ولم يلبث صديقنا الشاب، وقد أدخلوه في أهل الذروة الثقافية ليكون من الوجهة الشكلية واحدا منهم، أقول إنه لم يلبث أن رأى - من الوجهة العملية - أمرا عجبا، وهو أن تلك الصفوة الثقافية الممتازة لم تستطع أن تجعل معيار الرفع والخفض ثقافيا خالصا ما داموا جمعية ثقافية في أساسها، بل لازمتهم عقدة «السلطة» التي هي داؤنا التاريخي العتيد الذي لم يجد له حتى هذه الساعة دواء، فمن كان ذا منصب أعلى بمقياس الدواوين الحكومية، كان عندهم أعلى مرتبة في جماعة المثقفين كذلك، حتى ولو لم يحمل قلمه مرة واحدة ليخط به كلمة واحدة مما تعرف الناس على أنه «ثقافة » بأي معنى من معانيها، وعلى الصغير بمقياسهم ذاك أن يظل صغيرا حتى ولو ملأ لهم الدنيا فكرا وأدبا، وقد بدا لصاحبنا الشاب حقائق الموقف بوضوح، وهي أنه في جماعة تحتذي حذو خلايا النحل، نحلة فيها بحكم الطبيعة سلطة الحاكم، ونحلة أخرى فيها بحكم الطبيعة أيضا ذلة المحكوم، لكن صاحبنا بعد أن لحظ ما لحظه، طواه بين ضلوعه لأنه كان على بينة من هدفه، وهدفه هو أن يضع نفسه في «النور»، نور الفكر الرفيع، فإذا لم يكن في مستطاعه أن يضيف من عنده نورا إلى نور، فلا أقل من أن ينعم بنور الآخرين من الهداة الكاشفين.
والله أعلم هل أصاب أخونا في اختياره أو أخطأ، فالناس طبائع واهتمامات وأهداف، وقد حدث بعد ذلك ببضعة أعوام أن التحق باللجنة صديق أديب شاعر كان على طبع مختلف، فلم يكد يرى ما كان صاحبنا قد رآه، حتى ضجر وأخذه القلق وتحدث إلى صاحبنا ذات يوم يكاشفه بما يشعر، قائلا: إنه يرفض أن يقف أمام المذود كالثور الغبي، ينتظر حتى يقذف له سيده بما شاء من الدريس، فسأله صاحبنا: وماذا تريد؟ قال مجيبا: أريد أن نترك هذه اللجنة لأصحابها، وننشئ أخرى نكون نحن أصحابها. فلم يتردد صاحبنا في الرد القاطع: كلا، يا صديقي فأنا باق مع هؤلاء معترفا أمام نفسي بأن في الناس كبيرا وصغيرا.
ولماذا أقول هذا نقلا عن خبرة لصاحبنا امتزجت له فيها النار والنور؟ إنني أقوله لأعلن به عن علة قاتلة تكمن جراثيمها في قلوب قلوبنا، فماذا تنفع ثقافة في تغيير الناس نحو الأعلى والأقوى والأفضل، إذا كان حامل تلك الثقافة وناشرها لا يؤمن بها، ولو آمن لغير من نفسه قبل أن يطالب الناس بالتغيير:
يأيها الرجل المعلم غيره
هلا لنفسك كان ذا التعليم؟
هكذا تساءل شاعر عربي، وهكذا نتساءل معه، إنه هو «التقدم» الذي كان يريده صاحبنا قبل أن يلتحق بتلك الجماعة وبعد أن التحق، والتقدم تغيير نحو الأكمل، ولو سئل هذا الكاتب: ما الذي تراه علة العلل في وجودنا الاجتماعي الضعيف؟ أجاب بغير تردد: إنه هو حب التسلط على الآخرين ... «السلطة» متمثلة في مناصب الحكم، هي عندنا القيمة الأولى بين القيم، قل لي كم لك من نفوذ تخترق به القوانين بلا رادع ولا عقاب، أقل لك أين يكون موقعك من درجات المجتمع، وكان الأمل أن تعمل أقلام الكاتبين عمل الفئوس، تحطم هذا البناء الذي يقام على افتراض مسبق بأن يكون للطغيان مكانة أولى في سلم القيم، فماذا تقول؟ إن حملة الأقلام على نقيض ما يبشرون به من وجوب قيام العدل أساسا لبناء المجتمع يريدون لأنفسهم مكانة الطاغية والويل ثم الويل لمن نشأ في مجتمعنا على ميل نحو التواضع؟ لأنه بين غمضة عين وانتباهتها واقع لا محالة مواقع الفرائس ينهش لحمها حلالا بلالا بغير مقابل أو بالنزر اليسير.
