El sueño de la razón: una historia de la filosofía desde la era de los griegos hasta el Renacimiento

Muhammad Talba Nassar d. 1450 AH
23

El sueño de la razón: una historia de la filosofía desde la era de los griegos hasta el Renacimiento

حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة

Géneros

ومن منظورنا الحالي المنتفع بالفكر العلمي، بوسعنا أن نؤكد أن تفسير اكتشافات الفيثاغوريين يكمن في ثلاث حقائق؛ أولاها: أن طبقة النغمة الموسيقية تتعلق بمعدل اهتزاز الهواء، وثانيتها: أن هذا المعدل في حالة الآلات الوترية يحدده معدل اهتزاز الوتر، وأخراها: أن معدل اهتزاز الوتر هو دالة لطول الوتر، (أما الرقم السحري 10 فليس له أي مغزى حقيقي). لم يكن الفيثاغوريون في موقف يسمح لهم بتقديم مثل هذه التفسيرات، ولكن يبدو أن هذا الاكتشاف المذهل جعلهم يشعرون أنهم في موقف يسمح لهم بالقفز إلى استنتاج شامل، وهو أن الأرقام من المتطلبات الأساسية لنظام الطبيعة التي تغلب عليها الفوضى؛ ولذلك فقد لعب الفيثاغوريون دورا أساسيا في تفسير الظواهر الطبيعية، حالهم في ذلك حال الأرقام (أو بشكل عام المفاهيم الكمية). حاول أن تتخيل كتابا مدرسيا يتحدث عن الفيزياء أو الكيمياء بلا أرقام فيه، سيكون ذلك أمرا مستحيلا. ولا يدهشنا أن الفيثاغوريين لم يتمكنوا من صياغة كل ذلك فلجئوا إلى المفردات التي توارثوها عن الملطيين؛ ومن ثم فقد رأوا أن الأرقام هي «أصل» كل شيء.

وفي حديثنا عن طاليس وخلفائه أشرنا بالفعل إلى الغموض الذي يكتنف مفهوم «الأصل». فهل كون الأرقام أصولا يعني أنها أول الأشياء التي وجدت، أم أنها المادة التي صنع منها كل شيء، أم أنها بطريقة ما السبب في حدوث أي شيء؟ لقد استعرض أرسطو العديد من الاقتراحات حول مقصد الفيثاغوريين ولم يؤيد معظمها، بل كانت نبرته عند الحديث عن أسلافه السابقين نبرة معلم رياض الأطفال الذي يقص الروايات الساذجة التي سمعها من الأطفال في المدرسة اليوم، خاصة عندما يذكر الفيثاغوريين وهذيانهم بشأن الأرقام. وهو يعترض بشدة على «إيمان الفيثاغوريين ... بأن الطبيعة بأكملها تتكون من الأرقام» مؤكدا أن هذا لا يمكن أن يكون صحيحا لأن «الأجسام الطبيعية وهبتها الطبيعة وزنا وخفة، إلا أنه لا يمكن تجميع عدد من الوحدات (أي الأرقام) لنكون منها جسما، ولا يمكن أن يكون لها وزن.» ومما لا شك فيه أن تفكير أرسطو في هذا المقام كان شديد الحرفية، فهل يمكن أن يكون الفيثاغوريون قد افترضوا بالفعل أن الرقم 6 على سبيل المثال له وزن، أو أنك إذا حطمت صخرة فسوف يخلف حطامها مجموعة من الأرقام؟ والإجابة على الأرجح هي لا. من المؤكد أن الفيثاغوريين خلصوا إلى أن الطبيعة رياضية الأصل. ونظرا لطبيعة ذلك العصر، كان من الطبيعي بالنسبة لهم أن يقوموا بتلخيص أفكارهم الغامضة في كون الأرقام تمثل «أصول» كل شيء أو مبادئه، إلا أن هذا لا يعني بالضرورة أن الأشياء المادية مصنوعة من الأرقام بالطريقة نفسها التي صنعت بها المنازل من الطوب.

