والحق أن هذه الطبيعة الراجحة في الشخصية السوية، وأعني اتساقها مع نفسها اتساقا يوحد طريقتها في أسلوب الحياة، فكرية أم عاطفية، أم سلوكية، مسألة تستحق النظر بحثا عن جانب الصواب فيها، فمن ناحية، لولا ذلك الاطراد النسبي في شخصية الإنسان السوي لما أمكن للناس أن يتعاملوا بعضهم مع بعض فيما يشبه الأمان؛ لأن ذلك التعامل قائم أساسا على أن كلا من الطرفين يعرف مسبقا صورة رد الفعل الذي سيجيب به الطرف الثاني على ما قد بادره به، نعم، إننا في حياتنا العملية كثيرا جدا ما نفاجأ من الطرف الثاني برد لم نتوقعه بناء على ما عرفناه فيما مضى عن شخصيته، لكننا في معظم المواقف لا يخيب فينا الظن، إذ نتلقى ممن نعامله ردودا توقعناها، وبهذا «التعارف» بين الناس يسير بهم تيار الحياة ودودا هادئا، بل إن ترجيحنا عن الشخصية المعنية بأن أفكارها وأفعالها وانفعالاتها وعواطفها ستجيء كما نتوقع لها أن تجيء هو نفسه الأساس الذي يبني عليه أديب الرواية وأديب المسرحية رسمه لشخصياته رسما يجعلهم نظائر للأحياء.
ذلك كله من ناحية، لكن هنالك ناحية أخرى للموضوع، وهي «حرية» الإنسان فيما يرد فعله إزاء مواقف الحياة كلما فاجأه منها موقف يتطلب الفعل، فلو أن سواء الشخصية معناه اطرادها فيما تفكر فيه أو ما ترد به على طوارئ الأحداث، لفقدت بذلك عنصرا أساسيا في مقومات «الحياة » ذاتها من حيث هي مجرد حياة، فالكائن الحي حتى إذا كان من أدنى الأحياء درجة في مدارج التطور، كالنباتات الهلامية البدائية التي تنمو في مياه البحار، قادر على «ابتكار» فعل جديد غير مسبوق، إزاء الحديث الجديد الذي لم يسبقه مثيل في حياة ذلك الكائن، ونحن إذ نقول عن عالم النبات وعالم الحيوان إجمالا، بأن الأحياء فيه تسيرها طبائعها وغرائزها، ولا اختيار لها فيما تفعل وما تدع، فإنما نقول ذلك على سبيل التعميم الجارف، الذي يعتدي على أطراف كثيرة من حقائق ذلك العالم: عالم النبات والحيوان، وإذا كانت هذه الحرية النسبية مكفولة لتلك الكائنات، فماذا نقول عن الإنسان، الذي هو وحده المخلوق الذي أراد له ربه أن يكون مسئولا عما يفعل يوم الحساب، وهي مسئولية تتضمن بالضرورة أن يكون كائنا قادرا على الاختيار بين البدائل.
ومعنى هذه الحرية في حياة الإنسان - فيما نحن بصدد الحديث فيه - هو احتمال المفاجأة بالفعل المبتكر غير المتوقع وغير المسبوق بشبيه له فيما سبق من مجرى حياته، وعلى أساس هذا الذي نراه في طبيعة الشخصية الإنسانية، حتى وهي سوية غير منحرفة انحرافا تشذ به عن مألوف الحياة، نقول: إننا إذا استثنينا العباقرة العمالقة الذين لا يقاس إليهم سائر البشر، حق لنا أن نصف من هم دون ذلك رتبة بصفتين في آن واحد، رغم ما يبدو عليها من تناقض؛ إحداهما: أن نتوقع اطراد الشخصية السوية واتساقها مع نفسها فيما تفكر وتشعر وتسلك، الثانية: هي أن نتوقع من تلك الشخصية السوية ذاتها تجددا لا ينقطع في طرائق الفكر والشعور والسلوك، ليساير به تجدد الحياة من حوله؛ لأنه إذا جمد على صور مطردة، أمام حياة متغيرة، أفلت منه موكب التاريخ.
وفي إطار هاتين الصفتين المتناقضتين ظاهرا، المتكاملتين باطنا، تجيء شخصية الإنسان السوي، فهو كائن ثابت متغير، أو متغير ثابت في آن واحد، هو كالنهر الذي يتدفق في كل لحظة بماء جديد، ومع ذلك يظل هو هو النهر الذي عرفه الناس، فالإطار يبقى، ومضمونه يتغير، وهذا الإطار الثابت الباقي هو - على وجه الدقة - ما يخلع على الفرد شخصيته، وعلى الشعب هويته، وماذا عسى أن يكون ذلك الإطار؟ إنه «وجهة النظر» التي على أساسها نقبل هذا ونرفض ذاك، هو «الرؤية» العامة التي على أساسها نفاضل بين الأشياء والاتجاهات لننتقي منها ونختار، فالكون حولنا جميعا كون واحد، والكوكب الأرضي الذي هو موطن الجنس البشري كله كوكب واحد، لكن تجيء وجهات النظر المختلفة بين هذا الفرد وذاك، وتجيء الرؤى المختلفة بين هذا الشعب وذاك، فيتباين الأفراد، وتتنوع الشعوب.
