكيف ضن عليهما بالتفاحة الذهبية، وآثر عليهما الربة أفروديتي؛ لذلك كانتا تتحينان الفرصة لتمكرا به أشد المكر. فما إن فعل فعلته حتى أرسلتا إلى مينيلاوس في كريت رسول الآلهة إيريس لتخبره بالواقعة، ولتثير غيظه وحفيظته على هذا الذي استضافه في قصره، فلم يرع له حقا ولا ذمة، وإنما خانه بإغراء زوجته، بالهرب معه إلى طروادة. وما كان مينيلاوس في حاجة إلى من يثيره، فهو يحب هيليني حبا جما. ومن ثم وقع الخبر عليه وقوع الصاعقة، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وراحت كل ذرة في كيانه تطالبه بالانتقام والثأر لكرامته، والذود عن شرفه. ولكن كيف؟ إن طروادة بعيدة، وتحتاج مجهودا جبارا كي يصل إليها. كما أن ملكها برياموس رجل قوي الشكيمة، شديد البأس، واسع النفوذ، لا يؤتى من ضعف، ولا يغلب من قلة العدد والعدة. فليذهب إلى أخيه أغاممنون - ملك موكيناي - يلتمس عنده الرأي والمشورة والمعونة.
وصل مينيلاوس إلى قصر أخيه أغاممنون، فوجده يتحدث إلى الملك العجوز الحكيم نسطور، الذي كان ملكا على بيلوس، وكان يعرف هيليني معرفة جيدة، ويدرك مدى تعلق مينيلاوس بها، ويدرك ما في هذا العمل الذي اقترفه باريس من نذالة وخسة، وما يلحقه بمينيلاوس من ذل وعار. فقام من فوره يسعى بين أمراء إسبرطة الذين تعاهدوا على معاونة من تختاره هيليني زوجا لها على الاحتفاظ بها، ليذكرهم بما تعاهدوا عليه، وليستنجزهم وعدهم الذي قطعوه على أنفسهم لأبيها. وأسعفته في ذلك الربتان هيرا وأثينة؛ إذ أوغرتا صدور الأمراء على باريس، الذي انتهك حرمة وطنهم، وداس كرامته؛ فقد كانتا تمقتان باريس أشد المقت. وإذا الأمراء يلبون ما طلب نسطور الملك العجوز الحكيم، ويهبون مسرعين لنجدة مينيلاوس، ويتنادون للاستعداد بالسفن والرجال والسلاح.
واحتشد الجيش الإغريقي في أوليس، فوق شاطئ البحر، وتجمعت السفن، واستعدت لتمخر عباب البحر. وألقى أغاممنون نظرة على هذا الجيش الضخم، الذي اختاره الأمراء قائدا له، فامتلأت نفسه ثقة في النصر، فلن يغلبوا اليوم من قلة عدد وعدة. لقد خرج الأمراء جميعا، لم ينكص على عقبه منهم أحد، ولم يحنث في عهده منهم أمير. حتى نسطور الملك العجوز خرج معهم، ينير طريقهم بحكمته، ويسدد خطاهم بمشورته. وكذلك خرج ولداه الشجاعان، وأخيليوس ملك المورميدونيين، الذي تروى عن شجاعته الأساطير، وسارت بذكرها الركبان؛ فهو ابن بيلوس وربة البحر ثيتيس.
ويقال إن ثيتيس عرفت أن الأقدار كتبت على ابنها أخيليوس أن يقضي نحبه في المعارك، وهو في ريعان الشباب، فأرادت أن تحصنه وتهبه البقاء والخلود، فحملته منذ مولده إلى نهر ستوكس، ذلك النهر المقدس في العالم السفلي العظيم، وغمسته فيه، ما عدا عقبه الأيمن الذي كانت تمسكه منه، فلم يمسسه الماء المقدس. ومن ثم لم يكن لسلاح بشري أن ينفذ فيه، ولا أن ينال منه منالا، إلا إذا أصابه في ذلك الجزء الصغير الدقيق من جسده، الذي فات ثيتيس أن تبلله بالماء المقدس، فكان مصدر خطر عظيم، وشر مستطير عليه. وصار «عقب أخيليوس»، بوصفه نقطة ضعف، مضرب الأمثال.
أما أوديسيوس ملك إيثاكا، فقد كان الأمراء يتوقعون تثاقله عن الحرب؛ فقد كان متزوجا حديثا ببينيلوبي، فما كان يطيق لها فراقا، ولا عنها ابتعادا؛ فقد استهواه جمالها، وأسرته فتنتها، واستكان إلى حياة الدعة في ظلالها. وقد صح ما توقعوه، وإذا به يحتال حيلة - ظنها ماكرة - تتيح له التخلي عن المشاركة في الحرب، دون أن يكون هناك ما يشوه سمعته. لقد تظاهر بالجنون، وراح يحرث رمال البحر بزوج من الثيران؛ كي يعتقد الأمراء اختلاط عقله، فما عاد يميز بين الأرض الخصبة التي تصلح للحرث، وبين الرمال البحرية التي يضيع الجهد فيها هباء.
بيد أن أحد الأمراء الأذكياء لم تنطل عليه الحيلة، وأراد أن يرد عقله إليه، فعمد إلى الطفل تيليماخوس ولد أوديسيوس، ووضعه أمام المحراث، فما كان من أوديسيوس إلا أن توقف عن الحرث، ولم يستطع أن يمضي في ادعائه الجنون إلى المدى الذي يحرث معه ابنه، ويقضي عليه بيديه. وهنا عاد إليه صوابه، ومضى يتجهز هو وقومه للإسهام في معركة استعادة هيليني من طروادة.
واكتمل الأسطول الإغريقي عددا وعدة، فأصدر أغاممنون أمره بتحرك الأسطول، وزحفه إلى طروادة. فأقلعت السفن ميممة شطرها؛ كي تثأر للكرامة التي أهدرت، وتنتقم للشرف الذي أهين. وما إن بلغت جزيرة تينيدوس حتى رأى الإغريق أن يتريثوا قليلا، وأن يبدءوا العمل العسكري بمطلب سلمي، تجنبا لويلات الحرب، وصونا لدماء الفريقين . وطلبوا إلى مينيلاوس أن يذهب إلى الطرواديين، ويطلب إليهم أن يردوا إليه زوجته وكنوزه المنهوبة، وأن يصطحب معه في هذه المهمة أوديسيوس، ليشد أزره؛ فقد كان من أفصح ملوكهم وأحكمهم، وأقدرهم على المحاورة والاحتجاج.
وبلغ مينيلاوس وأوديسيوس طروادة، فصادفا ترحيبا بالغا من أنتينور الأمير الطروادي، الذي أكرم وفادتهما، وتحدث إليهما فأجاد الحديث، وأنبأهم أنه والملك برياموس لا يودان إراقة الدماء، ولا يجدان مانعا من إعادة هيليني وما حملته من كنوز، ولا يريان في ذلك غضاضة ولا مذمة، بل يريان فيه إعادة للحق إلى نصابه. ولكن العقبة الكئود التي تعترض طريقهما، هي أن باريس لا يريد التفريط في هيليني بأية حال.
وحاول أوديسيوس - بكل ما أوتي من فصاحة - أن يخلب لب الطرواديين بكلماته الناعمة، ويستميلهم بقدرته البارعة على الحوار، ولكن محاولاته باءت بالفشل؛ فلم يجد من باريس والأمراء الذين رافقوه في رحلته إلى إسبرطة أذنا صاغية، ولا عقولا واعية؛ بل تميزوا منه غيظا، واستشاطوا عليه غضبا، وهموا به وبمينيلاوس ليقتلوهما، لولا أن تداركهما شيوخ طروادة فصدوا الأمراء عن اقتراف هذا الفعل الشنيع.
وعاد الاثنان خائبين، وفي صدريهما مقت فظيع للطرواديين، الذين لم يرعوا حرمة ولا ذمة، وفي نفسيهما اقتناع قوي على أن استرداد هيليني يعني الاستيلاء على طروادة.
وأيقن الطرواديون أن الحرب قادمة، خاصة أنهم سمعوا عن الجيش الجرار الذي يتقدم صوبهم؛ لذلك لم يركنوا إلى الدعة، وإنما راحوا يستصرخون جيرانهم، ويعدون للأمر عدته.
وكان من بينهم هكتور أكبر أبناء برياموس وأشجعهم وأصبرهم عند اللقاء، وإلى جانبه أينياس بن أينخيسيس، والربة أفروديتي صاحبة المشورة على باريس، والعملاق كوكنوس ابن رب البحر بوسيدون، وكثيرون هبوا لنجدته، تقاطروا من طراقيا في أقصى الشمال، ومن لوكيا في الجنوب بقيادة ملكهم ساربيدون ابن الإله زيوس نفسه. كما بعث الطرواديون إلى الملك ميمنون، ملك أثيوبيا، يطلبون منه الغوث والنجدة، ولكن بلده كان بعيدا جدا، فلم يكن من المؤكد عند الطرواديين أنه سيخف إلى نجدتهم، فإن طول الطريق، وبعد الشقة، قد يقعدانه عن ذلك.
وكانت المفاجأة المرعبة تنتظر الإغريق، فما إن وطئت أقدامهم اليابسة حتى وجدوها قد غصت بالجيش الطروادي وحلفائه متأهبا لقتالهم. ودارت معركة رهيبة قاسية، حمي وطيسها، وراح هكتور والعملاق كوكنوس يحصدون الإغريق حصدا، كأنهم سنابل قمح حان قطافها. حتى وقع بصر أخيليوس، وهو في عربته يدفعها بمحاذاة خط القتال الطروادي، على العملاق كوكنوس وهو يفعل بالإغريق الأفاعيل: يفرق صفوفهم، ويمزق جيوشهم. وراح أخيليوس يطعنه برمحه الطعنة تلو الطعنة، ولكن الرمح لا ينفذ فيه، وكأن جسده صخرة صماء لا تنبثق منه قطرة دم واحدة؛ فقد كان العملاق ابنا لبوسيدون، فهو محصن من كل سلاح بشري. وهنا ثارت ثائرة أخيليوس، وغلى الدم في عروقه، وإذا هو يطوح بسلاحه بعيدا، ويهبط من عربته، ويشتبك مع العملاق في عراك باليد المجردة. ولا يزال به حتى يمزق خوذته، ويحطم حلقومه، ولم تتراخ عنه قبضة يديه إلا بعد أن لفظ أنفاسه مخنوقا.
كان رب البحر بوسيدون يرقب ما يجري لابنه، ويألم لما ينزل به. فلما لفظ أنفاسه تلبث قليلا حتى غفل عنه أخيليوس، والتقط جثته. واستدار أخيليوس ليرفع جثة غريمه إلى عربته، فكم كانت دهشته حين لم يجد غير حلة العملاق الحربية فارغة! لقد تلاشى العملاق فاستبدت الحيرة بأخيليوس، ولكنه نظر إلى الفضاء فرأى شيئا عجبا! رأى بجعة برية تسبح في زرقة السماء الصافية! لقد تحول كوكنوس إلى بجعة، ومنذ ذلك الحين التصقت به صفة الطائر السماوي، حتى إن الإغريق أطلقوا اسم كوكنوس على البجعة!
الفصل الثالث
عراك أخيليوس
روعت شجاعة أخيليوس نفوس الطرواديين ترويعا عنيفا، وأثارت في صدورهم الرعب، وأوقعت في صفوفهم الفزع. فما لبثوا أن أسرعوا إلى داخل مدينتهم، يحتمون بحصنها، ويقاتلون من خلف أسوارها، ولم تواتهم الجرأة على أن يخرجوا إلى السهل المكشوف لينازلوا الإغريق أو يقاتلوهم.
