لكن صدق الإيمان وأعني التطابق بين ما قد أعلنت إيمانك به، وبين ما تسلك في حياتك، ليس هنة هينة وإنما هو هدف أسمى لا سبيل إلى تحقيقه إلا برياضة النفس وجهادها.
وأخيرا ننتقل إلى الصدق في مبدعات الفن والأدب، والمبدأ هنا هو نفسه المبدأ الذي رأيناه في صدق العلوم بجميع فروعها، ورأيناه في صدق الإيمان، فلا يزال المقياس هو أن يكون هنالك طرفان نراهما متطابقين، إلا أن التطابق في حالة العلوم يكون بين رموز ورموز في الرياضة، وبين رموز وواقع في العلوم الطبيعية، وأما في الإيمان وكذلك في الفن والأدب فهو تطابق بين مضمون باطني في ذات الإنسان وسلوك يسلك أو قول يقال، ففي كل موقف إبداعي في فن أو أدب هنالك «حالة» في نفس صاحبها يريد أن يجد لها طريقا لتعبر به من داخل إلى خارج فتظهر أمام الناس أو على مسمع منهم: معزوفة، أو قصيدة إلخ، لكن مجال الفن والأدب ينفرد دون سائر المجالات بأن الطريق يجيء على ثلاث خطوات وليس على خطوتين، ومعنى ذلك أن العملية الإبداعية الواحدة تتضمن التطابق مرتين، فتطابق بين الحالة التي أحسها المبدع والشكل الذي استعان به في إخراجها، ثم هنالك التطابق بين ذلك الشكل عند وقعه على المتلقي وما يستثيره فيه من حالة نفسية داخلية يرجح لها أن تجيء شبيهة بما انطوت عليه ذات المبدع حين أبدعت.
لقد كان من أهم المهام التي اضطلع بها صاحبنا ليرضى عن نفسه قبل أن ترضى عنه نفوس الآخرين، هو أن يقيم الحدود للصدق الثقافي يقينا منه أن هذه الصفة الواحدة - صفة الصدق - لو رسخت في حياتنا رسوخ الإيمان لكانت وحدها كفيلة لتلك الحياة بما نتمناه لها من نمو وازدهار.
مطالع النور «3»
هل كان يمكن أن يرتج البنيان الحضاري وما يتخلله ويسايره من أنماط ثقافية، ولا يرتج معهما «الفكر» بصفة عامة، والفكر الفلسفي منه على وجه الخصوص؟ إن بين «الحضارة» و«الثقافة» - فكرا وفنا وأدبا - حركة جدلية لا تنقطع، فالرؤية الثقافية تتغير لسبب أو لآخر، لتتغير معها متجهات الإنسان ومنجزاته، ومجموعة المنجزات التي تنشأ في مناخ متجانس موحد الهدف، هي «الحضارة»، وإذا أخذت الحضارة المستحدثة بعض شوطها عادت بدورها فأثرت في الحياة الثقافية، ولسنا نقول في هذا ما يجهله قارئ واحد، فأمام أعيننا وبين أيدينا ما يبين في أجلى وضوح، كيف تتغير المشاعر والأفكار حول وجه حضاري معين، فنقبل عليه نروج له، أو ننصرف عنه وننفر الناس منه، تبعا لما تغيرت به تلك المشاعر والأفكار، ثم يرتد الأثر في اتجاه عكسي، وأعني أنه إذا ما استقر بنا الأمر على الجانب الحضاري الذي اخترناه، عمل هذا الموقف الجديد بدوره على توجيه مشاعرنا وأفكارنا، فإذا كان التأثر والتأثير لا ينقطعان بين الجانب الحضاري من جهة، والجانب الثقافي من جهة أخرى، فهل كان يمكن - كما أسلفنا السؤال - أن يرتج البنيان الحضاري، ارتجاجا تمثل في حربين عالميتين وما بينهما من ثورات، خلال النصف الأول من هذا القرن، ولا يسبق ذلك ويلحق ذلك، تحولات كبرى في المشاعر والأفكار، ثم لا يحدث - بالتالي - متجه جديد للفكر الفلسفي؟
