ومرض يوما، مرضا لم يكن ذا شأن ولكنه مرض، وانتظرت الفتاة فلم تسمع وطال بها الانتظار. - من؟ - أنا. - أنت من؟ - افتح. - أهلا وسهلا. - إنها بسيمة. - أهلا. - أنت لا تعرفني. - أهلا. - هل أتفضل؟ - تفضلي. - لماذا لم تعزف اليوم؟ - أنت ... - في الدور العلوي. - و... - أستمع لك كل يوم. - هل ... - لم أستطيع أن أتصور انقطاعك عن العزف. - إذن ف... - أظن أنت لا تحتاج إلى رأيي. - بل أنا في أشد الحاجة إليه. - أليس لك معجبون؟ - أنت الأولى. - لن أكون الأخيرة. - كنت مريضا قبل أن تأتي. - إذن فقد شفيت. - لقد ظللت سنوات طويلة أنتظر هذه الجملة. - سوف تمل من سماعها. - لن أمل، عمري جميعه ذهب في سبيل أن أسمعها، لن أمل.
وكثر مجيء بسيمة إلى حجرتي، وبدأت بيننا هذه العلاقة من الألفة التي قد تؤدي إلى الحب، لم أكن أتصور أنها ستحبني، ولكن أختها - زوجتي - كانت أكثر مني علما بأختها وبالحياة، وجدت نفسي مدعوا إلى بيتهما، دعاني أبوهما.
بسيمة هي الصغرى وأختها زوجتي هي الكبرى طبعا.
لماذا نقول كلاما لا لزوم له؟ ما دمت قلت إن بسيمة هي الصغرى فما الداعي أن أقول إن بثينة أختها زوجتي هي الكبرى؟ كلام كثير لا معنى له ونقوله، ولكن بثينة لا تقول شيئا إلا وتريد من ورائه شيئا آخر، بثينة زوجتي، إني أدرك كل شيء، أعرف كل ما في نفسها، أنت يا بثينة لم تحبيني في يوم من الأيام، لقد وجدت في ضالتك المنشودة التي تعرفين أنك تريدينها؛ شاب من الأرياف أختك تحبه، وقد كان هذا هو الدافع الأول الذي جعل بثينة تنظر إلي، ما دامت بسيمة تحبه فلا بد أن تحرم بسيمة منه، ثم هو موسيقي فاشل، وسيظل فاشلا، فما دام قد بلغ هذا العمر ولم ينجح فلا نجاح له من بعد، أستطيع أن أشكله كما أشاء، أجعل منه زوجا ولا زوج، رجلا ولا رجل، وهو مستور الحال، لست أدري كيف كانت بسيمة تخجل، فقد كانت تحبني وتخشى أن تكثر من النزول إلي حتى لا أكشف حبها، ولم تكن بثينة تخجل ولا كانت تحبني، فهي تكثر من النزول إلي، اهتمام كبير بشأني، بجميع شأني، نعم أعرف، أعرف يا زوجتي العزيزة، كنت تسألين عن تقدمي في فني، اليوم أعرف سبب أسئلتك؛ كان الواضح من السؤال أنك كنت تريدين الاطمئنان على نجاحي، اليوم أعلم أنك كنت تريدين الاطمئنان على فشلي، ولم تكن أنباء نجاحي موجودة، وكانت أنباء فشلي هذه الحاضرة في ذلك الحين ، وكنت في هذه الأيام تستطيعين أن تصبغي صوتك بهذه الرنة الآسية الحزينة، كانت بارعة، أو لعلني كنت مغفلا، خطبتك وتزوجنا، وعرفتك، شيء واحد استطعت أن أرغمك عليه، هو أن أعزف، وقد عزفت وظللت أعزف، وفجأة وجدت نفسي أريد أن أؤلف موسيقى، وألفت، ألفت قطعتي الأولى، ولم أسمعها لزوجتي فهي لا تريد أن تسمع شيئا إلا نفسها، خرجت في بهيم الليل وهممت أن أذهب إلى بسيمة وأطرق الباب عليها ولكن تذكرت أن أباها في البيت، عدت إلى حجرتي القديمة وفتحت نوافذها وعزفت، وحين انتهيت سمعت تصفيقا، ولم أقل شيئا، رحت أعيد ما عزفت وأعيده حتى بدأ الصباح واتجهت من فوري إلى الإذاعة.