وأصغى الإغريق إلى نصيحة أوديسيوس، فحفروا خندقا حول خيامهم وسفنهم، وبنوا سورا له خمسة أبواب، يحيط بمعسكرهم، فلا يستطيع الأعداء أن يظهروه، ولا يستطيعون له نقبا.
ولم يهدأ للإغريق نشاط، ولم يفتر منهم حماس، فقد جعلوا همهم الإغارة على البلدان المجاورة لطروادة، وبث الرعب في قلوب قاطنيها، والاستيلاء على أموالهم، وسبي نسائهم. فاستطاع أخيليوس بسط سلطانه على بلدة ليرنيسوس، وظفر بفتاة جميلة تدعى بريسايس اتخذها زوجة، وكانت جائزته في تلك الغارة. كما أسر أغاممنون فتاة باهرة الجمال تدعى خريسايس، كانت ابنة خروسيس، كاهن الإله أبوللو. ولما علم ما حل بابنته أصابه هم فظيع، وأظلمت الدنيا في عينيه، وسعى خاشعا لأغاممنون يستعطفه، ويعرض عليه كل ما يملك لقاء أن يرد عليه ابنته. ولكن أغاممنون أغلظ للكاهن القول، وتوعده بالويل والثبور لو تلبث قليلا في معسكر الإغريق، فعليه أن يغادره سريعا حتى لا ينزل به أسوأ عقاب.
وخرج الكاهن العجوز كسير الفؤاد، حزين النفس، فما إن توارى عن معسكر الإغريق حتى بسط يديه نحو السماء، ودعا الإله أبوللو، بصوت تخنقه العبرات، أن يسعفه ويعاونه.
ورق إله الشمس لكاهنه العجوز؛ فابتلى الإغريق بمرض وبيل، راح يفتك بهم فتكا ذريعا، لا يفرق بين الرجال والماشية والخيول. وظل تسعة أيام يعصف بهم عصفا، والإغريق عاجزون، لا يملكون له دفعا إلا بالتضرع للسماء. ولكن الآلهة قد صمت آذانها عن دعواتهم، وأغمضت عيونها دونهم. فاجتمعوا للتشاور في أمر هذه الكارثة التي أصابت معسكرهم، فقال رجل حكيم منهم اسمه كالخاس، مخاطبا أخيليوس: «أي أخيليوس العظيم، لو وعدتني بالحماية، وأعطيتني العهد بالأمان، فسأفضي إليكم بالسبب الذي جعل الإله أبوللو ينزل بنا شديد عقابه، ويسلط علينا هذا الذي يوشك أن يأتي علينا جميعا لو دامت الحال أياما أخرى! إن كلماتي ستغضب رجلا ذا مقام عال بيننا، فلن أبوح بشيء، ولن أنطق بكلمة قبل أن تعدني بالحماية، وتتعهد بأنني لن يعرض لي أذى، ولن يمسني أحد بسوء!»
وأعطى أخيليوس الرجل عهدا بالأمان، فقال الرجل الحكيم كالخاس: «إن سبب غضب أبوللو علينا كل هذا الغضب أن أغاممنون كان فظا غليظا مع كاهنه خروسيس، ولن يهدأ للإله بال، ولن يرفع عنا ما نحن فيه، إلا إذا رد أغاممنون ابنة الكاهن إلى أبيها مكرمة، وقدم مائة ثور قربانا للإله!»
ولم يطق أغاممنون صبرا على ما سمع، فصاح: «إذا كان ضروريا لكي يرفع عنكم الإله ما أنتم فيه من كرب وبلاء أن أضحي بالجميلة خريسايس، فعليكم أن تعوضوني عن هذه التضحية بعذراء جميلة مثلها؛ فليس من العدل أن أكون وحدي بينكم المحروم من الجائزة!»
أجابه أخيليوس في حنق: «أيها الملك الجشع، كيف يتسنى لنا تعويضك، وأنت تعلم أننا اقتسمنا بيننا كل ما غنمناه من البلدان التي بسطنا سلطاننا عليها؟ أيليق بنا أن نستجدي رجالنا ما منحناهم إياه؟ أم يا ترى نغتصبه منهم اغتصابا؟ الأولى بك أن تتجه إلى السماء، وتضع فيها ثقتك، ولك علينا حينما نستولي على طروادة أن تحظى بجائزتك أضعافا مضاعفة.»
وغضب أغاممنون غضبا عنيفا، وقال في ضيق وغيظ: «أي أخيليوس الشجاع، لا تغالط نفسك، ولا تخدعها بهذه الكلمات الناعمة، فإنك لن تبلغ مني شيئا. إذا أردتم أن أرد خريسايس الفاتنة إلى أبيها الكاهن فعليكم أن تعوضوني، وإذا لم تفعلوا فسأتقدم من تلقاء نفسي لأختار العذراء التي تروقني، ولو كانت عذراءك أنت.»
صاح أخيليوس: «تبا لك من قائد! كيف ترجو من الإغريق أن ينقادوا لك؟ إنه ليس بيني وبين الطرواديين ما يحملني على حربهم، فهم لم يستولوا على زوجتي، ولم يغتصبوا كنوزي، وإنما جئنا لحربهم ذودا عن شرف مينيلاوس أخيك، وأراك تتجاهل هبتي لنجدتكم، وتتطاول لتسلبني جائزتي التي قاتلت من أجلها بقوة وبسالة. يا لك من ملك فاقد الحياء! أهكذا تمضي الأمور؟ كلما هاجمنا مدينة طروادية توليت أنا قيادة المعركة، واكتويت بنارها، حتى إذا أسفرت عن النصر، وحان وقت توزيع الأسلاب والغنائم التي أصبناها، ظفرت أنت بالقسط الأعظم، فهل من العدل أن يكون لك دائما الغنم وعلي دائما الغرم؟ إنه من الخير لي ولمن معي أن نعود إلى وطننا، وندعك وحدك لتفوز بأي مجد من غيري لو استطعت!»
استمر أغاممنون سادرا في غلوائه، وقال لأخيليوس: «عد إلى وطنك كما تشاء، فسواء علي أبقيت أم انصرفت، ولن أتوسل إليك كي تبقى. أنا أعرف قوتك، وأعرف سرها، ولكن الفضل في ذلك لا يعود إليك، وإنما يعود إلى الآلهة التي حصنتك ضد السلاح البشري، فأورثتك هذه القوة والشجاعة. إنني لا أبالي غضبك، ولا تزعجني زمجرتك. ولتعلم أنه إذا كانت رغبة أبوللو أن أعيد ابنة كاهنه إليه فأنا مجيب رغبته، ولكني سأسلبك جائزتك بريسايس الفاتنة؛ لتعرف أينا أشد وأقوى!»
بلغ الغضب من أخيليوس ذورته، وأسرعت يده إلى مقبض سيفه، وهمت أن تسله من غمده، ولكن قبل أن يفعل كانت الربة أثينة قد هبطت من عليائها، ووقفت من ورائه، ومرت بيدها الحانية على شعره الذهبي. وشعر أخيليوس بهذه اللمسة الرقيقة الرفيقة، فاستدار ليرى اليد التي تربت عليه، وقال: «أنت هنا أيتها الربة أثينة؟ لماذا؟» - «أرسلتني الربة هيرا لأهدئ من روعك؛ فهي تكن لك الحب كما تكنه لأغاممنون، ولا تريد أن ينشب بينكما عراك، وستتولى هي عقابه على إهانته لك، إذا أنت لبيت رغبتها.» - «لا مفر لي من الطاعة؛ فليس في طاقتي قتال الآلهة، وليست لي رغبة فيه.»
وكرت أثينة راجعة إلى جبل أوليمبوس المقدس، والتفت أخيليوس إلى أغاممنون بنفس قد خالطها شيء من هدوء، وقال له بصوت حاول أن يخفف نبرته: «إن بريسايس زوجتي، وأنت الذي منحتني إياها عند تقسيم الغنائم، ويمكنك أن تستردها. لكن لو حدثتك نفسك باستلاب أي شيء من ممتلكاتي الأخرى، فسوف تلقى حتفك بسيفي هذا. وإني لأقسم قسما لا حنث فيه أنك - قريبا - ستعض بنان الندم، ومعك جميع الإغريق على ما بدر منك في حقي، وما وجهته من إهانة إلى أشجع الجنود طرا.»
نطق أخيليوس بهذه الكلمات، ثم استدار، وولى مسرعا خارج المعسكر.
أعاد أغاممنون خريسايس إلى أبيها الكاهن، ومعها مائة ثور قربانا للإله أبوللو؛ تكفيرا عن إثمه، وأملا في محو خطيئته. كذلك، أطلق أخيليوس سراح بريسايس، وتركها حرة تمضي كما تشاء، بيد أن حزنه عليها كان شديدا. ثم أقسم أنه لن يقاتل بعد اليوم من أجل أغاممنون، لا هو ولا قومه المورميدونيون.
وذهبت بريسايس لشأنها، وخلت أخيليوس محزونا، ضائق الصدر، يجثم على قلبه الهم. فجلس على شاطئ البحر شارد النظر، كاسف البال، فتراءى له طيف أمه ثيتيس، فناداها بصوت يقطر لوعة وأسى: «أماه، أعلم أنه مقدور علي أن أموت في ريعان الشباب، فلماذا أموت مغمورا دون أن أحظى بالمجد والشهرة في حياتي هذه القصيرة؟ إن أغاممنون قد اشتط في إهانتي، وسلبني جائزتي، وهي أعز ما أملك، فلماذا تتركينني وحيدا؟»
تناهى إلى سمع ثيتيس هذا النداء، وهي جالسة في قصرها المنيف في أعماق البحر، فحزنت من أجل ولدها حزنا شديدا، وصعدت إليه، تشق الماء شقا. حتى إذا ما بلغته، وقفت إلى جانبه، وربتت بيدها على كتفه، وطفقت تواسيه، ووعدته أن تتوسل إلى زيوس كي يكتب النصر للطرواديين، ويذيق أغاممنون والإغريق معه ذل الهزيمة جزاء ما اقترفوه في حق ابنها أخيليوس.
وطابت نفس أخيليوس بما سمع، وعاد إلى سفينته راضيا.
الفصل الرابع
بين باريس ومينيلاوس
صلت ثيتيس صلاة خاشعة للإله زيوس، وتوسلت إليه أن يرحم ابنها أخيليوس مما نزل به من ضيق. فاستجاب لصلاتها، وألهم أغاممنون حلما كاذبا، أنه عليه أن يستنفر الأمراء الإغريق، ويحشدهم لحرب الطرواديين عند الأسوار.
وفي صباح اليوم التالي جمع أغاممنون الأمراء، وكشف لهم عن مضمون الحلم الذي ألهمه إياه زيوس كبير الآلهة، وحثهم على استئناف القتال، مغريا لهم بأن النصر سيكون حليفهم. ولكن الأمراء لم يكونوا عند حسن ظنه، فقد خيبوا أمله بتقاعسهم عن القتال. حتى إن أحدهم ويدعى ثيرسيتيس، وكان سيئ المنظر، قبيح الوجه، صاح في أغاممنون: «ماذا تريد أيها الملك الجشع؟ إن خيامك غاصة بالإماء الجميلات، مكتظة بالجواهر الثمينة، التي غنمناها لك من بلاد الطرواديين. ولكنك نهم لا تشبع ولا تقنع، وإنما دائما هل من مزيد، فماذا تريد؟»
ثم التفت إلى الأمراء موجها الحديث إليهم: «لقد أرهقنا هذا الملك من أمرنا عسرا، وحملنا من ويلات الحرب وتبعاتها فوق ما نطيق. فمن الخير لنا أن ننقلب إلى بلادنا، ونخلي بين هذا الملك الجشع وبين الطرواديين، يصنعون به ما يشاءون. لقد أهان أشجع جنودنا طرا.»