إن هذا الكاتب حين يحرص على أن تكون طبيعة الفكر الفلسفي واضحة للقارئ المثقف، فحرصه نابع من يقين عنده بأنه ضرب من المحال أن تبلغ الحياة الثقافية في أمة من الأمم مداها، ما لم تستطع أن تستقطب أوجه النشاط الكثيرة، المبعثرة بين أبنائها وبناتها، بالكشف عم تضمره تلك الكثرة المنوعة المتفرقة، من مبدأ واحد مشترك، ومن هدف واحد مشترك كذلك، فلا بد للأمة الواحدة، في العصر الواحد - إذا كانت حياتها سوية - أن تصدر في خضم مشاعرها وأفكارها وأفعالها عن ينبوع مشترك، وأن تستهدف برغم ما يبدو على سطح حياتها من متضادات ومتناقضات، غاية واحدة، لكن ذلك المبدأ الواحد وهذه الغاية الواحدة، لا يؤمر بهما المواطنون من صوت ينفخ لهم في بوق ليسمعوا ويطيعوا، كلا، بل هي الظروف الحضارية تنسج مناخا بخيوطها، يوما بعد يوم، وعاما بعد عام، فتظل تلك الخيوط تتوازى وتتقاطع وتنساب وتتعاقد، حتى ينتج عنها المناخ الثقافي الذي يتنفسه الناس في حياتهم اليومية شهيقا وزفيرا، فمن الذي يستخرج لهم من بحر الحياة العملية الهائج بفعله وانفعاله، المائج بخصوماته ومصالحاته، ما عساه أن يكون غارقا في قاعه من مبادئ دفينة وغايات مضمرة؟ إنه الفكر الفلسفي بأهم وجه من وجوهه، فما هذا الفكر في لبه وصميمه إلا إزاحة لرغوة الحياة العملية كما هي واقعة، حضارة وثقافة؛ لينكشف ما تحت الرغوة من حقيقة البحر وما يضمره، فهو فكر قريب الشبه جدا بمنظار ذي عدسات تقرب البعيد، وتكبر الصغير، ليراهما الرائي بعد أن لم يكن يستطيع ذلك بحواسه المجردة، إن الفيلسوف الحق لا يسعى وراء جديد يبدعه إبداعا منقطع الصلة بتيار الحياة كما يجري، بل هو أقرب إلى رجل العلم الذي يحاول بالمناظير المقربة «التلسكوب» أن يرى أجرام السماء التي تبعد عن مكانه مسافة تقاس بآلاف الملايين من السنين الضوئية، كما يحاول بالمناظير المكبرة «ميكروسكوب» أن يرى جسيمات تبلغ من الصغر حدا يستحيل معه على العين المجردة أن تراها، إلا أن يقابل تلك المناظير عند الفيلسوف قدرته على أن ينفذ بثاقب فكره إلى ما هو واقع في حياة الناس العلمية والثقافية والعملية ليستخرج منها مبادئ مطوية في ثناياها، على أسسها يقيم الإنسان نشاطه العملي أو الفكري والفني، دون أن يكون على وعي بها، إلا إذا كان ذلك الإنسان نفسه أحد أولئك القلائل الذين يأخذهم القلق إذا هم لم يتعقبوا الوسائل التي توصلهم إلى تلك الأسس الأولية المطمورة في حنايا الضلوع - إذا جازت هذه الاستعارة - ولذلك فمن النادر أن تجد فيلسوفا في أي عصر، لم يكن هو نفسه مشتغلا بأمر من أمور العلم أو الفن أو غيرهما، مما قد بني على أسس مأخوذة مأخذ التسليم من عامة الناس، لكنه هو قد تميز من سائر زملائه، بأن اشتدت به الرغبة، وكانت لديه القدرة في أن يزيح أستار الخفاء عما قد دس في الأعماق من جذور، هي المسئولة عما خرج على سطح الحياة العملية والفكرية التي يحياها الناس في أوجه نشاطهم على اختلافها، وبعبارة أخرى ربما كانت أيسر قبولا، نقول عن الفكر الفلسفي: إنه في أغلب حالاته محاولة ل «تفسير» أوضاع الحياة الفعلية القائمة، فمن رغب في تفسير الظواهر الحياتية السائدة تفسيرا يبلغ نهاية مداه أحب الفلسفة وعرف قدرها، ومن لم يرغب في ذلك عجب لماذا خلق هذا المخلوق النظري ليشغل الناس.