لم أكن أتصور أن هذا «السنكوح» سيصبح في يوم من الأيام هذا الموسيقار الذي يملأ الدنيا بنجاحه، لو كنت أعلم ما تزوجته؛ إنني أريد زوجي، زوجي فقط، ولا أريده شيئا آخر، لم تعد بسيمة تهمني؛ فقد تزوجته وقضي الأمر، ولكن كيف نجح، ماذا يجد الناس في موسيقاه؟ ماذا يجد الناس؟ لماذا لا يتركونه لي؟ إنه لم يصبح زوجي، لقد أصبح الموسيقار الشهير، ولكنه أبدا ليس زوجي!
لا، لا تعودي
أحبك، أنت لا تدرين ماذا تعني هذه الكلمة بالنسبة لي، وأنت أيضا تجهلين ماذا تعنيه بالنسبة لك.
أحبك، كلمة هينة ما أسهل ما يقولها الناس للناس، وما أسرع ما ينخدع بها الناس من الناس! قالها أغلب الأمر أبونا آدم لأمنا حواء، وقالها لا شك كل الذين اشتركوا في تكوين هذه البشرية، وقالها بصوت عال مرتفع، ظل يدوي عبر الأجيال روميو لجولييت، وقيس لليلى وقيس آخر للبنى، وجميل لبثينة، وكثير لعزة، ولعل هؤلاء كانوا صادقين، ولكن آخرين كاذبين قالوها بطريقة فيها شيء من خفة الظل، أو فيها شيء من الفن، فانتقلت إلينا أنباؤهم هم أيضا؛ فقد قالها كازانوفا لكثيرات وكثيرات، وقالها دون جوان لكثيرات وكثيرات، وقالها أيضا عمر بن أبي ربيعة لكثيرات وكثيرات.
قالوا هذه الكلمة البسيطة الثمينة بطرق شتى، وبأساليب مختلفة، بأبيات وقصائد وخطابات، قالوها شفاها، وقالوها خلجة في عين أو هزة من رأس، أو لمسة من يد. لا شأن لي بهؤلاء جميعا، لا شأن لي، فإني أحبك، وأنا الآن في الثلاثين من عمري، يبدو أنك لم تفهمي بعد ما أريد.
أنا من هواة الأدب والقراءة، عشت عمري كله بين الصفحات ولم أقل لواحدة في العالم أحبك، هذه الكلمة التي قلتها لك أنت، وقلتها بعد تردد شديد وخجل أشد، لم أقلها لفتاة قبلك أبدا، احتفظت بها عمري كله لأقولها لك أنت، هي كلمة عذراء عندي، لم يتحرك بها لساني إلا لك، ولم تصافح مني أذن فتاة قبل أذنك، فهي كلمة لم تسمعها من قبلك أبدا، هي بكر ناضرة جديدة كقطرة من ماء المطر تكونت ونزلت إلى النهر ثم لم تتكرر، كلمة لم تخلق في حياتي إلا لك أنت، خبأها القدر في حنايا أيامي، لم يفض عنها ختمها إلا لتسمعها أذنك، ثم هي من بعد لن تقال لفتاة أخرى، لا لن تقال مني إلا لك أنت، أرأيت إذن كم هي جديدة كلمة أحبك التي أقولها أنا لك، هي جديدة وفريدة لا شبيه لها فيما مضى من تاريخها، ولا أحسب أن سيكون لها شبيه في مستقبلها الطويل الطويل الذي لا شك أنه سيمتد حتى قيام الساعة، بل إنني أعتقد أن قيام الساعة لن يميت هذه الكلمة التي ستظل تتردد في أنحاء الجنة من أولئك الذين رضي عنهم ربهم إلى الحور العين هناك على ضفاف الكوثر، وفي رحاب الخمر والعسل، وفوق السندس والإستبرق، كلمة تتأبى على الموت، هذه الكلمة، ولكن كلمتي أنا التي قلتها لك لا مثيل لها، إنها تحمل في عروقها نبض الصبا الباكر والشباب الريان والأعوام الثلاثين التي خضتها في الحياة.
Página desconocida