لكن يبدو بالفعل أن الفيثاغوريين قد اعتقدوا أن الأشياء المادية تتكون من الأرقام بطريقة معينة أو بالأحرى بطريقة خاصة تنبع من أسلوبهم في تناول الهندسة. ولنأخذ على سبيل المثال الطريقة التالية: ارسم شكلا من أربع نقاط مثل ذلك الموجود على زهر النرد، ثم قم بتوصيل تلك النقاط عن طريق خطوط لتكون مربعا، ثم ارسم المزيد من النقاط والخطوط لتكون مكعبا. في هذا التدريب البسيط كونت النقاط خطوطا، وكونت الخطوط شكلا هندسيا، وكونت الأشكال الهندسية مجسما. وهذه تقريبا هي نظرة الفيثاغوريين ذوي العقلية الهندسية للأشياء المادية؛ فهي لديهم تتكون من نقاط وخطوط وهكذا. اعتقد أرسطو أنهم يقدمون إجابة للسؤال القديم الذي طرحه الملطيون عن المادة التي صنعت منها الأشياء المادية، ولكنهم في حقيقة الأمر كانوا يطرحون سؤالا آخر؛ فقد وجدوا في التركيز على الجانب الرياضي للأمور تجديدا مثيرا وفضلوا مناقشة ذلك. وقد يكون هذا هو السبب الذي دعاهم للقول إن الأشياء المادية صنعت من الأرقام بطريقة ما. ورغم أننا نميز بوضوح بين الأرقام والنقاط الهندسية فقد تناول الفيثاغوريون مفهوم الوحدات بشكل أوسع، وهو ما قد يعني أنه يشير أحيانا إلى أمر معين وأحيانا أخرى إلى أمر آخر. ولا ريب أن ذلك الغموض قد زاد منه أن مثلوا الأرقام بأشكال هندسية من النقاط أو الحصى كالأشكال التي توجد على حجر الدومينو أو زهر النرد.

ولسوء الحظ، لا يستطيع أكثر مفسري النظريات الفيثاغورية تعاطفا إنقاذ الفيثاغوريين من بعض التطرف الذي قادهم إليه افتتانهم بالأرقام. ويبدو أنهم ذهبوا إلى حد مطابقة بعض الأرقام المحددة بالعديد من الأفكار المجردة؛ فقد ذكر أحد المعلقين القدامى أن الفيثاغوريين كانوا يرون أن العقل يحمل الرقم 1، والذكورة الرقم 2، والأنوثة الرقم 3، والعدل الرقم 4، والزواج الرقم 5، والفرصة الرقم 7 (بعض المصادر الأخرى تعطي أرقاما مختلفة للعديد من تلك المفاهيم). وفي بعض الأحيان يمكن للمرء أن يرى بصعوبة مصدر الإلهام لتلك الأفكار الرقمية غير المترابطة، وخير مثال على ذلك هو العدل الذي يحمل الرقم 4؛ إذ مثل هذا الرقم بشكل مربع متساوي الأضلاع، ولذلك يمكننا أن نسميه شكلا عادلا. وما زلنا حتى الآن نستخدم في اللغة الإنجليزية كلمة

square

بمعنى «عادل» كما في حديثنا عن تسوية الديون

squaring debts . ولكن رغم أنه قد يكون في الأفكار المجنونة شيء من عقل، فلا يخرجها ذلك عن كونها جنونا. ولا ريب أن شيئا ما - حبذا لو علمناه - قد حدا بهم إلى قول ذلك، ولكن لدى الفيثاغوريين ثمة أفكار أخرى أكثر أهمية تستدعي النظر فيها.

أما آخر جزء من عقيدة الفلسفة الشاملة للفيثاغوريين سنتناوله هنا فهو الجزء الذي يتناول الأصول والمبادئ الأولية للكون، والذي يأتي على رأس أولوياتهم. رغم اعتقادهم أن الأرقام بطريقة ما هي مقومات كل شيء؛ فلم يعتقدوا أنها المقومات الأولية فحسب بل آمنوا أيضا بأن بوسعهم الغوص أعمق من ذلك؛ إذ إن الأرقام نفسها قد تكونت من شيء آخر. وهذا الشيء الآخر كان «المطلق» الخاص بأناكسيماندر أو شيئا يشبهه.

ويعد المفهومان الأساسيان في الفكر الفيثاغوري هما المحدود واللامحدود؛ إذ يرى الفيثاغوريون أنه أينما بحث الإنسان عن تفسير للنظام أو الجمال في أية ظاهرة فلا ريب أن هذين المفهومين يكمنان خلفه. وقد اكتشف أفلاطون لاحقا عقيدة لا بد وأنها تنتمي للفيثاغوريين، وهي تمضي على النحو التالي:

لقد أورثنا أسلافنا الذين كانوا أفضل منا وأقرب منا إلى الآلهة هدية في صورة قول مأثور يقول إن كل الأشياء الموجودة منذ القدم تتكون من شيء واحد ومن أشياء متعددة، وإن في طبيعتها مزيجا بين المحدود واللامحدود.

Página desconocida