وهذه الحقيقة عن طبيعة الفكر الفلسفي، كثيرا ما تخفى حتى على بعض الدارسين، ذلك لأحد سببين أو لهما معا؛ أولهما: اختلاط «الفلسفة»، كما ألفها دارسها، ب «الحكمة» التي يتميز بها من خبروا الحياة العملية خبرة عميقة، مكنتهم من تنظيرها في قواعد عامة، وأما السبب الثاني: فهو أنه بعد أن يعكس الفيلسوف عصره ومحاوره، فيما كتبه أو قاله لمريديه، تمضي الأعوام وتأتي عصور بعد عصور، يظهر فيها من يريدون، أو يراد لهم، أن «يدرسوا» ذلك الموروث المأثور عن فلاسفة الماضي، فالذي يدرسونه إنما يطالعون «تاريخ» ما قد حدث في هذا العصر، أو ذاك، أو ما قد حدث في جميع العصور متسلسلة في تاريخ متصل، فإذا نظر هؤلاء إلى ما يطالعونه من جهة، وإلى بعض ظواهر حياتهم القائمة من جهة أخرى ، لم يجدوا قسمات حياتهم منعكسة فيما يدرسونه، فينكرون أن تكون العملية الفلسفية في حقيقتها «تفسيرا» للحياة المحيطة بالفيلسوف، ويفوتهم أنهم إذا أرادوا صورة حياتهم كما يحياها عصرهم، وجدوها عند فلاسفة عصرهم هم، لا في عصور السابقين، على أن ذلك لا ينفي أن يكون هنالك في حياة الإنسانية من المسائل الكبرى، ما يطرح نفسه في كل العصور؛ لأن إجابة العصر الواحد أعجز من أن تستوعبها على نحو شامل، فيه كل الصدق، ومن هنا نجد شيئا من التشابه فيما يشغل الفلاسفة في كل العصور على حد سواء.
ولماذا وقفنا هذه الوقفة الطويلة لنلقي بعض الضوء الشارح على طبيعة الفكر الفلسفي، الذي يتميز به «المبدعون» في هذا المجال، وقد لا يتميز بشيء منه من اقتصروا على «دراسة» ما خلفه هؤلاء المبدعون؟ علة ذلك هي أننا بصدد الرواية عن صاحبنا الذي نقص قصة المعالم الكبرى في حياة أحاطت به فانفعل بها، وكان من تلك المعالم أن رأى بعيني بصره وبصيرته معا، كيف أخذت في الانهيار حضارة ختمت بختام القرن التاسع عشر من عقد من أعوام هذا القرن العشرين، وكيف أخذت تبرز خطوط وملامح من حضارة جديدة تولد، ولم يكن بد ليحث هذا التحول الواسع العميق، إلا بنشوب حربين كبريين، واشتعال عدة ثورات سبقتهما، وتوسطت بينهما، ولحقتهما؛ ولذلك طرحنا سؤالنا في أول هذا الحديث: أكان يمكن أن تسقط حضارة وتولد حضارة أخرى، دون أن ينقضي عهد بفلسفته ليظهر عهد جديد بفلسفته الجديدة؟ ذلك ضرب من المحال، إذا أريد للحياة أن تكون سوية معافاة مبدعة، ومع ذلك فصاحبنا إذ اشتدت به عزيمة مصممة على أن يثبت في مواطنيه نفثات من روح الحضارة الجديدة، وهي نفثات دارت في معظمها حول أسس الرؤية العلمية، ولا غرابة في ذلك، فهو عصر «العلم» بلا جدال، لقي ما لقيه من مقاومة مستهترة غشيمة، وممن جاءت المقاومة أولا، ثم تبعهم نفر ممن دخلوا الهيجاء وهم على جهل تام بما يدور حوله القتال؟ جاءت من دارسي الفلسفة أنفسهم، وكان الذي أضحك وأبكى أن تعجب المتعجبون من «الدارسين» كيف جاز لصرخة مدوية أطلقها مجنون، أن تدوي في محراب الفلسفة الهادئ، تريد له أن يصخب بلغو ليس منها ولا هو ينتمي إليها بسبب من الأسباب.
