وليست المسألة هنا هي مجرد المظهر والشكل، بل إن تغيرا جوهريا في طبيعة العلم ذاته قد حدث فميز العلم الطبيعي المعاصر عن سلفه منذ بدأ تاريخ البشر حتى هذا القرن العشرين؛ وذلك لأن أجهزة البحث العلمي تزداد مع الأيام دقة، ومعنى ذلك أن الأرقام القياسية التي تبنيها عن الظواهر الطبيعية الموضوعة تحت البحث، تتغير كلما ازداد الجهاز المعين دقة، فإذا كنا نقيس السرعة، أو الوزن، أو الطول أو غير ذلك، جاءتنا أرقام مختلفة باختلاف درجة الدقة التي يعلنها الجهاز المعين في صورته الجديدة، ويترتب على ذلك أن تكون الحقائق العلمية نسبية مرهونة بظروف زمانها وما قد وصل إليه من أجهزة متطورة.
وبهذه العلوم الطبيعية تفوق الغرب فازداد قوة، وثراء وحرية، نعم إنه ازداد حرية بمقدار ما استطاع أن يكشف عن أسرار الكون بتلك العلوم ومنهاجها التقني (التكنولوجيا)؛ لأنه كلما باحت له الطبيعة عن سر من قوانينها، استطاع الإنسان أن يستخدمها كما شاء بعد أن كانت هي التي تتحكم فيه بسلطانها المجهول.
لم يقتحم العربي هذا الميدان، فلم ينعم بثمراته، وترك لأهل الغرب الجمل بما حمل ، على أن يمد كفيه بعد ذلك راجيا من الغرب أن يبيعه كذا وكذا من آلات للسلم وللحرب على السواء، وأما الغرب فيعطيه أو لا يعطيه وفقا للموقف وما يقتضيه، فما الذي يمنع العربي أن يدخل عصره مقتحما ميادينه العلمية وغير العلمية، مما قد ثبت نفعه في عملية التقدم الحضاري؟ إن عقيدته الدينية تحضه حضا أن يتفحص ظواهر الكون المحيطة به تفحص من يريد الكشف عن سرها وليس تفحص من يجلس بين جدران بيته يحملق بناظرته في الخلاء.
على أن اقتحامنا لميادين العلم الطبيعي لن يتم لنا على الصورة الدافعة للمشاركة الإيجابية في البنيات الحضاري إذا اكتفى علماؤنا - كما هم يكتفون الآن - بالأخذ عن الغرب علومه بعد أن تتحقق في كتاب أو في جهاز؟ لأننا في هذه الحالة ملزمون أن ننتظر حتى يفرغ الغرب من إبداع ما يبدعه، ثم نرسل في طلبه، ومعنى ذلك أن نكون دائما وراءه بخطوة - على أحسن الفروض - وإذن فالمطلوب منا هو أن يواجه علماؤنا ظواهر الكون المراد بحثها واستخراج قوانينها فيشاركون في إبداع العلم مع مبدعيه، والخطوة الأولى التي يجب أن نخطوها في هذا السبيل هي أن نبث في شباب جامعاتنا ومعاهدنا روح «المنهج العلمي» وألا نقنع بالمادة العلمية التي أنتجها منتجوها هناك عن طريق استخدامهم لهذا المنهج؟ وما يقال عن العلوم الطبيعية يقال عن غيرها من مقومات الحضارة التي نحيا في ظلها، أي إن الجانب الذي ينقصنا في المقام الأول، هو اكتساب المنهج العلمي خلال سنوات الدراسة فنتوسل بما يتوسل به العلماء المبدعون.
