Sabiduría Occidental
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
Géneros
Scipio
الأصغر، ولكن باستثناء هذا التأثير السياسي لم يكن في استطاعة روما أن تقدم شيئا يمكنه أن يلهم المفكرين اليونانيين أفكارا جديدة. ومن جهة أخرى فإن اليونان وإن تكن قد تحطمت من حيث هي دولة، كانت منتصرة في الميدان الثقافي على غزاتها الرومان. فقد كان الرومان المثقفون يتكلمون اليونانية، مثلما كان المثقفون الأوروبيون حتى عهد قريب يتكلمون الفرنسية. وكانت الأكاديمية في أثينا تجتذب أبناء الطبقة الرومانية العليا، وفيها تعلم شيشرون. وهكذا فإن المعايير اليونانية كانت تطبق في كل مجال، وكانت نواتج روما في نواح كثيرة مجرد نسخة باهتة لأصول يونانية. وكانت الفلسفة الرومانية بوجه خاص عقيمة في التفكير الأصيل.
ولقد أسهم طابع النقد والتشكيك الذي اتسم به التراث اليوناني، مقرونا بالانهيار الذي حدث في العصور الهلينستية، في التخفيف من صرامة الفضائل الرومانية القديمة، وخاصة عندما تدفقت على البلاد ثروات هائلة نتيجة للتوسع فيما وراء البحار.
صحيح أن التأثير الإغريقي الأصيل قد تناقصت قوته، وأصبح مركزا في أفراد قلائل، وخاصة بين الطبقة الأرستقراطية في مدينة روما.
ولكن العناصر غير الإغريقية في الحضارة الهلينستية أخذت تزداد قوة بمضي الوقت؛ فقد كان الشرق كما لاحظنا من قبل يقدم عنصرا من التصوف كان في مجمله أقل سيطرة في الحضارة اليونانية، وعلى هذا النحو تسربت إلى الغرب المؤثرات الدينية الوافدة من بلاد ما بين النهرين ومن مناطق أخرى مجاورة، وأدت إلى حركة تلفيقية نشطة، خرجت منها المسيحية ذاتها ظافرة في نهاية الأمر. وفي الوقت ذاته شجع التيار الصوفي على انتشار شتى أنواع المعتقدات والممارسات الخرافية. وأخذت القوى اللاعاقلة تزداد رسوخا كلما قل رضاء الناس عن نصيبهم في هذه الحياة الأرضية، وكلما تضاءلت ثقتهم في قدراتهم الخاصة. صحيح أن الإمبراطورية قد تمتعت بقرنين من السلام، ولكن عهد السلام الروماني
Romana
لم يكن عصر نشاط عقلي بناء. فكانت الفلسفة، بقدر ما يمكن أن يقال إنها كانت موجودة، تسير في التيار الرواقي. أما في الجانب السياسي فقد كان ذلك يمثل تقدما بالقياس إلى النزعة الإقليمية التي كان يتسم بها كبار المفكرين الكلاسيكيين؛ إذ إن الرواقية كانت تدعو إلى الإخاء بين البشر. ونظرا إلى أن روما قد أصبحت هي حاكمة العالم المعروف عندئذ طوال قرون عدة، فإن هذه الفكرة الرواقية قد اكتسبت أهمية ملموسة، ولكن الإمبراطورية كانت بالطبع تنظر بدورها إلى العالم الخارجي عن حدودها بنفس الترفع الذي كان يمكن أن تنظر به دول المدينة اليونانية إليه. صحيح أنه كانت هناك بعض الاتصالات بالشرق الأقصى، غير أنها لم تكن تكفي لكي تقنع المواطن الروماني بأن هناك حضارات عظيمة أخرى لا يمكن استبعادها ببساطة على أنها أجنبية أو بربرية. وهكذا فإن روما، مع كل ما كانت تتسم به من اتساع أفق الرؤية، كانت معرضة لنفس الغرور الذي اتسم به أسلافها الثقافيون اليونان، بل إن الكنيسة المسيحية ذاتها قد ورثت هذه الرؤية المشوهة؛ لأنها أطلقت على نفسها اسم «الكاثوليكية» أي الشاملة أو العالمية، على الرغم من أنه كانت توجد في الشرق عقائد أخرى عظيمة لم تكن مذاهبها الأخلاقية تقل تقدما عن المسيحية؛ فقد كان الناس لا يزالون يحلمون بحكومة وحضارة عالميتين.
وهكذا فإن أعظم دور قامت به روما كان نقل ثقافة أقدم من ثقافتها وأرفع منها. وقد تحقق ذلك بفضل العبقرية التنظيمية للحكام الرومان، والتماسك الاجتماعي للإمبراطورية. وما زالت بقايا شبكة الطرق الواسعة في كافة أرجاء الأقاليم الرومانية تشهد بعظمة هذه القدرة التنظيمية. فقد أتاح التوسع الروماني لجزء كبير من أوروبا أن يصبح وحدة ثقافية واحدة، برغم الاختلافات القومية والعداوات التي نشبت في عصور لاحقة، وحتى الغزوات البربرية لم تتمكن من تحطيم هذا الأساس الثقافي إلى الحد الذي يستحيل إصلاحه. أما في الشرق فإن تأثير روما كان أقل دواما؛ وذلك بسبب الحيوية الهائلة التي اتسم بها العرب المسلمون الفاتحون.
وعلى حين أن الغزاة في الغرب قد اندمجوا في تراث يدين بالكثير لروما، فإن الشرق الأوسط كله تقريبا قد اعتنق عقيدة الفاتحين.
ولكن الغرب يدين للعرب بقدر كبير من معرفته باليونانيين، وهي المعرفة التي نقلها إلى أوروبا مفكرون مسلمون، وخاصة عن طريق أسبانيا.
Página desconocida