كانت الثورة التي غيرت من اتجاه السير للفكر الفلسفي، لكي يساير حركة الانتقال من عصر ذهب أوانه، إلى عصر لم يولد بعد، وإن يكن الوجود الحضاري قد أخذت تذب فيه إرهاصات المخاض، أوضح من أن تقاوم من حيث المبدأ، وأما تفصيلات التفريع من ذلك المبدأ فقابلة للنقد والتعديل، وهي إن لم تكن كذلك لماتت ودفنت في مهدها، وكانت، إلى جانب وضوحها، أعمق من أن تلهو بها أهواء طفلية، إذا جازت في أي مجال آخر فهي لا تجوز في ساحة الفكر الفلسفي، وإن صاحبنا لا ينسى تلك اللحظة التي جاءه فيها زميل ليسأله: أين أجد نقد المعترضين على هذه الثورة في وجهة النظر؟ فأجابه: إنك واجد شيئا مما تريد عند فلان وفلان، فما هو إلا أن يجد الزميل وقد استخرج ما استطاع استخراجه من نقد المعترضين، لينشره وكأن البضاعة بضاعته، وربما كان عذره في ذلك أن أخلاقيات حياتنا العلمية اليوم أصبحت تبيح هذا السطو على ملكية الفكر، لكن الذي يثير الحسرة حقا هو أن المعتدي في هذه الحالة لم يكن على أقل درجة من درجات المعرفة بالحقيقة المفقودة، فذلك لم يكن عنده بذي خطر؛ لأن الأهم هو أن يضيف إلى صراخ الغاضبين صرخة لعله يظفر بنصيب من الثواب.
فما الذي أرادت الدعوة الجديدة أن تستحدثه، ليتلاءم الفكر الفلسفي مع المتجه الحضاري الثقافي الجديد؟ كان بكل البساطة والوضوح، أنه لم يعد يحق في عصر العلم لأحد من غير العلماء في ميدان معين، أن يقتصر الفكر الفلسفي على النقد المنهجي، وليس على موضوع البحث العلمي ذاته، وقد يسأل سائل: ولماذا لا يقوم بذلك النقد المنهجي في ميادين العلوم علماء تلك الميادين؟ والإجابة على سؤال كهذا، هو: أن هذا هو ما قد حدث بالفعل، عندما ينصب النقد المنهجي انصبابا مباشرا على علم من العلوم ، ومعظم العلوم قد خضعت في عصرنا هذا لمثل ذلك النقد المنهجي، ومن ثم حدث التغير الواسع العميق في البنية العلمية، وكان الذي قام بالعملية النقدية علماء في الميدان الذي اهتموا بنقده، فالذين عنوا بالنقد المنهجي للأسس التي كانت العلوم الرياضية قائمة عليها - مثلا - هم نفر ممن كانوا علماء في ذلك الميدان وأدركوا أن تلك الأسس في حاجة إلى مراجعة، إذ بدا لهم أنها كانت منطوية على تناقض داخلي، مما كان له أثره في الشرائح العليا من تلك العلوم، وهكذا قل في سائر فروع العلم، ولم يكن الانقلاب الذي حدث في وجهة النظر العلمية، منذ بداية هذا القرن، صدفة عمياء، بل هي نتيجة مباشرة لتلك الجهود النقدية.
Página desconocida