وبفضل الله على صاحبنا، كان ذا وجهة نظر، يجتمع حول قطبها أشتات الحوادث، فهو إن تكن أنواله قد غزلت خيوط أفكاره خيطا خيطا، وعلى فترات، إلا أن تلك الخيوط قد تلاقت معه في موقف ثقافي واحد، بغير تدبير وتخطيط، ولكن توحد الرؤية ووضوحها كفيلان بذلك، ولقد أسلفنا من خيوطه تلك خيطين، كان أولهما: «علمية» النظرة ووجوبها في المسائل المشتركة العامة، وكان ثانيهما: التفرقة عند الإنسان بين قناتين للإدراك؛ فهناك ما يدرك على خطوتين وهو المدركات العقلية، كما هي الحال في مجال العلوم، وهناك ما يدرك مباشرة وعلى خطوة واحدة، كالمدركات الوجدانية، ومنها حالات «الإيمان» بما يؤمن به مؤمن، ونحن في سبيلنا الآن إلى الحديث عن خيط ثالث، ظهر في نشاط صاحبنا الفكري مستقلا، لكنه وجد فيما بعد مكانه من النسيج الموحد المتآلف، وأعني به موقفه من الأدب ونقده، أو من الفن ونقده.
مفتاح الرأي عند صاحبنا هو نفسه الأساس الذي يقيم عليه رأيا، أيا ما كان المجال الذي يتطلب إبداء الرأي فيه، وذلك الأساس هو التفرقة الواضحة بين قناتين للإدراك عند الإنسان، يتكاملان ولا يتناقضان، وهما قناة المنطق العقلي وقناة الحدس المباشر، وأما المنطق العقلي، فأميز ما يتميز به، هو أنه حركة انتقالية تنقل صاحبها من «مقدمة» (أو شواهد) إلى نتيجة تقام على أساس تلك المقدمة أو الشاهد، وأما الحدس المباشر فهو تأثر فوري يحدث عند نقطة التلقي ولا تجد داعيا يدعوها إلى الانتقال منها إلى سواها، وذلك معناه أن ما يدرك للوهلة الأولى، هو نفسه ما يصبح معتقدا عند الشخص الذي أدرك، فلا استدلال هنا لنتيجة تنتزع من مقدمة سبقتها، وكلمة «الحدس» قد أطلقت اسما على هذه العملية الإدراكية، المباشرة، من فقهائنا الأقدمين، وقد يكون أبو حامد الغزالي - على وجه التحديد - هو أول من أطلقها.
مرة أخرى نقول، ونقوله هذه المرة بعبارة أخرى، ابتغاء مزيد من الوضوح والإيضاح: إن الأساس الأول الذي تستند إليه الحركة الفكرية كلها عند صاحبنا كان ولا يزال، التمييز الحاد بين قدرتين مختلفتين على الإدراك عند الإنسان بصفة مطلقة؛ أولاهما: إدراك مباشر، والثانية: إدراك غير مباشر، القدرة الأولى طاقة وجدانية تشعر بما تشعر به، قبولا أو رفضا، إقبالا أو إدبارا، إزاء المدركات الخارجية، فلا وسيط بين الذات التي تدرك وتشعر وبين الشيء الذي تدركه وتشعر به، على نحو ما يكون الأمر بين إنسان وأريج وردة يشمها، أو بين إنسان وتذوقه لطعام في فمه، أو بين محب وحبيب ينبض لرؤيته قلبه بالحب، وهكذا أيضا يكون الأمر بين إنسان يؤمن بدعوة يهتز لها قلبه عند سماعها، كما يكون هو الأمر بين قارئ للشعر، أو منصت لمعزوفة موسيقية، إذا ما مس ذلك وترا في نفسه، كل هذه الحالات أمثلة للإدراك «الحدسي» أو الوجداني، أو المباشر، الذي لا يتطلب وسيطا بين الشخص المدرك والشيء الذي يدركه.
وأما القدرة الإدراكية الثانية فهي التي نقول عنها إنها النمط المنطقي، أو العقلي في الإدراك، وهي عملية تستدعي قيام وسيط بين الشخص المدرك من جهة، والحقيقة التي يدركها من جهة أخرى، وذلك الوسيط هو حركة استدلالية تنصب على الطرف الأول لتخرج منه النتيجة التي هي بمثابة الطرف الثاني، ويمكن تشبيه الموقف كله بقطار يبدأ رحلته من محطة القيام، لينهيها عند محطة الوصول، وأما الطريق بين هذه وتلك فهو بمثابة العملية الاستدلالية في الموقف العقلي، يبدأ من المعطيات المقدمة لينتهي منها إلى النتيجة المبتغاة.
وعلى هذه الخلفية الشارحة التي قدمناها، يقوم الرأي في التفرقة بين الفن ونقده، بما في ذلك فنون الأدب على اختلافها، والفرق بين الفن من جهة ونقده من جهة أخرى، واضح لصاحبنا وضوح الشمس، بينما هو عند آخرين مشكلة عويصة تتنازعها الآراء من يمينها ويسارها، مجادلاتهم ومناظراتهم تتردد فيها صيحات مبهمة حيرى: هل النقد تحليل علمي أو ذوق؟ هل يكون الناقد أديبا على نحو ما يكون مبدع القطعة المنقودة أديبا؟ إلخ وأمام هذه الجلبة التائهة الحيرى تسمع لسان الحال عند صاحبنا يعيد بيت المتنبي:
أنام ملء جفوني عن شواردها
Página desconocida