وران على الجميع صمت ثقيل، وتهامس بعضهم إلى بعض. غير أن أوديسيوس قطع حبال هذا الصمت الرهيب، وصاح في الرجل: «أيهذا الأحمق، كيف تجرؤ على مخاطبة قائدنا وملكنا أغاممنون بهذه الطريقة؟ كف عن سفاهتك، والزم الصمت.»
وما إن نطق أوديسيوس بهذه الكلمات، حتى بادر ثيرسيتيس بضربة شديدة عاتية بين كتفيه أقعدته، وألزمته الصمت. وراح يجفف الدموع التي اغرورقت بها عيناه، يحول بينها وبين أن تفضح شجاعته، وتفصح عن جبنه ونذالته.
ثم التفت أوديسيوس إلى القوم، وقد تعلقت به أبصارهم، وقال: «أيها الأمراء الإغريق، إنه لمن العار أن نحنث في عهدنا الذي أعطيناه تينداريوس والد هيليني، وإن كبرياءنا سوف تمرغ في الوحل لو عدنا بدونها. ولكنا لا يمكننا البقاء على هذه الحال طويلا، فعلينا - إذا - أن نتذرع بالصبر، وأن نقسم على البر بعهدنا، وعلى ألا نعود إلى بلادنا إلا بعد أن نستولي على طروادة، ونسترد هيليني وما اغتصبوه منا.»
وبث هذا القول الحماسة في نفوس الأمراء، وطابت له نفس أغاممنون. فأمر الإغريق أن يتناولوا فطورهم، ويستعدوا للقتال، بشحذ رماحهم، وصقل سيوفهم. فقد عقد العزم على ملاقاة الطرواديين اليوم، كما ألهمه زيوس.
واحتشد الجيش الإغريقي، وشرع يزحف نحو أسوار طروادة. على حين كان الملك برياموس - ملك طروادة - يجلس هناك فوق قمة القلعة، قرب أحد الأبواب، يرقب ما يحدث، ويتجاذب أطراف الحديث مع بعض رفاقه وقرنائه من الشيوخ. ولاحت منه التفاتة فأبصر هيليني تسير نحو السور، فناداها في رفق ومودة. فلما اتجهت نحوه، ورآها رفاقه، تهامس بعضهم مع بعض: «حقا إنها لرائعة الجمال كالربات! وليس من العار أن يتقاتل الإغريق والطرواديون من أجلها. ولكن من الأفضل لها ولنا أن تعود إلى وطنها، فما كان للجمال - مهما كانت روعته - أن يكون سببا في إشعال نيران الحروب، التي نشقى بها نحن، ويشقى بها أطفالنا من بعدنا، وتجر على البلاد الخراب والدمار!»
وقال برياموس لهيليني: «أي طفلتي العزيزة! أنا لا ألومك على ما حدث، ولا أحملك وزر ما يحدث. إنها إرادة الآلهة، ولا بد لها أن تنفذ. لكن أخبريني يا طفلتي العزيزة: من ذلك الأمير القوي الواقف هناك؟ إنه يبدو جنديا شجاعا نبيلا.»
ونظرت هيليني حيث أشار برياموس، ثم أطرقت، وقالت: «حماي العزيز، كم أحس بالخجل الشديد وأنا ماثلة الآن بين يديك؛ فقد جلبت بقدومي مع ابنك باريس، عليكم وعلى قومي، هذه الحرب الطاحنة. ليتني مت قبل هذا، وكنت نسيا منسيا! إن ذلك الأمير الذي تشير إليه يا حماي العزيز هو أغاممنون شقيق مينيلاوس، الذي كان زوجا لي ذات يوم.» - «لا لوم عليك يا طفلتي العزيزة، فهذا من تدبير الآلهة، ولا حيلة لنا في دفعه، ولا بد أن يمضي إلى مداه. أخبريني، من ذلك الرجل الآخر الواقف هناك؟ أترين حيث أشير؟ إنه ليس فارع الطول كأغاممنون، ولكن منكبيه أعرض وأقوى، وهو يتأهب لارتداء حلته الحربية. إنه يسير بين القوم يحمسهم ويحفزهم إلى القتال فيما يبدو.» - «إنه أوديسيوس ملك إيثاكي، أرجح الإغريق عقلا، وأرزنهم حلما.»
وكانت هيليني تتحدث إلى الملك برياموس ومشاعر الندم والحسرة تجتاحها، والدموع تترقرق في مآقيها، حزنا على ما وقع منها من فعل سوف يجر خرابا ودمارا على القوم، يظلان مقترنين باسمها مدى الدهر!
وأنهى الإغريق استعدادهم، وزحفوا بهدوء نحو أسوار طروادة. وخرج الطرواديون من أسوارهم يصيحون صيحات مدوية، يقودهم باريس في حلته الحربية، معلقا قوسه على منكبه، عارضا رمحه، مدليا سيفه إلى جانبه، وكأنما يظن الأمر نزهة صيد ممتعة.
وبلغ الطرواديون السهل المكشوف، والتحم الجيشان، ودارت المعركة، وحمي وطيسها. وفي أثنائها وقع بصر مينيلاوس على غريمه باريس، فظن أن الفرصة قد واتته، وأن ساعة انتقامه لشرفه وكبريائه قد حانت؛ فها هو ذا غريمه أمام عينيه، وعليه أن يظفر به، كي يشفي بقتله غليله، ويذهب غيظ قلبه. ولذلك قفز مسرعا من عربته، وهجم على باريس يود أن يفتك به، ويمزقه بيديه، ويترك جسده أشلاء للطيور. ولكن باريس ما إن وقعت عيناه على مينيلاوس، ورأى الشرر الذي تقدحه عيناه، حتى دب الرعب في صدره، وطارت نفسه شعاعا، فأسرع يتوارى خلف الرجال.
ونظر هكتور إلى أخيه نظرة غاضبة مستنكرة، وقال له: «أيها التعيس، ما هذا التخاذل الذي يبدو عليك؟ وما هذا العار الذي تجلل به هامتك، وتسحبه علينا معك؟ أإلى هذا الحد خار عزمك؟ ماذا سيقول عنك الإغريق؟ كيف ارتضيت لنفسك وأنت هذا الجبان الرعديد أن تستدرج معك رجالا شجعانا من قومنا، وتصحبهم عبر البحر؛ لتغري زوجة رجل آخر، وتختطفها من بين قومها، وتجلب على أبيك ومدينتك وقومك ما لا قبل لهم به من الهم، وها أنت ذا الآن تضع نفسك موضع السخرية.»
وذاب باريس خجلا أمام لوم أخيه، وأجاب: «أي هكتور، إنك لعلى صواب في كل ما قلته، وأنت تعلم أنني لا أستطيع الاحتفاظ بشجاعتي، مثلك، ويكاد الرعب يشل حركتي في كثير من الأحيان. إذا أردتني أن أقاتل ببسالة فلتطلب إلى الإغريق والطرواديين أن ينحازوا عن القتال، ويخلوا بيني وبين مينيلاوس نتقاتل رجلا لرجل، وأينا يحرز النصر على الآخر تكون هيليني من نصيبه. وبذلك نكفي الجنود شر القتال، ونصون دماءهم، ويعيشون في أوطانهم في دعة وسلام وأمان.»
أعجب هكتور بمقالة باريس، وملأت قلبه غبطة وسرورا، وفي الحال طلب من الفريقين هدنة. وفي المسافة التي تفصل بين الفريقين وضع الملك برياموس والملك أغاممنون شروط القتال.
وأحضر برياموس كبشين قربانا للآلهة، في حين شهر أغاممنون سيفه، وصاح قائلا: «إن يقتل باريس مينيلاوس فله الحق في أن يحتفظ بهيليني، وعلى الإغريق أن يعودوا من حيث أتوا. أما إذا قتل مينيلاوس باريس فستكون هيليني من نصيبه، وعلى الطرواديين أن يردوها إليه ومعها الكنوز، وفاء بما قطعوه على أنفسهم من عهد، وما ارتبطوا به من وعد. فإذا ما رفضوا الوفاء، وحنثوا في العهد فأقسم بجميع الآلهة أننا لن نعود أدراجنا حتى نبيد طروادة وسكانها أجمعين.»
وما إن أتم قوله حتى احتز بسيفه عنقي الكبشين، وأقبل الجنود - الذين كانوا يصغون إليه - يصلون في ضراعة للإله زيوس.
أما برياموس فقد عاد إلى عربته، وقفل عائدا إلى طروادة، فما يستطيع أن يشهد ولده الحبيب باريس وهو يلتقي في عراك مميت مع مينيلاوس الشديد البأس، الممتلئ غيظا على غريمه.
وقاس هكتور وأوديسيوس الأرض؛ ليحددا المساحة اللازمة ميدانا للمبارزة، وليقف الجنود خلفها ترقبا لما تنتهي المعركة إليه بين الرجلين. في حين تجهز كل من مينيلاوس وباريس بسلاحهما، وأعدا عدتهما للنزال، الذي قد ينهي الحرب.
وبدأت المعركة بين الرجلين بضربة رمح من باريس، لكنها لم تصنع شيئا في مينيلاوس؛ إذ تحطم الرمح فوق درعه، والتوى طرفه. وهز مينيلاوس رمحه كما لم يهزه من قبل، وعاجل باريس بطعنة رمح عاتية، اخترقت درعه، وجرحته جرحا طفيفا. وحينئذ استل مينيلاوس سيفه، ووجه ضربة قاسية لغريمه، ولكن السيف تحطم فوق خوذته، فاستشاط مينيلاوس غضبا، وثارت نفسه ثورة عارمة، وأطبق على باريس بيديه، وقبض على ريشة خوذته المصنوعة من شعر الخيل، ولفها حول عنقه، وأخذ يجره جرا عنيفا، ويسحبه سحبا قويا نحو معسكر الإغريق. وكاد سير الخوذة يخنقه، ونظر الأمراء والجنود بعضهم إلى بعض، وفي قلوبهم نشوة مكتومة من الفرح؛ فقد آذنت الحرب بالانتهاء، وأصبح النصر على مرمى رمح من مينيلاوس.
لكن ربة الجمال والحب - أفروديتي - عز عليها أن يهزم باريس، فقطعت سير الخوذة قبل أن يختنق بها، وتشكلت في صورة سحابة حملته بعيدا إلى طروادة، حيث كان يلعق جراحه وهو بين ذراعي أفروديتي، ويعزي نفسه بتدخلها في المعركة، وإنقاذها له من الموت المحقق. وما ذلك إلا لأنه أثير لديها، وما كانت لتفرط فيه، وتنسى أنه فضلها ذات يوم على الربات الأخريات، ومنحها التفاحة الذهبية.
أما مينيلاوس فقد اندفع ثائرا هائجا، يبحث بين الطرواديين عن غريمه، لكنه لم يعثر له على أثر، ويصرخ فيهم أن يدلوه عليه. وما كانوا يستطيعون ذلك؛ إذ هو لا وجود له بينهم، ولو رأوه أو عرفوا مكانه لأسلموه. فما أحد منهم يرغب في إخفائه، والحيلولة بينه وبين مصيره، فكلهم ضائق به، لما جلبه عليهم من شرور وويلات.
