وقبض قبضة عفوية، وحمل الذكريات وألقى بها على المكتب، وألقى بنظرة على ما حملته يده، وكانت ذكرياته القريبة، لم يمر عليها من الزمن ما يكفي أن يجعل منها ذكريات، لم يشم منها رائحة الزمن ولا عبق الماضي، لم يتول قلبه هذا النوع من الوجيب الذي أراد أن ينعم به.
ألقى بيده مرة أخرى وقبض قبضة من ذكرياته وألقى بها على سطح المكتب، إنها ذكريات وأكثر قدما من القبضة الأولى ولكن لا، ليست هذه ما يريد ، وظل ينقل إلى سطح المكتب وفي كل مرة تغوص ذراعه أكثر من المرة السابقة إلى قاع الدرج.
لم يعد ينظر إلى ما تخرجه يده، وإنما كان ينقل الذكريات جميعا في شوق كبير إلى مجهول يدريه، انتابه شعور طاغ بأنه يريد أن يلتقي بهذا الماضي، إنه لا يعرف عنه شيئا كأنه ليس ماضيه كأنه مقبل على مشاهدة فيلم لا يعرف عنه شيئا، لقد مر بذهنه للحظات أنه يعد آلة العرض ويعد الفيلم الذي سيعرض؛ فيلم جديد لم يشاهده قبل اليوم قط. لقد صنع كل هذه الأشياء التي يحفل بها الدرج، ولكن هناك فرقا كبيرا بين صنع الشيء وقراءته، ولقد قرأ كل ما كتب عنه، ولكن هناك فرقا كبيرا بين قراءة شيء منذ عشرات السنين وقراءته الآن في هذه اللحظة. إن الفيلم جديد، الفيلم جديد، لست أنا هذا الفتى الذي كان منذ أربعين سنة، أربعون سنة مرت، ولكم تغير السنون حين تمر، فكيف بأربعين سنة! كنت حينذاك شابا لم تخلق الحياة التي حوله إلا من أجله هو، هو سيدها، وهو مدارها، كم كنت أحب أن أكتب، كنت قد قرأت، قرأت كثيرا وأحببت أن أكتب، وهفت نفسي أن أرى اسمي يحمل فوقه كلاما في جريدة، وكتبت، كتبت كثيرا، وظللت لفترة طويلة أغذي سلة المهملات، في مكاتب رؤساء تحرير الجرائد الكبرى والصغرى على السواء، ما الذي ذكرني بهذه الفترة؟! هذه الورقة؟! هذه القصاصة الضئيلة، وهذا العنوان الذي كتب بحروف لا تزيد في حجمها كثيرا على حروف المقال نفسه؟! لكم كنت شابا! وإلا فهل أستطيع أن أكتب اليوم هذا العنوان: «الفن والحياة»؟ كنت أكتب عنه وأنا في هذه السن واثقا من نفسي مطمئنا أنني أستطيع أن أعالج هذا الموضوع الضخم وكأنه مسألة ضئيلة هينة. ترى هل أجرؤ اليوم وبعد أربعين سنة أن أكتب هذا العنوان (الفن والحياة)؟ إنه عنوان لا يستطيع أن يكتبه إلا الشاب الذي كنت يومذاك، أو أستاذ كبير في الجامعة يجعل منه عنوان كتاب ضخم يعتبره كتاب عمره. كم فرحت يوم نشر هذا المقال! كم فرحت! ما الحياة إذا لم تتخللها من حين إلى حين هذه الومضات المشرقة من الفرح؟! لماذا تحرمنا الحياة هذه الفرحة؟! هذا المقال الذي نشرته في المجلة بعد ذلك، فرحت به هو أيضا، ثم ظللت أكتب مقالاتي، ومع كل مقال تتناقص الفرحة حتى انعدمت. أعتبر طلب مقال عني اليوم عبئا ثقيلا لا أستطيع أن أتخلف عنه؛ لأن صناعتي أن أكتب، وأتمنى في الوقت نفسه لو كان لم يطلب مني حتى أستريح ولا أكتب.