لكن هذا المطلب الصعب لن يتوفر لنا من تلقاء نفسه لمجرد أننا نريده ونتمناه، بل لا بد من عمليات فكرية من القادرين عليها تتناول حياتنا الثقافية بالتحليل الدقيق الواضح لنرى في جلاء أين نحن وأين نود أن نكون، والتحليل التفصيلي الذي يكشف لنا عن حقيقة حياتنا الثقافية على هذه الصورة الهادية، هو نفسه ما يؤديه الفكر الفلسفي بمنهج هذا الفكر الذي يمكن تلخيصه بأنه هو الذي يرد فروع الحياة الثقافية ، على اختلافها وتنوعها، إلى الأصل الواحد الذي منه بنيت تلك الفروع، إذ قد يكون لكل شعب ينبوع خاص به يؤدي إلى ثقافة ذات طابع خاص، فإذا ما رفعنا الستار عن ينبوعنا فوجدنا في طبيعته ما يعوق دون الوصول إلى الروح العلمية المطلوبة اتجه مسعانا عندئذ إلى تغيير ذلك الينبوع عن طريق التعليم، ولا خوف في هذا التغيير على هوية الشعب الأصيلة أن يصيبها ما يفقدها جوهرها المتميز؛ لأن العناصر الأساسية التي يتألف منها هذا الجوهر، لا تتأثر إذا ما أضاف الإنسان نظرة علمية إلى ظواهر الكون بدل أن يكون عالة على أصحاب هذه النظرة من أقوام أخرى.
لم يكن قد بقي من أعوام الستينيات إلا عامان حين تلقى الكاتب دعوة من جامعة الكويت أن يكون أستاذا للفلسفة بها، وكان عندئذ أستاذا غير متفرغ بكلية الآداب في جامعة القاهرة، وذلك بعد أن بلغ سن التقاعد (كما يسمونها) وهي حالة قد تصدق على مختلف ضروب العمل، ولكنها لا تصدق على رجال العلم، ومن ثم كان من رأي الجامعات أن تستبقي رجالها في الاضطلاع بعملهم العلمي مع تغيير العنوان، فبدل كونه «أستاذا» يصبح «أستاذا غير متفرغ» «أستاذا متفرغا» التي معناها أن يمضي الأستاذ في واجباته العلمية كما كان لكنه لا يشارك في المناصب الإدارية، فلما جاءته دعوة جامعة الكويت استأذن جامعة القاهرة فأذنت وسافر وقد جعل خطته أن يستغل فراغه هناك في مراجعة متأنية متأملة لعيون التراث العربي مما يمكن أن يندرج تحت العنوان «ثقافة»، وهناك أخذ يجمع النصوص التي يراها دالة على روح الثقافة العربية إبان ازدهار العقل العربي وأصالة مبدعاته بعد نزول الإسلام، وبهذا النشاط الذي لم يفتر، حقق الكاتب ما أراد تحقيقه لنفسه، وهو أن ترتسم له لوحة متماسكة لسيرة الثقافة العربية بعد أن كانت حصيلته الغزيرة من تلك الثقافة، مفرقة في أشتات لا يرتبط بعضها ببعض ارتباط مكان وزمان وعلاقات تضم جانبا إلى جانب، وإنه ليتعذر على حامل الأشتات المفرقة - مهما كثرت تفصيلاتها - أن يكون لنفسه «وجهة نظر» يتوحد فيها المشهد ، ويصبح في مقدور المشاهد أن يكون له رأي فيما يرى.
وعلى ضوء هذا الرأي الذي تكون لهذا الكاتب خلال خمس سنوات قضاها مجتهدا في تهيئة الأسباب التي تمكنه من الحق في أن يكون ذا رأي في التراث العربي بعرضه على الناس، أقول: إن على ضوء هذا الرأي الذي بلغ نضجه في الأعوام الأولى من السبعينيات، أخذ يكتب فيما تصوره من وجوب إيجاد صيغة جديدة للمواطن العربي بصفة عامة، والمواطن المثقف بصفة خاصة، وهي صيغة لا بد لها أن تدمج جانبين في كيان واحد موحد، فمن التراث ما لا بد أن يبقى ليضمن للعربي استمرارية تاريخية في حياته الثقافية، وهي استمرارية ضرورية لتظل للعربي هويته في جوهرها، لكن هذه الصلة الحيوية بين حاضر العربي وماضيه لا تكفي وحدها لتمكين العربي من اقتحام عصره الذي كتب له وكتب عليه أن يعيش فيه، ومن أهم ما يميزه من