وتكلم أغاممنون مخاطبا الطرواديين: «إن مينيلاوس هو الذي فاز على خصمه، فهيا كونوا أوفياء لما قطعتم على أنفسكم من عهد، وما أعطيتم من مواثيق. هيا ردوا علينا هيليني وكنوزنا المنهوبة؛ لتكفوا أنفسكم مئونة القتال.»
ورحب الإغريق بكلماته، والتفوا حوله مناصرين مؤيدين.
الفصل الخامس
نقض الهدنة
عز على الربة أثينة أن تهدأ ساحة المعركة بين الطرواديين والإغريق، ورغبت في أن تثيرها فتنة شعواء بين الطرفين، وتذيع الفوضى والاضطراب في صفوف الطرواديين. فتنكرت في صورة لاودو كوس بن أنتينور، وعمدت إلى قواس مغمور، ووسوست له: «إنك إذا صوبت سهما من سهامك نحو مينيلاوس فأرديته قتيلا خلصت قومك من شرور الحرب، وسجلت اسمك في صحائف الخلود بمداد من النور، وسيمنحك باريس جائزة سنية.»
وأعمى خيال الشهرة قلب القواس المغمور، وغطت غشاوة المال على بصره؛ فانقاد لإغرائها، وراش سهمه، وشد وتر قوسه، وصوب في دقة وإحكام نحو مينيلاوس فأصابه في جنبه.
لقد كان حقا جرحا غير نافذ، ولم يقتل مينيلاوس، ولكن الدم انبثق أحمر قانيا، ما إن رآه أغاممنون حتى ثارت ثائرته، وجن جنونه، وأرسل صيحة مدوية: «لقد نقض الطرواديون الهدنة، وعاودتهم خسة نفوسهم، فرموا مينيلاوس بسهم. إن علينا أيها الإغريق أن نرد لهم الصاع صاعين، ونجعلهم يندمون أشد الندم على فعلتهم هذه المنكرة. هيا استعدوا للقتال!»
وتدفقت جحافل الجيش الإغريقي كالأمواج الهادرة نحو الشاطئ، تكاد نفوسهم تتميز من شدة الغيظ على هؤلاء الطرواديين الذين سمح لهم لؤم طباعهم أن ينكثوا العهد، وينقضوا الأيمان بعد توكيدها.
والتحم الجيشان في معركة ضارية، وصار لا يسمع غير صليل السيوف، وصوت الرياح، وأنين الجرحى. واستبدل سهل طروادة بلونه الطبيعي لونا آخر أحمر قانيا لكثرة ما سال فوق أرضه من دماء.
وراع الآلهة هذا الدم المسفوك الذي تشهده عيونها، وحز في نفوسها هذا الأنين الحزين الذي يتصاعد فيكاد يصم آذانها. فنصحت هكتور أن يطلب هدنة للمرة الثانية، ويتحدى واحدا من الإغريق لمنازلته. فلما استوى الجانبان فوق الأرض، صاح هكتور: «أيها الطرواديون، وأنتم أيها الإغريق، إنه لمما يثير غضب الآلهة منا، أننا لم نحترم الهدنة. والآن وجميع أمراء الإغريق موجودون بيننا، فإنني أطلب هدنة أخرى، وأتحدى أحدهم لمنازلتي.»
وخيم على الميدان سكون، فما تسمع فيه نأمة، ولا تنبس فيه شفة؛ فالإغريق يخشون عاقبة اللقاء بهذا المقاتل المتمرس وجها لوجه، ويودون من صميم قلوبهم لو عدل عن رأيه، ولكنه مصر على عرضه، راغب رغبة أكيدة في إنقاذه. وما للإغريق بد من إجابة تحديه، حتى لا يكسوهم العار أبد الدهر.
لقد هم مينيلاوس، على الرغم من جرحه، أن يقبل هذا التحدي، ولكن أغاممنون ثناه عن عزمه، ورده إلى صوابه. فانبرى أياس العظيم، وقبل تحدي هكتور.
وسرى في قلوب الطرواديين شيء غير قليل من الخوف، حين رأوا ضخامة جسمه، وجهامة وجهه، وما تقدحه عيناه من شرر. حتى هكتور راحت ضربات قلبه تتلاحق في سرعة رهيبة، لما ينذر به شكل أياس من شر مستطير. ولولا أن غلبه الخوف من سوء الأحدوثة، لبادر إلى الرجوع فيما قال.
وتقدم أياس العظيم، وهو يتوكأ على رمحه، وقال لهكتور: «أي هكتور، ستعلم الآن أن في جيش الإغريق مقاتلين شجعانا، ورماة ماهرين، على الرغم من غياب أخيليوس وتخليه عن القتال.» - «أي أياس، لا تحاول إرهابي، فلست طفلا غريرا لم يتمرس بفنون الحرب، أو امرأة لا خبرة عندها بغير فنون الجمال والحب. لطالما خضت المعارك، وأنت بذلك عليم، ولن أتردد لحظة في القضاء عليك متى ظفرت بك، فاحذر شري.»
وهز هكتور رمحه، ورمى به أياس، ولكنه لم يبلغ منه مبلغا. وصوب أياس فدقق التصويب، ورمى هكتور برمحه، فاخترق درعه، ولكنه لم ينغرز في جسمه؛ إذ تحاماه بخفة وبراعة. وظلا يقتتلان طوال النهار، واستخدما جميع الأسلحة: الرماح تارة، والسيوف تارة أخرى. ولما لم يجد السلاح فتيلا، تقاتلا بالأيدي المجردة. حتى هبط المساء، ولم تكتب الغلبة لأحدهما، فقال هكتور: «أي أياس، إنك لمحارب عظيم حقا، بل إنك من خير محاربي الإغريق. والآن وقد حل الظلام، دعنا نوقف القتال، ثم نستأنفه في نهار آخر، على أن نفترق صديقين. حتى يقال: إننا تقاتلنا في عراك علني قتالا شريفا في بسالة نادرة، وافترقنا فارسين صديقين. فلتذهب إلى معسكرك، ولأعد إلى طروادة.»
وقدم هكتور سيفا رائعا لأياس هدية تقدير وإعجاب، كما قدم أياس زنارا من الفضة لهكتور أمارة تقديره له، واحترامه لشجاعته.
وأولم أغاممنون في معسكر الإغريق وليمة فاخرة إجلالا لبطلهم أياس، وأثنى على بلائه ومهارته الحربية، وفروسيته العظيمة.
وفي الصباح، راح كل من الفريقين يلملم أشلاء قتلاه، ويودعها الثرى، فقد توقف القتال طوال النهار.
الفصل السادس
مشورة نسطور الحكيم
عبأ أغاممنون الجيش الإغريقي أحسن ما تكون التعبئة، وزحف به في اليوم التالي - في جسارة فائقة - لملاقاة الطرواديين. ولم يتألق أحد في ذلك اليوم كما تألق أغاممنون؛ فقد فاقت شجاعته كل تصور، وقتل من الطرواديين خلقا كثيرا، ورد جيشهم على أعقابه مدحورا. وظل يقاتل في بسالة نادرة حتى وقت الظهيرة، عندما أصابه رمح أحد الأعداء في يده اليمنى، فلم تهن عزيمته، وإنما ظل في الميدان صامدا مقاتلا، حتى ألح عليه ألم الجرح فلم يجد مفرا من العودة إلى المعسكر.
عندئذ تقدم هكتور. ودارت رحى المعركة أعنف ما تكون، ولقي هكتور في الميدان أوديسيوس، وديوميديس، وهما من أعظم جنود الإغريق شجاعة. وحانت لديوميديس فرصة من هكتور، فهوى على خوذته بضربة شديدة من سيفه جعلت الأرض تدور به، وأصبح كالمغشي عليه من الموت، فاضطر إلى التقهقر ومحاولة الانسحاب من المعركة. ولكن باريس أصاب ديوميديس بطعنة رمح في عقبه، الأمر الذي لم يستطع معه في المعركة بقاء؛ بل تخلى عنها، وراح يسعى حثيثا إلى المعسكر، والدم ينزف من جرحه، ويتقاطر وراءه في طريقه إلى خيمته.
لما عاد ديوميديس إلى المعسكر أصبح أوديسيوس وحيدا في الميدان، فتكاثر عليه الطرواديون، وضربوا حوله حصارا متينا، وأتيح لأحدهم أن يصيبه بجرح في جنبه، ولكن ذلك لم يقعد همته عن مواصلة القتال بجنان ثابت. بيد أنه وقد أصبح في الميدان وحيدا، وفي جنبه مصابا، رأى الموت يدنو منه، فأطلق صيحته يطلب الغوث والنجدة، فصادفت أذنا مصغية، وقلبا جسورا، من أياس ومينيلاوس، فهرعا إليه ملبيين.
أثخنت الجراح معظم قادة الإغريق، وتمزقت جموع جيشهم، وراحوا ينسحبون من الميدان، ويضطربون في العودة إلى معسكرهم، والطرواديون يتعقبونهم: يقتلون ويجرحون، وقد أسكرتهم نشوة الظفر، فطفقوا يصيحون ويهللون.
في ذلك الحين كان أخيليوس يجلس فوق ظهر سفينته، يرقب سير المعركة، ويجد في نفسه لذة ومتعة، وهو يرى قادة الإغريق يعودون إلى المعسكر منكسرين، في حلوقهم مرارة الهزيمة، وفي جسومهم آثار الجراح. وخرجت الكلمات من فمه إلى صديقه باتروكلوس تعلن عما يختلج بين جوانحه من فرحة وغبطة.
قال: «بعد قليل سوف يأتي الإغريق إلي، وتنحني أعناقهم بين يدي، يطلبون مني النجدة والغوث؛ فهم الآن أحوج ما يكونون إلي! اذهب يا باتروكلوس سريعا إلى خيمة نسطور، وتبين أمر ذلك الرجل الذي كان يحمله في عربته. لقد خيل إلي أنه الطيب ماخاوون. لقد مرقت العربة سريعا في جواري، فلم أتبين وجهه في وضوح.»
عدا باتروكلوس إلى خيمة نسطور، فوجده عاكفا على تضميد جراح ماخاوون.
ولما بصر به نسطور، قال له: «ماذا يضير أخيليوس، وهو هادئ ساكن في سفينته، لو أن جميع جنود الإغريق قد جرحوا أو قتلوا؟ هل يدري أن ديوميديس وأوديسيوس، بل أغاممنون نفسه، يعانون من آلام الجراح التي أصابتهم، ويلعقون مرارة الهزيمة التي مني بها جيشنا؟ ليتني كنت فيها شابا قويا فأمحو ما لحقنا من عار الهزيمة، وأرد للإغريق كرامتهم وعزتهم. اذهب يا باتروكلوس إلى أخيليوس العظيم، وارجه أن يعيرك حلته الحربية إن أبى النزول إلى ساحة المعركة بنفسه، فلعل الطرواديين تخدعهم الحلة، ويظنونك أخيليوس، فيفعل الخوف فعله في قلوبهم. وربما استطعت أنت والمورميدونيون - وقد سلمتم من أذى المعركة اليوم، وما زلتم في فورة نشاطكم - أن تكسروا شوكتهم، وتحققوا للإغريق ما فقدوه في معركة اليوم من عزتهم وكرامتهم.»
عندئذ عاد باتروكلوس مسرعا إلى أخيليوس، في حين راح نسطور يعمل على نزع السهم من كتف ماخاوون، وينظف الجرح، ويضمده تضميد خبير حكيم في سرعة وإتقان.