ربما كان في هذا التصوير تهويل تورط فيه القلم، لكنه يعين على إيضاح المناخ الثقافي كما شهده صاحبنا، حين اقترب من الصفوة شابا امتلأ رأسه وقلبه معا بما درس وطالع من فكر ووجدان يصلحان لتحقيق «التقدم» والنهوض، ولقد وفق بالفعل إلى مشكاة فيها مصباح، إلا أن المصباح لم يكن في زجاجة، فاختلط فيه الأمر بين نار ونور.
منهج جديد
كان الزمن لا يزال في أعوامه الأولى من ثلاثينيات القرن العشرين يزحف في بطء مثقلا بأحداثه، عندما فرغ صاحبنا من ترجمة المحاورات الأفلاطونية الأربع، التي يطلق عليها أحيانا اسم المحاورات السقراطية؛ لأن شخصية سقراط فيها لم تقتصر - كما أراد لها أفلاطون في سائر محاوراته الأخرى - على أن تكون وسيطا ينطق بفكر أفلاطون، بل هي محاورات أربع موضوعها هو شخص سقراط، مدافعا عن نفسه في المحكمة التي ساءلته عن أفكاره التي كان يبثها فيمن يحاورهم من الشباب الأثيني، وشارحا لموقفه من قوانين المدينة، كيف كان موقف من يحترمها وينصاع لها عن طواعية، مع الدعوة إلى وجوب تغييرها لما كان يراه فيها من قصور، ومعلنا عن شوقه إلى عبور البرزخ الذي يفصل بين الحياة الدنيا وخلود الحياة الآخرة، ولقد كان مشهدا مثيرا لأنصاره من الشباب الذين أحاطوا به، وقد جرع السم الذي أعطاه إياه حارس السجن، ولم يعد إلا أن يسري ذلك السم في جسمه ليكون الختام، لكنه قبل تلك النهاية بلحظة قصيرة رفع الغطاء عن وجهه، وطلب ممن كانوا حوله أن يقدموا ديكا إلى أسكلبيوس نيابة عنه، وكان أهل أثينا قد اعتادوا أن ينسبوا شفاء الحمى، إلى سحر أسكلبيوس، فيقدم له من كان مريضا ديكا ضحية ترمز إلى عرفانه بجميل الشفاء، وقد قصد سقراط بإشارته تلك إلى مريديه بأن يقدموا تلك الضحية نيابة عنه، أن يعلن شعوره بالخلاص من حمى الحياة الدنيا.
كان صاحبنا قد فرغ في أوائل ثلاثينيات القرن، من ترجمة المحاورات السقراطية الأربع، وقد تركت فيه أعمق الأثر من عدة وجوه: فأولا وقبل أي شيء آخر، كانت تلك الوقفة مع شخص سقراط كما تجلى في محاوراته تلك، هي بمثابة الخطوة الأولى على طريق تربيته تربية منهجية، تمهد له السبيل إلى نشاط فكري مستقيم، وذلك أن الفيلسوف قد حاول مع محاوريه - لأول مرة في تاريخ الفكر الإنساني - أن يحددوا معاني الكلمات التي يستخدمونها في مجالات الحياة الجارية، وإلا فهل يعقل أن يتحدث ناقد عن أثر من آثار الفن وهو لا يدري بأي الخصائص يتميز «الفن»؟ وهل يعقل أن يتشدق سياسي بالديمقراطية، حتى إذا ما سئل عن الديمقراطية عجز عن الجواب؟ وهل يعقل أن يجد الشاب «أوطيفرون» في المحكمة مطالبا بإنزال العقاب الملائم على أبيه؛ لأن أباه قد طرح بأحد عبيده في خندق فقتله، حتى إذا ما سأله سقراط ليحدد له معنى «التقوى» التي اتهم أباه بالخروج عليها، لم يجد الشاب عنده للسؤال جوابا، سوى أن قال لسقراط: إن التقوى هي عمل كهذا الذي أقوم به الآن، وهنا قدم الفيلسوف للشاب في إيجاز، ما يعلمه بأن «العلم» الصحيح بحقيقة من الحقائق لا يكون بذكر جزئية تندرج مع غيرها من جزئيات السلوك، لتكون هي الأمثلة العابرة على الحقيقة العلمية لفكرة من الأفكار، فقد كان واجبا عقليا على أوطيفرون، قبل أن يتهم أباه في المحكمة بأنه قد خرج على حدود «التقوى»، فاستحق العقاب، أن يعلم أولا تعريف «التقوى» تعريفا محكما، يكون بعد ذلك هو المرجع الذي تقاس إليه جزئيات السلوك البشري، لنميز فيها بين التقي والفاجر.
Página desconocida