عصور التاريخ السابقة كلها توجيه الاهتمام الأكبر نحو العلوم الطبيعية التي هي وسيلة الإنسان الوحيدة للكشف عن قوانين الطبيعة من مختلف ظواهرها، وإن الإنسان لتكون له السيادة على تلك الظواهر حقا، بمقدار ما قد عرفه من قوانينها، وإذا كانت العلوم الطبيعية سمة بارزة من سمات العصر، فكذلك الحال بالنسبة إلى «منهج» البحث العلمي المتبع في الكشف عن تلك القوانين؛ لأنه منهج يبتكر له «الأجهزة» التي تعين على الدقة المطلوبة، بدرجة لم يعهد التاريخ أن يرى عشر معشارها في ساحة العلم حتى أصبحت هذه التقنيات (التكنولوجيا) جزءا لا يتجزأ من صورة عصرنا، فلئن كانت العصور الماضية قد قصرت نفسها على «الكلمة» أداة لكل جوانب الفكر العلمي وغيره من أوجه الحياة الثقافية، فإن «الآلة» هي التي حلت محل «الكلمة» في مجال العلوم، سواء أكانت الآلة جهازا من أجهزة البحث العلمي، أم كانت هي الناتج الصناعي الذي نتج ليستخدمه الناس في حياتهم العلمية، وبهذا المميز أصبح مجال «العلم» مختلفا كل الاختلاف عن المجال الآخر في نسيج الحياة الثقافية الذي هو المجال المعني بحياة الإنسان الداخلية الخاصة ، من عقيدة وعاطفة، وغريزة وسائر مكونات التيار الشعوري الباطني، وهو مجال تتساوى أهميته، بل ربما كان أهم للإنسان من جانب العلوم العضلية وما يترتب عليها، لكنه بحكم طبيعته لا يزال وسوف يظل معتمدا على «الكلمة» وسيلته الوحيدة، ومن هنا أصبح الفارق بين قناتي الإدراك وهما «العقل» و«الوجدان» واضحا وضوحا لم يعد لأحد ما يبرر الخلط بينهما، وهما مع هذا الفارق إنما يلتقيان بل يلتحمان التحاما في كل فرد من أفراد الناس.
ومنذ عام السبعين، أخذ الكاتب يصدر كتابا في إثر كتاب، ومقالا بعد مقال، ليشرح ما يراه من الصيغة الثقافية المطلوبة، التي نضفر فيها خيطين معا؛ أولهما: الجانب الذي استبقيناه من ثقافة أصيلة زرعت في أرضنا العربية وأثمرت، وثانيهما: جانب متصل بالعلوم في صورتها الجديدة، والمنهج التقني المميز لهذا العصر، وغير ذلك مما هو حيوي لإقامة الحضارة على الصورة التي منها يتألف عصرنا في المقام الأول، فهذا كله يجب استزراعه في أرضنا من شتلات نستوردها من مراكز الحضارة الجديدة في الغرب ومن الجانبين: ما هو أصيل أنتجناه نحن على امتداد تاريخنا، وما هو مجلوب من بناة الحضارة الجديدة، تتألف الصيغة الثقافية الجديدة للوطن العربي.
لم يكد هذا الكاتب يعود إلى مصر ليستأنف نشاطه فهو في الجامعة أستاذ متفرغ وهو اللقب الجديد الذي أضيف في الحياة الجامعية، ثم هو مشارك في الحياة الثقافية العامة كدأبه منذ صدر شبابه، حتى حدث أن جاءته دعوة كريمة من جريدة الأهرام ليكون عضوا في أسرتها الأدبية، فرحب بالدعوة أيما ترحيب؛ لأنها تحقق له منبرا هو أعلى المنابر المعروفة في الشرق العربي كله، ومن هذا المنبر أخذ الكاتب خلال أعوام السبعينيات والثمانينيات، يكتب ويكتب ثم يكتب، ليلقي الأضواء على جوانب الصيغة الثقافية المرجوة للمواطن العربي، والتي هي - بكل بساطة ووضوح - أن يكون عربيا وأن يكون في الوقت نفسه قادرا على مواجهة عصر علمي تقني بلغ به الطموح حدا يحاول به اختراق الفضاء الكوني، حتى لقد جاوز في هذا السبيل حدود المجموعة الشمسية بكل كواكبها وأفلاكها ... إلى أين علم ذلك هو عند علام الغيوب.
وبالله التوفيق، والحمد لله رب العالمين.
Página desconocida