وتوسل باتروكلوس إلى أخيليوس أن يمضي إلى ساحة القتال؛ ليسعف الإغريق، ويرفع عنهم ما أصابهم من الذل والعار. ولكن أخيليوس رفض توسلاته، فما زالت تؤذي نفسه إهانة أغاممنون له، وما زال جرحه منها ينزف.
فألح عليه صديقه باتروكلوس أن يعيره حلته الحربية - ما دام مصرا على عدم خوض المعركة بنفسه - عل هذه الحلة ترهب الطرواديين، وتقوم مقام صاحبها في ترويعهم .
أخيرا، وعلى مضض، وفي ضيق شديد، قبل أخيليوس ذلك، كما أذن للمورميدونيين أن يهبوا لنجدة الإغريق.
وسارع باتروكلوس إلى ارتداء حلة أخيليوس الحربية، ذات الصيت الذائع، والوهج الذي يكاد يخطف الأبصار، ونشط في بث الحماس في نفوس المورميدونيين وتعبئتهم للقتال، ثم قادهم إلى حومة الوغى غير هياب ولا وجل. فقد فعلت حلة أخيليوس في نفسه فعلها، وزادته قوة على قوته، فراح يحتز رءوس الطرواديين التي أثقلها الرعب، فتساقطت - تحت ضرباته - كما تتساقط أوراق الخريف اليابسة. لقد اجتاح باتروكلوس الجيش الطروادي كما تجتاح الرياح الناعمة لجج الضباب المتكاثفة حول ذؤابة جبل، وأزاحهم بعيدا عن المعسكر الإغريقي، على الرغم من استماتة الكثيرين منهم في القتال. لقد قتل باتروكلوس ومينيلاوس قائدا طرواديا كبيرا، كما قتل أبناء نسطور صديقين لساربيدون ملك لوكيا وابن زيوس.
وبينما كان باتروكلوس يقود جياد أخيليوس الخالدة، التقى بساربيدون وجها لوجه، فاندفع البطلان في صراع محموم، وراح كل منهما يكيل لغريمه الطعنات والضربات في عنف وقسوة، كأنهما صقران جارحان. ولم تستغرق هذه المعركة الضارية غير لحظات قصار، خر إثرها ساربيدون صريعا، فقد انتزع باتروكلوس روحه بطرف رمحه. وذهبت نفس زيوس حسرات على ابنه الحبيب، وأطل على ميدان الوغى، ونفسه تقطر ألما وحسرة، وصدره يمتلئ عزما وتصميما على معاقبة باتروكلوس على فعلته عقابا أليما.
ثمل باتروكلوس بما تحقق له من نصر، فقاد المورميدونيين يتعقب الطرواديين، حتى بلغ أسوار طروادة، وبدا كأن أحدا لا يستطيع أن يحول بينه وبين اقتحام المدينة وتدميرها. ولكن الوقت لم يكن قد حان بعد لسقوطها، فوقف إله الشمس أبوللو، واعترض طريق باتروكلوس، ومنعه من أن يتسلق الأسوار، ويقتحم المدينة، وصاح فيه: «أي باتروكلوس العظيم، عد من حيث أتيت، فلا سبيل أمامك للفوز بطروادة. إنك لن تستطيع اقتحامها، لا أنت ولا حتى أخيليوس نفسه، وهو - كما تعلم - أشد منك بأسا، وأكثر قوة؛ ذلك أن الآلهة لا تريد ذلك.»
ولم يجد باتروكلوس مفرا من الإذعان لمقالة رب الشمس، والخضوع لأمره، ولم يعد في وسعه غير العودة إلى السهل القريب من المدينة.
الفصل السابع
ضياع الحلة الحربية
كادت الحيرة تعصف بعقل هكتور، وهو واقف هناك بجوار أسوار طروادة، تتقاذفه الأفكار: هل يخرج لقتال الإغريق في السهل أم ينكفئ على نفسه، ويعتصم بالأسوار هو وجيشه؟ وما أخرجه من حيرته إلا الإله أبوللو، الذي تقمص صورة صديق لهكتور، وزين له الخروج قائلا له: «إن أبوللو يطلب منك أن تخرج لقتال الإغريق، ويعدك بالمعاونة، ولن يسمح لهم بالانتصار عليك.»
عندئذ فارقته الحيرة، ونزلت عليه السكينة، وانطلق وجيشه من ورائه لملاقاة الإغريق في السهل، حيث دارت رحى المعركة.
وما إن لمح باتروكلوس هكتور حتى قفز إلى الأرض من العربة، وفي يده اليسرى رمحه، يهزه ملوحا به، ومتوعدا غريمه. وكذلك أسرع هكتور بالنزول من عربته، ممتلئا ثقة بوعد أبوللو له. واحتدم الصراع بين الرجلين، كل منهما يود أن يفتك بصاحبه فتكا ذريعا. وراح باتروكلوس يداهم هكتور بقوة وشجاعة، وهكتور يداوره ويناوره، ويفاجئه بضربات قوية، ولكنها لا تبلغ منه شيئا. وإذا بأبوللو يهب لحسم النزاع، فيضرب باتروكلوس على رأسه ضربة عنيفة شديدة، أطارت خوذته، وجعلتها تهوي إلى الأرض .. هذه الخوذة التي لم تعرف من قبل إلى الأرض طريقا؛ لأنها كانت دائما فوق رأس أخيليوس الذي لا يقهر. لقد كانت ضربة أبوللو عنيفة شديدة جعلت باتروكلوس يحس كأن الأرض تدور به، كما جعلت جسمه يترنح من شدة الدوار، مما أتاح الفرصة لهكتور أن يعاجله بضربة أخرى أودت به. وسقط على الأرض يلفظ آخر أنفاسه. ولم يمهله هكتور، وإنما اعتلى صدره، وهو يقول: «أي باتروكلوس، منذ قليل كنت تحسب أنك ستقهر طروادة، وتسوق نساءنا سبايا ذليلات إلى بلادكم، وها أنت ذا الآن ترقد جثة هامدة لا حراك بها. حقا لقد كان أخيليوس أبعد ما يكون عن الحكمة حين أرسلك لقتالنا!»
وفي صوت خفيض متحشرج، رد عليه باتروكلوس: «أي هكتور، لا تغتبط كثيرا، فإنك ستلحق بي بعد قليل، ولن يدعك أخيليوس غير جثة هامدة بعد قتلي! لقد سلمتني الآلهة لك فريسة سائغة، وعاجلني أبوللو بالضربة التي أودت بي، فالفضل في قتلي يرجع له لا لك. ما كنت أبدا يا هكتور خائفا أن ألقاك في معركة متكافئة؛ ولكنها إرادة الآلهة! لست أنت الذي قضى علي اليوم، وستلقى جزاءك من أخيليوس.»
ثم أسلم باتروكلوس - البطل الشاب - الروح، بعد أن أبدى في حومة الوغى بطولات رائعة، وقاتل قتالا مجيدا.
ولم يتوان هكتور عن انتزاع الحلة الحربية التي يرتديها باتروكلوس، حلة أخيليوس الذائعة الصيت، ذات الوهج الذي يكاد يخطف الأبصار. وحاول أن يستولي على العربة وجيادها الخالدة، لكن أوتوميدون تقدم مسرعا، ونحى الجياد الخالدة وأنقذها من الاغتصاب، وعاد بها مسرعا إلى أخيليوس العظيم.
أشاح مينيلاوس بوجهه بعيدا، وهو يرى باتروكلوس يسقط صريعا، ولكنه لم يتوان عن الاستنجاد بالإغريق؛ ليقفوا معه صفا واحدا، يحمي جسد باتروكلوس البطل الشاب، ويحول بين الطرواديين وبين أن يمثلوا به، وينتهكوا حرمته. وكان هكتور قد تراجع مسافة غير بعيدة عن الجثة الممدودة فوق الأرض؛ كي يرتدي حلة أخيليوس الحربية، التي سلبها من فوق جسد باتروكلوس، ولذلك أطلق عليه جلاوكوس الغاضب لقب «الجبان».
عاد هكتور إلى الجثة الممددة فوق الأرض؛ كي ينتشلها، ولكنه لم يستطع الوصول إليها؛ إذ سدت الطريق نحوها؛ فقد قام من دونها سياج منيع حصين من الرماح الإغريقية الحادة، يمنع أي طروادي من بلوغها. ودارت المعركة حامية بين الفريقين من خلفها وأمامها، وعن يمينها وشمالها: كل فريق يستميت للظفر بها، الإغريق يريدون إنقاذ جثة بطلهم الشاب لتكريمها في معسكرهم، والطرواديون يريدون الاستيلاء عليها للتمثيل بها، وإلقائها طعاما للكلاب؛ نكاية في الإغريق، وتحقيرا لهم، وازدراء بهم.
وكان أخيليوس - آنذاك - فوق ظهر سفينته، يشهد سير المعركة التي استعر أوارها، ولكنه - بعد قليل - لاحظ أن الإغريق يتسارعون عائدين إلى معسكرهم في فوضى واضطراب مذهلين، وهو لا يدري لهذا سببا. إنه يشعر بالهم يجثم على صدره، وبالمرارة تنبت في قلبه. إنه يحس نفسه منقبضة مستوحشة. إنه يخشى على باتروكلوس الهلاك.
ولم تمض غير لحظات حتى جاءه صديق يسعى، وقد علا نشيجه، وفاضت دموعه، فأحس أخيليوس عند مرآه أن الخطر يزحف إليه زحفا سريعا، وأدرك أن في الأمر سرا، وأن وراء الرجل نبأ خطيرا. وما إن بلغه الرجل حتى قال بصوت تخنقه العبرات، ويقطعه النحيب: «أي أخيليوس، إنني أحمل إليك نبأ غير سار. لقد سقط باتروكلوس مخضبا بدمائه، بعد أن قاتل قتال الأبطال، وانتزع هكتور حلته الحربية - حلتك الذائعة الصيت - والقتال محتدم الآن بين الفريقين حول جسده العاري.»
ندت عن أخيليوس صرخة مدوية مفزعة، صكت مسامع أمه ثيتيس، فهرعت إليه، تسأله ما سبب حزنه. إن الإغريق يعانون معاناة مؤلمة من جراء إهانتهم له. «أي أماه، ليس الأمر أمر كبرياء مجروحة، ولا كرامة مخدوشة؛ فذلك كله هين الآن، ولا يضيرني. إنما هو صديقي باتروكلوس الذي أصفيته ودي، وآثرته على غيره من زملائي. إن هكتور انتزع روحه بطرف رمحه، ولن يهدأ لي بال حتى أثأر له، وأنتقم من هكتور ذاك الذي قتله.» - «ولدي الحبيب، إن عليك أن تشكر الآلهة، فلو أنك قتلت هكتور لأسرعت في اللحاق به إلى الموت.»
وفي غضب شديد، انفجر أخيليوس: «ليتني أموت الآن! فما قيمة الحياة بعد فقد أعز الأصدقاء؟ إن باتروكلوس يرقد هناك جثة هامدة فوق شاطئ غريب، دون أن تمتد يدي إليه بالعون، ولا يد أي إغريقي آخر.