كم كنت أتمنى في هذه الأيام أن أكتب، لم يكن يطلب إلي أن أكتب، ولكني مع ذلك كنت أكتب وأكتب وأكتب، هذه أول قصة نشرت لي في مجلة الصباح، لكم فرحت بها هي أيضا ثم ما لبثت الفرحة أن راحت تذوب مع القصص، لماذا؟ لماذا فرحت أيضا بأول كتاب صدر لي؛ رواية «حياة وأوهام»؟ التفت له النقاد، نعم هذا أول مقال نشر عنها بقلم الناقد الكبير سامي أحمد، اعتبرت نفسي قصاصا يوم نشر هذا المقال، نعم قلت للناس ذلك ولكن ما هي الحقيقة؟ ألم أكن أنا في دخيلة نفسي مقتنعا بفني؟ ولكن هل المهم أن أقتنع أنا بفني أم المهم أن يقتنع به الآخرون؟ عجيب عمل الأديب؛ إنه مزاج عجيب من الإرسال والاستقبال. مهما أكن مقتنعا بفني فلا قيمة لهذا الاقتناع حتى يعترف بي الناس، ومن ناحية أخرى مهما يعترف بي الناس فلا قيمة لاعترافهم إن لم أكن أنا واثقا من أصالة فني، مسكين هذا الفنان! تتعلق حياته بالآخرين والآخرون لا يرحمون، إن لم يروا فنا فلن يعترفوا به. ليس في هذا المجال رحمة أبدا. ومع ذلك يقول الناس؛ الناس أنفسهم الذين يقسون على الفنان: إن الفن رحمة وإنسانية وشفافية. إنهم يطلبون من فنانيهم الرحمة والشفقة والشفافية، وهم أنفسهم لا يتمتعون بشيء من هذا المبدأ أبدا، وهم أيضا معذورون؛ فلو اعترفوا بكل من يحاول أن يكون فنانا لأصبح الفنانون أكثر عددا من مستقبلي أعمالهم. أتراني أصبحت فنانا؟ هذا الدرج يقول: نعم. ولكن أنا نفسي تساورني الشكوك كثيرا، ما زالت الشكوك تساورني، لم أبلغ ما أردت لنفسي، إنني أقرأ من القصص ما يجعلني أشك كثيرا أنني صنعت شيئا.
هذه صورتي في المجلة، إنها صورتي يوم تزوجت، كنت يومذاك على جانب من الشهرة ونشرت مجلة «الفنون» صورتي مع خبر زواجي، أيهم هذا قراء مجلة الفنون في شيء؟! ماذا يهمهم إن كنت قد تزوجت أم لا؟! العجيب أن أغلب القراء يهمهم ما يقرءونه عني أكثر مما يهتمون بما أكتبه، عجيب أمر هؤلاء الناس، إن شهرة الأديب عندنا تتكون مما يكتب عنه لا مما يكتبه، ماذا يهم الناس من أمر زواجي؟! لقد كان الزواج مهما لي أنا. نعم كنت أحب إلهام، كنت أحبها بكل حماسة الشباب وكل نبض الأديب، والتقى حبي لها بحبها لي، ولم يكن الأمر عسيرا؛ فقد كان كل ما يهم أبويها متوافرا في؛ أحمل شهادة الآداب، وأعمل موظفا في الجامعة، ومستقبلي من الناحية الوظيفية مضمون. أما أنني أكتب القصص والمقالات فلا بأس ما دام هذا لا يعدو على وظيفتي، وإن كان أسعد بك حمادة مفتش الحساب بالمدارس الابتدائية يتمنى أن أشغل نفسي بشيء أكثر فائدة من القصص والروايات. كانت مجرد أمنية، ولم تكن عائقا في زواجي من إلهام ابنته. ما أطيب الأيام التي قضيتها مع إلهام؛ حب وخصام وتفاهم ومغاضبة وفرح وضيق! كانت تمر علي لحظات ونحن في أول الزواج أحسب فيها أن العالم كله لا يعرف من هو أسعد مني، وكانت تمر علي لحظات ونحن في أول الزواج أحسب فيها أن ليس في العالم أجمع من هو أتعس مني، واليوم وأنا أستشرف هذه السنوات البعيدة، أراها في مجموعها، في جملتها، في هنائها وتعاستها، في فرحي بها وشقائي، في إقبالي عليها ونفوري، هي هكذا جميعا سنوات حلوة، لماذا تحكي الحواديت دائما إنهما عاشا في تبات ونبات وخلفوا صبيان وبنات؟! ما التبات والنبات؟ أتراهم يريدون أن يقولوا إن الزواج كان ثابتا ومثمرا؟ وإلا فما معنى النبات؟ ولماذا تحكي الحواديت عن الزوجين السعيدين حياتهما ضحك وعيشهما هناء؟! أي نوع من الزواج هذا؟ إنه زواج راكد كالبركة، إن لم تضطرم فيه العواطف من غضب وهدوء، ومن إقبال ونفور، فهو ليس حياة. بحياتي أفديها إلهام؛ لقد ملأت حياتي حياة، كانت تحب عملي كأديب، وتغار في نفس الوقت من عملي كأديب. كانت تحب أن يمدحني النقاد، وتغار في نفس الوقت أنني حديث الصحف وهي لا يكتب عنها أحد. وكانت تحب أن أكون بين الناس وفي المجتمعات، وتغار في نفس الوقت من أنني أتحدث إلى سيدة. وقضيت حياتي وحياتها بين هذا الحب وهذه الغيرة. مزاج عذب وفيه حلاوة، ومن تفاعلهما معا تصبح حياة لها طعم خاص، فيها نكهة ذات معنى، وذات لون لا تتسم به حياة زوجين آخرين. ما أبأس الحياة التي تشبه حياة الآخرين! لا بد من وجود لون خاص لكل بيت، لون خاص لا يراه الزائرون ولا الأقارب ولا الأبناء ولكن يحسه الزوج وتحسه الزوجة، يعرفانه وحدهما، يعرفان هذا اللون الخاص بهما ويميزانه من بين كل الألوان الأخرى ولا يخطئانه أبدا.
هذه صورة محمد نشرها صديقي الصحفي الكبير علي ممدوح في الاحتفال بالعيد الأول لميلاد محمد، جاء بعد زواجي بسنة وبضعة أشهر، هذا هو محمد، لو رأى أولاده صورته ما عرفوه، أما أنا فأعرفه، هذا هو ابني يكبر ولكنه عندي أنا سيظل هذه الصورة، أم تراه يظل ذلك الطفل الشقي الذي تأبى ملابسه الداخلية إلا أن تظل خارجية، ويأبى شعره أن يستجيب لمشط، ويأبى وجهه أن يكون نظيفا، وتأبى أصابعه أن تخلو من الحبر؟ أم تراه ذلك الفتى المعجب بنفسه، يكثر من التأنق، ويكثر من تمشيط شعره، ويهتم بحلاقة لحيته التي كانت تعانده فلا تنمو، ويهتم بنظافة يديه، ويهتم أكثر من هذا جميعا بالنظر من النافذة معتقدا أنني لا أعلم شيئا، جاهلا أنني تزوجت أمه من نفس الطريق الذي يريده هو أن يتزوج به؟ أم تراه محمد ذلك الشاب النابغة في كلية الهندسة، إن لم يكن أول فصله فهو الثاني، وإن لم يكن التقدير ممتازا فهو جيد جدا؟ أم تراه محمد المعيد بكلية الهندسة؟ أم تراه محمد الزوج الطيب والأب المتفاني في حب ابنه وابنته؟ أي محمد في هؤلاء جميعا هو ابني محمد؟ إنه محمد جميعا، محمد منذ هو فكرة ومنذ هو يركل أمه حين هو جنين، ومنذ هو وليد، ومنذ هو هذه الصورة التي نشرها صديقي علي ممدوح، وحتى اليوم، وهو معيد وزوج ووالد. حلوة هي الأبوة، تضم في حناياها حياة إنسان بأكملها، وتظل الحياة حية نابضة يصحبها الأب معه إلى الحياة الأخرى دفئا يؤنس غربته في العالم الثاني، وقد تبقيه في الحياة الأولى ذكرى وامتدادا. هينة هي الصعاب التي يلقاها الأب أمام شعوره بأن له ابنا وأن ابنه يشعر أن له أبا. إن ما يلتقي به الأب من مخاوف على ولده أهون مما يلقاه الإنسان الذي إذا علت به السن لم يجد حوله من يشعره بأنه أب، وبأن هناك من يتمنون له طول الحياة. وهذه صورة هند يوم زواجها، نشرتها أنا في المجلة التي أعمل رئيسا لتحريرها، مشاعر عجيبة انتابتني يوم تزوجت هند، لقد تعودت أن تكون بجانبي دائما، وكنت أحب أن أراها هي وإلهام جالستين تنتظران عودتي. هذه الفتاة الحلوة التي أحبها زميل أخيها المهندس علاء حمدي، لم يرها في الأيام الأولى من ولادتها وعيناها لا يبين لهما لون من القاذورات التي تغشاهما، فلم يتضح أنهما زرقاوان إلا بعد أسابيع وأسابيع، ولم يرها والحصبة تملأ وجهها هزيلة لا تطيق أن تنطق حرفا، وقد كانت لا تسكت أبدا، ولم يرها وهي في المدرسة تتعثر في العلوم تعثرا وتقف حائرة أمامي إذا وبختها لإهمالها. لم ير علاء من هذا جميعا إلا هذه الفتاة الجميلة التي تجيد الحديث إذا تحدثت، وتجيد تصفيف شعرها، وتجيد نقل خطواتها في صنعة كأنها الطبيعة، أو في طبيعة كأنها مصنوعة. وهو أيضا لا يعرف عنها كم هي صادقة واقعية من نفسها، لا تغش نفسها ولا تحب أن تغش أحدا، تقول رأيها في صراحة وبساطة وهدوء. يعرف عنها هذا، لعله يعرفه، ولكن أهذا ما جعله يتزوجها أم العيون الزرق والشعر الأصفر والقوام الأهيف؟! من يدري.
وهذه صورة ابنتها، جميل أن يكون لأبنائي أبناء، ما أسفت على شيء قدر أسفي أنني لم أرزق أطفالا إلا بعد أن مات أبي، كنت أريده أن يعيش لأني لم أعرف كم كان يحبني إلا حين أحببت أنا أبنائي.
عميق هذا الدرج عميق، وكثيرة هذه الأوراق كثيرة، إنها كل ما كتب عني، أحق هذا، أم الحق في أمري لم يظهر حتى اليوم؟ سنوات طويلة وأنا أتمنى أن أجلس هذه الجلسة لأقلب هذه الأوراق، ما الذي أجلسني اليوم؟
كنت هنا يومذاك، وكنت أكتب السطور الأخيرة من روايتي، وكنت سعيدا أنني انتهيت منها، هذه فرحة لم أفقدها أبدا، فرحتي بأنني أكتب، لم أفقد هذه الفرحة أبدا، فقدت فرحتي بأن ينشر لي كتاب بعد صدور الكتاب الثاني لي، ولكن فرحتي بأنني أكتب وبأنني أريد أن أقول وأنني أقول ما أريد لم أفقدها أبدا، بل هي تزيد، دائما تزيد. أربعون عاما أكتب وهذه الفرحة تزيد. جميل أن أكون في الستين وأجد شيئا يفرحني هذا الفرح الطاغي. كنت فرحا وأنا أضع علامة النهاية في روايتي، وقبل أن أوقع رفعت يدي عن الورقة ووضعتها على المكتب، ورحت أقرأ النهاية مرة أخرى قبل أن أحمل اسمي عبء هذه الرواية الكبيرة. فرحت. لقد كانت النهاية كما أردتها أن تكون. فرحت، فرحت وأردت أن أوقع ولكن يدي لم تستجب، لقد ظلت مشلولة على المكتب وأبت أن تضع اسمي على نهاية الرواية. أتراني جلست إلى هذا الدرج لأنني أصبت بالشلل؟ ولكن الأطباء يقولون إنني سأشفى. لا، ليس هذا هو السبب. فلماذا جلست إلى درج الذكريات؟ لماذا؟ لماذا؟
حلم العمر
Página desconocida