تبا لهذه الأحقاد السخيفة التي أوقفتني هذا الموقف، وجعلتني أقبع في مكاني هذا خاملا عاجزا عن أن أمد لصديقي يدا. إنني سأنسى هذه الأحقاد، وسأعود إلى القتال؛ لأنتقم من هكتور، ذاك الذي قتل صديقي.» - «أي ولدي أخيليوس، لن يستطيع أحد لومك على وفائك لصاحبك، وثأرك له؛ بل إن ذلك دليل نبلك وأصالتك. ولكنك تعلم أن الطرواديين قد استولوا على حلتك الحربية، وهي تستقر الآن فوق منكبي هكتور. تريث يوما واحدا حتى أستطيع تعويضك عنها. سأحضر لك غدا حلة رائعة أبدعتها يد فنان صناع، هو الرب هيفايستوس، صانع المعادن القادر.»
وانصرف ثيتيس وقد خلفت وراءها ابنها أخيليوس، يئن قلبه تحت وطأة الحزن المقيم، ولا يؤنسه في ليله الطويل الكئيب غير نحيبه ونشيجه.
الفصل الثامن
مقتل هكتور
بات أخيليوس، لم يغمض له جفن، كأنما يرقد على فراش من الشوك. نبا به المضجع، وأرقه الحزن على صديقه باتروكلوس، ونغصه التفكير في أحكم الطرق وأبشعها للانتقام له.
وما إن أشرق الصباح حتى كانت ثيتيس واقفة إلى جوار ابنها أخيليوس تهدي إليه الحلة الحربية التي وعدته بها. وكانت حلة لامعة براقة، تتوهج تحت أشعة الشمس كأنها نار محرقة، وتتلألأ كأنها قرص من الذهب. لقد فاقت حلته السابقة بريقا ولمعانا، حتى إن المورميدونيين أنفسهم روعوا لمرآها، وذهلوا لمشاهدتها.
وارتدى أخيليوس حلته الحربية الجديدة، ومضى إلى معسكر الإغريق، وعلى وجهه أمارات الجد الصارم. فما يجدر بأخيليوس أن يتوانى عن الثأر لأعز أصدقائه، أو يتراخى في الانتقام له.
تناهى إلى الإغريق صوت أخيليوس يدعوهم إلى لقائه، فهبوا مسرعين يجيبونه، حتى القادة الجرحى منهم جاءوه: أغاممنون ومينيلاوس وأوديسيوس وديدموديس. وما إن اكتمل جمعهم حتى قال أخيليوس: «أي أغاممنون، ليس من الحكمة أن نتعارك فيما بيننا، وندع الطرواديين يفتكون بقومنا. دعنا ننس الماضي بكل ما كان فيه، ونقبل على المعركة القادمة بقلوب صافية. لقد نسيت كل ما حدث، وها أنا ذا أمد يدي إليك، وأعيد جسور المودة بيني وبينك قوية ثابتة كما كانت. هيا بنا نعد الإغريق للحرب.»
ورحب الإغريق ترحيبا حارا بعودة أخيليوس إليهم، وبدا التأثر واضحا على وجه أغاممنون، الذي قال: «أي أخيليوس العظيم، لقد جانبني الصواب حين وجهت إليك الإهانة، وكم ندمت على ما بدر مني في حقك. والآن كم أنا مسرور باستعادة صداقتي بك! وسأفاجئك بهدايا كثيرة ثمينة؛ تتويجا لعودة الصفاء والوئام، وستكون من بينها بريسايس الجميلة؛ كي تضيء أرجاء خيمتك، وبعد ذلك نتجهز للمعركة.»
وأشرقت أسارير أخيليوس العظيم، وقال لأغاممنون: «لقد توطدت الصداقة بيننا، وأشكر لك هداياك. هيا بنا نجهز الرجال للمعركة، وعلى كل منكم أن يحذو حذوي، ويصنع مثل صنيعي.»
بادر أخيليوس العظيم إلى ملاقاة الطرواديين، فما بقي إله في جبل أوليمبوس إلا وقد هبط إلى الأرض، واشترك في المعمعة، كما تقول الأناشيد القديمة.
وقاتل أخيليوس أروع قتال، ولم تصل يده إلى طروادي إلا أجهز عليه، ودفع بروحه إلى غياهب العالم السفلي الرهيب. ولم تكن جميع أسلحة الأعداء ذات غناء في صده عن الفتك بهم، فلم يجدوا سبيلا أمامهم غير تولية الأدبار، والفرار إلى شاطئ النهر، وأخيليوس يتعقبهم: فمنهم من بلغه فقتله، ومنهم من ألقى بنفسه في مياه النهر تحمله كما تشاء، ومنهم قليل كتبت له النجاة.
وكان برياموس الملك العجوز يشهد سير المعركة من فوق قمة قلعة عالية، فلما رأى اندحار الطرواديين أمام أخيليوس العظيم، وفرارهم إلى شاطئ النهر، أمر الحراس أن يفتحوا أبواب المدينة أمام هذه الفلول الهاربة؛ لتحتمي بحصونها، علها يوما تستعيد قوتها، وتحقق لوطنها ما أعجزها اليوم تحقيقه.
وولى كثير من هذه الفلول الهاربة وجهه شطر أبواب المدينة، يحاولون النجاة من لظى الحرب. وكانت حلوقهم ظامئة، وأجسادهم منهكة، قد خضبت بالدماء، ولطخت بالوحل. وأخيليوس العظيم على رأس الجيش الإغريقي يطارد هذه الفلول، ويعمل فيها قتلا وتجريحا.
وأوى من أفلت من الطرواديين المندحرين إلى المدينة، يتحصنون بأسوارها، ما عدا هكتور الذي ظل واقفا إلى جوار السور، وقد أسند إليه درعه.
وصاح به أبوه الملك برياموس، يحذره عاقبة البقاء خارج الأسوار؛ فقد كان الرجل يشهد حلة أخيليوس البراقة المتوهجة من بعيد، ويدرك أنه يلح في البحث عن هكتور، وأنه يوشك أن يقترب من الأسوار فيلقاه، فيحدث ما لا تحمد عقباه.
لكن هكتور لم يعر تحذير أبيه الملك أذنا مصغية، ولم يستجب لنداء قلبه الأبوي، الذي تشق عليه التضحية بأحب أبنائه إليه. فظل - على عناده - واقفا في شموخ لا يتحول عن مكانه، يترقب وصول أخيليوس، وكأنما يتعجله. وما إن أبصره في حلته الحربية اللامعة المتوهجة يزهو بها، ويتيه كأنه إله الحرب نفسه، حتى طارت نفسه شعاعا، وود لو أمكنه الفرار من أمامه، واللحاق بإخوانه داخل الأسوار. وما أثبته في مكانه إلا خشية العار، فتماسك وأظهر الشجاعة، وتحدى أخيليوس في صوت عالي النبرة - يستر به ضعفه وخوفه - أن ينازله.
ورمى أخيليوس رمحه فأخطأ هدفه، ورمى هكتور فانزلق رمحه فوق درع أخيليوس العظيم، وقد انشطر شطرين. حينئذ هاج هكتور هياجا عنيفا، واستل سيفه من غمده، وهجم على أخيليوس، الذي عاجله بضربة سيف في عنقه، أردته قتيلا.
وما إن سقط هكتور على الأرض جثة هامدة حتى اعتلى أخيليوس صدره، قائلا له: «هكذا أيها الطروادي المتغطرس تكون نهايتك .. وما كان لي أن أتركك تستمتع بقتلك باتروكلوس أكثر من يوم واحد.»
وفي صوت متحشرج، توسل هكتور لأخيليوس أن يترك جسده لأصدقائه، يوارونه الثرى، فنهره أخيليوس قائلا: «لا تتحدث عن مواراة جسدك، فلن تستطيع قوة في الأرض أن تثنيني عن إلقائه طعاما للكلاب.»
وفي صوت ضعيف متهالك، قال هكتور: «أعرف أنه لن تثنيك قوة عن عزمك، ولن تحملك على تغيير رأيك، ولكني أحذرك غضب الآلهة؛ فلن تلبث طويلا حتى يظفر بك باريس ويجندلك صريعا، على الرغم مما يملأ إهابك من زهو وغرور!»
وقضى هكتور نحبه، فخلع أخيليوس العظيم حلته الحربية اللامعة المتوهجة، وأمر الجنود الإغريق بحمل جثمان هكتور، والعودة به إلى المعسكر، حتى يرى فيه رأيه.
لكن برياموس الملك العجوز - وقد هده الحزن على ابنه الحبيب - تجاسر فيما بعد، وسعى بنفسه إلى معسكر الإغريق، والتقى أخيليوس العظيم، ورجاه أن يدفع إليه جثة هكتور - أحب أبنائه إليه - ليقوم بمراسم دفنه كما يليق.
وراقت أخيليوس العظيم شجاعة برياموس، التي استمدت قوتها من الحزن العنيف، وأشفق على الملك العجوز، فلم يتردد في تلبية رغبته، وإجابته إلى طلبته، تقديرا لجرأته وشجاعته، حتى يحظى هكتور البطل بإقامة الطقوس الجنائزية الملائمة، ويشيع بما يليق ومكانته السامية.
الفصل التاسع
عقب أخيليوس
تراكم الهم على صدور الطرواديين، فما منهم إلا محزون أمضه الحزن، أو خائف مزقه الخوف .. ذلك بعد مصرع هكتور البطل. وفي ظلال هذا الحزن المقيم، وهذا الخوف المروع اجتمعوا ليتدبروا أمرهم، ويتشاوروا فيما يجب عليهم أن يفعلوه.
قال أحد مستشاري الملك برياموس: «إنه ليس من الحكمة أن نمضي في القتال قدما، بعد أن سقط هكتور البطل. وما زال أخيليوس العظيم يهددنا بالويل والثبور وعظائم الأمور، فمن الأجدر بنا أن نغادر مدينتنا طروادة، ونسلمها للإغريق، على الرغم مما سنعانيه من أسى ومرارة لفراق وطننا، ومن ذل وانكسار لانسحابنا من المعركة. ولكن الصواب أن نبقي على الأحياء منا، ولا نتيح للإغريق أن يزهقوا أرواحهم.»
لكن الملك برياموس كان على غير هذا الرأي، فقال: «إن واجبنا يحتم علينا أن نتشبث بمدينتنا؛ فلنمكث بها حتى تأتينا النجدة بقيادة صديقنا الملك ميمنون، ملك أثيوبيا، وإني لكبير الأمل في أنه سيكون بيننا في وقت قريب. أما إذا أحدقت بنا الأخطار، قبل أن يدركنا الغوث، فما علينا بأس في أن نموت دفاعا عن ديارنا. إنه من الخير لنا أن نموت كراما أعزاء من أن نعيش جبناء أذلاء.»
رد عليه بوليداماس، العاقل الحكيم، الذي أنهكته الحرب: «إذا كان الملك ميمنون قادما حقا، فإني أثق في قدرته وكفايته، ولكن تساورني بعض الشكوك في قدرته على مواجهة أخيليوس العظيم. ومن ثم، فالرأي عندي - وإن كنا في آخر الليل - أن نرد هيليني للإغريق، ونرد عليهم الكنوز المنهوبة، وبذلك نوقف هذا الصراع الدامي الرهيب، بعد أن قطعنا أسبابه.»
وهدأت نفوس جميع الطرواديين، واطمأنت قلوبهم لهذه الكلمات العاقلة، التي كانوا يعتقدون صوابها، ولا يجرءون على البوح بها في وجه ملكهم برياموس وابنه باريس.
لكن باريس زلزل هذا الهدوء، ونغص عليهم هذه الطمأنينة عندما أطلق صيحة غاضبة منذرة متوعدة: «أي بوليداماس، ما أجبنك في ساحة الوغى! إن نصيحتك هذه هي عين الحماقة. فلتقبع أنت في بيتك ذليلا، أما باقي الطرواديين فسأقودهم إلى حومة القتال، ولسوف نفوز بالنصر المبين.» لكن هذا القول لم يفت في عضد بوليداماس، ولم يزعزع يقينه بمقالته، ومن ثم أردف يقول لباريس: «إن رعونتك وطيشك هما اللذان جلبا علينا ما نحن فيه من بلاء. إن خطتك التي تتصايح بها سوف تعود علينا بالخراب والدمار.»
أفحم باريس، وعجز عن الكلام؛ لأنه يدرك أنه هو سبب ما حل بطروادة من نكبات الحرب وويلاتها. ومع ذلك يكابر ويعاند، ويعميه حرصه على هيليني الفاتنة عما ينتظر مدينته من دمار وفناء. •••
خف ميمنون النبيل لنجدة صديقه برياموس، على الرغم من طول الطريق، وبعد الشقة. وما إن وصل يقود جيشا كثيفا حتى تلقاه الطرواديون بالترحاب.
أما برياموس فقد غمرته السعادة والفخر بصديقه الذي تحمل وعورة الطريق، وجاء إليه يشد أزره في محنته، كما راقته كثيرا حلته الحربية المتوهجة التي تضارع حلة أخيليوس لمعانا وتوهجا.
قاد ميمنون جيشه ومعه الطرواديون في اليوم التالي لملاقاة الإغريق، ودرات معركة حامية بين الفريقين: ألقى كل منهما بكامل ثقله فيها. وتدافع الجيشان كأنهما أمواج البحر الهادرة، وراحت الأرض تهتز تحت أقدامهما، وصليل السيوف وقعقعة الرماح تملأ الجو، والغبار المتناثر من وقع الأقدام يبلغ عنان السماء، ويشكل غمامة كبيرة تكاد تحجب ضوء النهار.
شن باريس هجوما عنيفا على الجناح الأيمن من جيش الإغريق، وسرعان ما ظفر الطرواديون بقتل نبيلين وعدد آخر من الإغريق، في حين ركز ميمنون هجومه على الجناح الأيسر من رجال بيليوس، وكاد يقضي على الرجل العجوز نسطور، لولا أن تقدم ابنه أنتيلوخوس ليكون درعا واقية لأبيه، فاخترق الرمح قلب الشاب، وقضى عليه.
وبقلب مشحون بالألم والغضب، اندفع نسطور يهاجم الملك ميمنون، وأوشك هذا الاندفاع أن يفقده حياته، غير أن ميمنون صاح فيه، طالبا منه أن يقف بعيدا؛ فهو لن يقاتله تقديرا لصداقته.
اغتم نسطور، وذهب يبحث عن أخيليوس، يرجوه أن يقاتل ميمنون؛ كي يشفي غليله، ويطفئ ظمأه إلى الانتقام لابنه.
التقى أخيليوس وميمنون، ونشب بينهما عراك عنيف. وكانا يرتديان الحلتين البراقتين المتوهجتين، وكانت مناكبهما أعلى من مناكب جميع الجنود، يتقاتلان في شجاعة فائقة، لا يباليان بالموت الذي يتربص بهما، حتى إن الآلهة كلها وقفت ترقب المعركة؛ فقد كان كل من الرجلين سليل الآلهة، وابنا لإحدى الربات.
بعد تطاحن عنيف لم يكتب فيه الفوز لأحد البطلين. أراد زيوس أن يحسم الصراع الدائر بينهما، فرفع كفتي الميزان، فشالت كفة أخيليوس، وهبطت كفة ميمنون مثقلة بموته. وحينئذ استطاع أخيليوس أن يسدد له ضربة، اخترقت صدره، فسقط مضرجا بدمائه، وسرعان ما ذهبت روحه إلى العالم السفلي الرهيب.
كان مصرع ميمنون فأل سوء للأثيوبيين، ونذير شؤم للطرواديين. فما إن رأوه يخر صريعا، حتى دب الذعر في صفوفهم، وولوا هاربين نحو أسوار طروادة، وأخيليوس يتعقب فلولهم المولية الأدبار، يحدوه أمل في أن يفتح ثغرة في أبواب المدينة ينفذ منها الإغريق، ويستولون عليها. ولكنه ما إن بلغ أبواب المدينة، حتى رماه باريس بسهم، فأصابه - لسوء الحظ - في عقب ساقه اليمنى، وهي نقطة الضعف الوحيدة في جسد أخيليوس، التي يتسنى لأي سلاح بشري أن ينفذ منها، ويصيب منه مقتلا.
سقط أخيليوس العظيم صريعا، وبذلك تحققت نبوءة هكتور، وهو يعالج سكرات الموت.
عمت الفرحة الطاغية فلول الطرواديين المنهزمة، وعاودتهم الثقة في أنفسهم بعد مصرع أخيليوس، ورجعوا يحاولون الاستحواذ على جثة أخيليوس العظيم، لكن أياس العظيم ثابت لا يتزحزح، يعترض بدرعه القوية العريضة طريق الإغريق، ويحول بينهم وبين بلوغ جثة أخيليوس. بينما راح أوديسيوس يقاتل دونه بشجاعة فائقة، حتى استطاع في حماية درع أياس أن يحمل الجثة فوق منكبيه العريضين، ويعود بها إلى معسكر الإغريق.
حزن الإغريق على مقتل أخيليوس كما لم يحزنوا من قبل قط، وشرعوا يعدون العدة لتكريمه، فتعاون الجيش كله في نصب كومة حطب جنائزية ضخمة، وجاءت ثيتيس نفسها إلى المعسكر؛ لتندب ولدها، الذي لقي حتفه، وهو في ميعة الصبا وريعان الشباب. لقد كانت تعلم أن هذا هو قدره المحتوم، ومع ذلك بكته بكاء حارا، وكانت معها بريسايس تذرف الدموع، وتبكي في نحيب متصل.
ووضع المورميدونيون جثة أخيليوس العظيم فوق كومة الحطب الجنائزية، وأشعلوا النيران، وراحوا يطعمونها كل غال لديهم ونفيس، إعلانا عما يعتلج في صدورهم من حب وتعظيم لمليكهم. وبعد أن خمدت النار، جمعوا رماد جثته، وأودعوه الثرى عند شاطئ النهر.
الفصل العاشر
حصان طروادة
أصبح أوديسيوس ضائق الصدر؛ فخرج هائما على وجهه، يتجول على شاطئ البحر، عل نسيم الصباح الباكر يفرج من أساه. ولكن الأفكار القاتمة ظلت تتقاذفه كالأمواج المتلاطمة: «إلى متى نظل في هذا الموقف الأليم؟ ماذا تكون نهايته؟ كيف تكون؟ لقد وضعتنا الآلهة في مأزق خطير، أما من سبيل لانتشالنا من هذه الوهدة؟»
وبينما تنتابه هذه الأفكار القاتمة ، إذا برجل يطلع عليه، تبدو عليه آثار السفر والغربة، وتلوح على وجهه مخايل النبل والذكاء، وتوحي نظرات عينيه بالحكمة والدهاء.
قال له الرجل الغريب، دون أن يعرفه أو يتعرف به: «يا ولدي، إن هناك نبوءة قديمة تقول: إن طروادة لن تقتحم أسوارها، ما دام تمثال الربة أثينة يربض هناك في معبدها!»
فلما جن الظلام، كانت هناك فكرة قد نمت في ذهن أوديسيوس، هي أن يحاول سرقة تمثال أثينة، على الرغم مما يحف بهذه المحاولة من خطر؛ إذ كان المعبد الذي يقيم فيه التمثال في قلب طروادة. وتزيا أوديسيوس بزي شحاذ، وأخفى تحت أسماله سيفا بتارا، واصطحب معه ديوميديس، واتجها صوب طروادة.
وبلغا المدينة، فاختبأ ديوميديس في مكان أمين، وصعد أوديسيوس إلى أبواب المدينة يستجدي الطعام والنقود. وكان متقنا لدور الشحاذ، في حركته ولهجته، حتى إن الحارس لم يجد أدنى ريبة فيه، فسمح له بالدخول ليلتقط رزقه مما في أيدي الناس.
ولم يجد أوديسيوس مشقة في اختراق طرقات طروادة؛ فقد كان يألف مداخلها ومخارجها. وسرعان ما بلغ المعبد، وهو يسأل المارة أن يعطوه مما أفاءته الآلهة عليهم من خيرات. ولم يخطئ أي خطأ يفضح سلوكه، ولم يكتشف أحد أمره من الطرواديين، غير أن المفاجأة كانت تترصده قرب المعبد. فقد فوجئ بهيليني تغادره إلى بيتها بعد أن صلت للربة أثينة، ولم يكن أوديسيوس بالذي تخفى ملامحه عليها، مهما أمعن في التنكر، وأغرق في التخفي.
وأدركت ما يحدق به من خطر؛ فاقتادته إلى بيتها، وأوصدت بابه، وقالت له: «يا لها من خطة تقوم على المخاطرة! كيف سولت لك نفسك أن تلج طروادة ولا رفيق ولا معين؟ أما زال الإغريق يحلمون باقتحام طروادة والاستيلاء عليها؟ ترى هل سيقتلني مينيلاوس إذا تحقق حلم الإغريق، واقتحموا المدينة، أم سيكفيه أن يأخذني إلى إسبرطة؟ لو كان قاتلي فمن الخير لي أن أموت في طروادة. كم أنا نادمة على ما وقع مني! لقد تسرعت وضعفت أمام إغراء باريس ومعسول كلماته، ولم أقدر عواقب صنيعي. يا ليتني بقيت هناك في إسبرطة، أعيش حياة هادئة، ولم أجر على قومي وعلى الطرواديين كل ما يلاقونه من ويلات.» ثم انخرطت في بكاء حار، ونحيب متصل.
وهدأ أوديسيوس من روعها، وقال لها: «إن الإغريق لن يستطيعوا اقتحام طروادة، والاستيلاء عليها، ما دام تمثال الربة أثينة قائما في معبدها. هكذا تقول النبوءة. وقد جئت وصديقي ديوميديس - الذي ينتظرني خارج الأسوار في مخبأ أمين - نحاول سرقة التمثال. ولن يرهقنا التغلب على الحراس لو حاولت مساعدتنا.»
وانفرجت شفتا هيليني عن ابتسامة مبللة بالدموع، فبدت في عيني أوديسيوس متألقة كما لم تتألق من قبل قط؛ بل إنها اكتست ثوبا من الجمال والفتنة أروع من أي وقت مضى. لقد كان جمالها من ذلك الجمال الخلاب، الذي يندر أن يتأثر بمرور الزمن، ويزيده الحزن تألقا وازدهارا.
وتروت هيليني في الأمر، ثم ما لبثت أن قالت: «إذا استولى الإغريق على طروادة، فمن ذا الذي يحكي لهم ما فعلت؟ أي أوديسيوس، إنني إغريقية مثلك، وسأعمل على معاونتك في مهمتك. هيا، تعال معي لأريك كيف تنفذ إلى المعبد، ثم إلى الخارج.»
وقادت هيليني أوديسيوس في طرقات المدينة، حتى بلغت بابا صغيرا، برز عنده ديوميديس، ثم عادت بهما إلى المعبد، وقفلت راجعة إلى بيتها، كأنها لم تصنع شيئا.
ولم يجد الرجلان مشقة في قتل الحارس، ثم دخلا إلى المعبد، فلم تصادفهما صعوبة في الاستيلاء على التمثال. وانطلقا به في شوارع المدينة الخاوية الساكنة في هدأة الليل، حتى بلغا ذلك الباب الصغير، فعبرا منه إلى الفضاء الفسيح، يهرولان نحو المعسكر الإغريقي؛ ليضعا تمثال الربة أثينة بين أرجائه، برهانا على دقة الخطة، ومهارة التنفيذ.
وظن الإغريق - عندئذ - أن طروادة باتت وشيكة الوقوع في أيديهم؛ فقد صنعوا ما أوحت به النبوءة، ولكنهم كلما حاولوا اقتحام أسوارها صدهم الطرواديون على أعقابهم مدحورين مخذولين.
رأى الحكيم كالخاس أن القوة ليست الوسيلة المثلى للاستيلاء على طروادة، وأن الحيلة قد تكون أجدى من القوة. فعليهم أن يفكروا في حيلة ذكية ماهرة للإيقاع بالطرواديين، واقتحام طروادة.
وأعمل أوديسيوس فكره، فتفتق عن خطة ماكرة. وقال يشرح خطته: «هيا بنا نصنع من الخشب المتين حصانا ضخما، يتسع جوفه لجميع أبطالنا، وعلى الباقين من الإغريق أن يشعلوا النار في الخيام، وأن يبحروا بالسفن، حتى يظن من يراهم أن الإغريق قد آثروا العودة إلى بلادهم. ولا يتخلف منا إلا رجل واحد يكون غير مألوف الوجه للطرواديين، ولنوثق يديه وراء ظهره، ولنلطخ وجهه بالقاذورات والدماء، حتى يقع في وهم من يراه أنه غريب عنا، وأنه قد لقي من سوء معاملتنا ما تظهر آثاره عليه.
وأعتقد أن الطرواديين سيسارعون إلى الخروج من حصونهم فور رؤيتهم الخيام تندلع فيها النيران، والسفن تمخر عباب البحر، وذلك ليلقوا نظرة على مخلفات المعسكر الإغريقي، وليسعدوا بفوزهم وقهرهم الإغريق. وسيروعهم أن يجدوا الحصان الخشبي الضخم الكبير واقفا. وهنا يتقدم منهم هذا الرجل الغريب الوجه؛ لينبئهم بأن الإغريق صنعوا هذا الحصان قربانا للربة أثينة، وتكفيرا عن خطيئتهم بسرقة تمثالها من المعبد. ويحكي لهم عما قاساه هو من الإغريق، ومحاولتهم أن يقدموه ذبيحة للربة أثينة، لولا أن نجا منهم بأعجوبة!
لو أن هذا الرجل الغريب الوجه نجح في تمثيل دوره بإتقان وبراعة، فمما لا شك فيه أن الطرواديين سيبتلعون الطعم، وسيسعدون بما خلفه الإغريق تعويضا للربة أثينة عن تمثالها المسروق، وسيعمدون إلى جر الحصان الخشبي ليدخلوه المدينة، وسيجدونه ضخما لا تتسع له الأبواب. ولأنهم أمنوا شر الإغريق، سيحطمون جانبا من الأسوار، يتسع لإدخال الحصان.
وما إن يلج الحصان المدينة، ويستقر أمام معبدها، حتى يعمد غريبنا الجاسوس إلى إحدى القمم العالية، فيشعل نارا عالية، تكون رسالة موجهة إلى سفننا، حيث ينبغي لها أن تعود إلى الشاطئ بأقصى ما يتاح لها من سرعة، ثم يعود الغريب إلى الحصان، فيفتح أبوابه، ويخرج الأبطال المختبئين في جوفه. فإذا ما وطئت أقدام العائدين اليابسة، انطلقوا مسرعين إلى دخول المدينة، وتلاقوا مع أبطالهم في الداخل. وبذا تسقط طروادة في أيدينا.»
وقعت خطة أوديسيوس من نفوس الإغريق موقعا حسنا، فتسارعوا إلى تنفيذها، وفي نفوسهم توق عارم إلى النصر، والعودة إلى أوطانهم . وعهدوا إلى إيبوس ليتولى صنع الحصان، فما يعرف الجيش الإغريقي صانعا أمهر منه. وأمر أغاممنون الرجال بقطع الأخشاب من جبل إيدا، ووضعها تحت تصرف الصانع ومن يعاونونه. وراح الإغريق يعملون في جد ومثابرة تحت إمرة إيبوس حتى أنجزوا مهمتهم، فبدا الحصان برأسه المتقن، وجسمه المحكم، وذيله ذي الشعر المرسل، كأنه حصان حقيقي تكاد تدب في أوصاله الحياة.
وما إن تم صنع الحصان الخشبي، حتى وقف أوديسيوس بين الإغريق قائلا: «إن علينا أن نقوم الآن بعمل ماهر، وعلى كل منا أن يبذل جهده ليكون الأقوى والأشد. أصدقائي، إن علينا أن نختبئ في جوف الحصان، ونحن على يقين من إحدى اثنتين: أن تنجح خطتنا، وتخدع الطرواديين حيلتنا، فنفوز بطروادة. أو أن يكون الطرواديون أشد منا مكرا، فيكتشفوا حيلتنا، وحينئذ لا مناص لنا من الموت! ومتى ضمنا جوف الحصان فعلى الآخرين أن يسارعوا بالإبحار وفق الخطة التي اتفقنا عليها إلى جزيرة تنيدوس، وينتظروا هناك الإشارة، التي إذا انبعثت سارعوا إلى الحضور. ولا يبقى هنا إلا واحد منا غريب على الطرواديين وجهه؛ لكي يقص عليهم تلك القصة التي اخترعناها، حتى يضللهم عن خطتنا الماحقة.»
وعندئذ، نهض فتى يدعى سينون، يعلن أنه يرغب في أن يكون ذلك الرجل؛ لأنه تتحقق فيه كل الصفات المرغوبة، فالطرواديون لا يعرفونه؛ إذ لم يسبق لهم أن رأوه، وهو يأمل في أن ترعاه الآلهة، وتسدد خطواته، وتوقفه في عرض القصة عرضا طيبا.
وتعجب الجيش كله من هذه الجرأة التي دفعت الفتى إلى هذا الموقف، فما سبق له أن أبدى شجاعة، أو أظهر تميزا؛ ومع ذلك أتاحوا له الفرصة، وراحوا يعدونه ليقوم بدوره. وبينما هم يوثقونه بالحبال، ويلطخون وجهه بالأقذار، صعد الأبطال إلى جوف الحصان وتكاثروا، حتى لم يعد في جوف الحصان متسع لأحد، وكان آخرهم صعودا إيبوس صانعه؛ لأنه أكثرهم خبرة ودراية بإغلاق الباب الذي دلفوا منه إلى جوف الحصان، وبفتحه حينما يتاح لهم ذلك. ولما تم إغلاق باب الحصان سارع الباقون من الإغريق يحرقون المعسكر، ويبحرون بالسفن غربا.
أضاءت النيران التي أشعلها الإغريق ليل طروادة، فاستشرف أهلها من فوق قلاعهم ينظرون. فلما شاهدوا خيام الإغريق تحرق، وسفنهم تبحر، انطلقوا إلى خارج الأسوار مسرعين، يرقصون ويهللون، وكأنهم في يوم عيد! واغتنم الفتى الفرصة: فرصة زهوهم بنصرهم، ونشوتهم بفوزهم، وراح يقص عليهم في أداء بارع - تلك القصة المخادعة المضللة - قصة الحصان وقصته هو، وكلتاهما ملفقتان تلفيقا محكما.
ولم يجد عناء في أن يصدق الطرواديون ما رواه؛ فقد أعانته نشوة النصر، التي أخمدت الفكر، على ما يريد. وما لهم لا يصدقون وهم يرون - بعيونهم - العدو مخذولا، ويقفون في معسكره - الذي كان - فلا يجدون منه بقية غير هذا الحصان، الذي خلفه قربانا للربة أثينة.
لقد قرر الطرواديون أن يحملوه إلى معبدها، ولكنهم يرونه ضخم الجسم، كبير الحجم، لا يتسع له أي باب من أبواب المدينة، فلنحطم جانبا من حوائط السور؛ كي يتاح لنا أن نبلغ بالحصان مقره، ونشكر الربة أثينة التي منحتنا الحماية والرعاية.
وبذلك استكمل الطرواديون بأيديهم آخر حلقات الكارثة التي كانت تترصدهم، وراحوا يغطون في نوم عميق، تتراءى لهم الأحلام الدافئة العبقة بشذا النصر.
ولم يضيع سينون وقتا، بل خرج يعدو إلى برج القلعة العالي، فلم يجد عنده من يحرسه؛ فقد شغل الحراس بولائم النصر التي عمت المدينة. وهناك أشعل النار عالية تبلغ الإغريق رسالته، ثم عاد منطلقا في خفة العصفور إلى حيث يقف الحصان الخشبي أمام المعبد، فأسر إلى القوم بضع كلمات، خرجوا على إثرها مسرعين، يهبطون السلم الذي أعده إيبوس لذلك.
هبطوا وكل منهم قد شحذ سلاحه، ودقات قلوبهم تتلاحق حذرا من المفاجآت، التي قد يكون القدر مخبئها لهم.
انطلقوا إلى أقرب البيوت منهم، يحرقونها ويقتلون أصحابها، ويثيرون الرعب والفزع في المدينة. أما الإغريق الباقون فقد عادوا مسرعين عندما بلغتهم رسالة النار المشتعلة، وولجوا المدينة من الفجوة التي دخل منها الحصان، ولم تصادفهم أية مقاومة؛ فقد اضطرب أمر المدينة، وسادها الرعب والفزع.
وهكذا سقطت طروادة التي أثملها زهو النصر، ونشوة الظفر.
وانطلق مينيلاوس، وأوديسيوس، في طريق يعرفانه حق المعرفة . انطلقا إلى بيت دايفوبوس، حيث كانت تعيش هيليني بعد موت باريس. وحينما اقتحموا المنزل كان دايفوبوس نائما، فاستيقظ على وقع أقدامهما، وأدرك ما يراد به وبهيليني من شر؛ فامتشق سيفه، وراح يقاتل بكل ما أوتي من قوة وشجاعة، لكن الضربات التي انهالت عليه من سيف مينيلاوس أردته قتيلا.
أما هيليني فقد أذهلتها المفاجأة، فطفقت تفر من وجه مينيلاوس يمينا وشمالا، وهي تصرخ صراخا عاليا، لكن لا منقذ لها ولا مغيث؛ فكل من في طروادة في شغل وهم يغنيه.
نظر إليها مينيلاوس والسيف في يده يقطر دما، وصدره يتقد غضبا عليها، وغيظا منها؛ ولكن ...
هناك لحظات قصار تتوقف عندها عجلة الزمان!
لقد رآها تقف هناك - كطائر مذعور - تحت الوهج الساطع من المدينة المشتعلة، يشتد وجيب قلبها، حتى ليكاد يسمع دقاته، فوقعت عيناه منها على الجمال الخالد في أكمل صوره، فعاوده حبه الجارف لها، ووجده لفراقها، وحنينه إليها؛ فلم يستطع لهذا الجمال الخالد مقاومة، ولا عليه امتناعا.
نسي ما جشمته من متاعب وأهوال، وانزاح ما كان يجثم على صدره من حقد ورغبة في الانتقام، وامتلأ بالتسامح والغفران. وفي غمرة هذه المشاعر الجياشة مد إليها يده، وأمسك يدها، وتراخت قبضة يده الأخرى عن سيفه، فسقط على الأرض؛ إيذانا بانتهاء عهد الصراع، وابتداء عهد الوئام والسلام.
Página desconocida