Sabiduría Occidental
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
Géneros
إن الصورة التي تتمثل لنا هنا هي صورة مخيفة لدولة كالآلة الضخمة التي يكاد يختفي فيها البشر كأفراد اختفاء تاما، والواقع أن المدينة الفاضلة التي رسمت «الجمهورية» معالمها هي الحلقة الأولى في سلسلة طويلة من الصور الخيالية المماثلة التي امتدت حتى «العالم الجديد الشجاع» عند ألدوس هكسلي. ولا شك أيضا أنها ألهمت قادة مستبدين كانوا في وضع يتيح لهم إدخال تغييرات إجماعية كبرى دون عمل أي حساب للآلام المترتبة عليها، ولا بد أن يحدث ذلك كلما سادت الآراء التي تقول إن الناس إنما جعلوا لكي يتلاءموا مع أنظمة معدة سلفا. والواقع أن الفكرة القائلة إن الدولة يمكن أن تكون خادمة لمواطنيها، بدلا من أن يكونوا هم عبيدا لها، ما زالت حتى اليوم تعد بدعة في بعض الأوساط، أما أين يكمن التوازن السليم، فتلك مسألة معقدة ليست على أية حال مطروحة علينا في هذا المقام. ولكنا نستطيع أن نقول باختصار إن الدولة المثلى في «الجمهورية» قد أدت بالكثيرين ممن يعارضون مبادئها إلى إلصاق شتى الأوصاف المرعبة بأفلاطون؛ لذلك كان من واجبنا الآن أن نبحث بدقة في مدى أهمية النظرية السياسية التي تدعو إليها هذه المحاورة.
ينبغي أن نذكر في البدء أن تطور أفلاطون التالي في المسائل السياسية قد طرأ عليه تحول مختلف كل الاختلاف، وهذا ما سنراه بعد قليل؛ فالدولة المثلى في «الجمهورية» سقراطية أكثر منها أفلاطونية، ويبدو أنها تستلهم المثل العليا الفيثاغورية مباشرة.
وهذه النقطة تنقلنا إلى صميم الموضوع؛ فالدولة المثلى هي في حقيقتها رأي عالم في الطريقة الصحيحة لحكم الدولة، وبوصفها نموذجا وضعه عالم، فإنها قد تغري أحد المشتغلين بالهندسة الإجماعية بإطلاق العنان لتغييرات هائلة، معتقدا ببلاهة بأنه يرتكز في ذلك على أساس علمي. ولو تركت مقاليد الأمور للتكنولوجيين لكانت تلك هي الطريقة التي يسلكون بها. وفي الوقت ذاته فإن إدراكنا لهذه الحقيقة يزيل عن مفهوم الدولة المثالية قدرا كبيرا من الجوانب السلبية التي تتصف بها؛ ذلك لأنها في النهاية ليست إلا نموذجا يهدف إلى مناقشة مسائل معينة وإيضاحها. ولا شك أن سقراط قد طرحها وفي ذهنه هذا الهدف، ويتضح ذلك من خلال تأملنا لبعض الجوانب الأكثر تطرفا في جنة الأرض الموعودة هذه.
وفضلا عن ذلك فلا بد أن نضع في حسابنا أنها تنطوي على قدر معين من التهكم؛ إذ لا يوجد مثلا من يرغب في إبعاد الشعراء حقيقة، كما أن أحدا لا يفكر حقيقة في إدخال شيوعية جنسية كاملة. وبالطبع فإن بعض سمات الدولة المثلى مستمد من رؤية ما كانت عليه إسبرطة بالفعل، ومع ذلك فإن النموذج يظل نموذجا.
فهو لا يقترح بوصفه خطة عملية لإقامة مدينة فعلية. وعندما انغمس أفلاطون فيما بعد في الحياة السياسية لسراقوزة، لم يكن يحاول إقامة دولة مثلى على هذا النمط؛ فقد كان هدفه كما رأينا أكثر تواضعا وأقرب إلى الطابع العملي، وأعني به تحويل أمير مدلل إلى رجل صالح لإدارة شئون مدينة هامة كانت موضوعا لاهتمام كبير. أما إخفاق أفلاطون في ذلك فمسألة أخرى، وهو إن دل على شيء فإنما يدل على أن التعليم ليس علاجا شاملا كما يظن عادة.
ولقد عاد أفلاطون مرتين في محاوراته المتأخرة إلى مناقشة المسائل السياسية؛ ففي محاورة «السياسي» (أو رجل الدولة) يقدم عرضا لمختلف التنظيمات السياسية التي يمكن أن توجد في المدينة، ويتوقف نوع هذه التنظيمات على عدد الحكام وطريقة حكمهم، فمن الممكن أن تكون هناك ملكية، أو أوليجاركية، أو ديمقراطية، وكل من هذه قد تعمل إما وفقا لمبادئ قانونية، أو بدون هذه المبادئ، مما يجعل المجموع ستة أنواع من النظم، فإن لم يكن هناك حكم للقانون، كان وجود السلطة في أيدي الكثرة هو أهون الشر؛ وذلك نظرا إلى غياب وحدة الهدف، أما إذا كان هناك حكم للقانون، فإن الديمقراطية تصبح أسوأ الدساتير؛ لأن الهدف المشترك يصبح الآن ضروريا لكي يتحقق أي شيء، وفي هذه الحالة يفضل وجود ملك.
ويبقى بعد ذلك إمكان قيام دستور مختلط، يجمع بعضا من عناصر الأنواع الستة البسيطة. وقد استقر رأي أفلاطون في محاورته الأخيرة «القوانين» على أن أفضل ما يمكننا عمله في عالمنا هذا الذي يبدو أن فكرة الملك الفيلسوف مستحيلة التحقق فيه، هو أن نجمع في ظل القانون بين حكم الواحد وحكم الكثرة، وتقدم محاورة «القوانين» إرشادات مفصلة إلى أبعد حد، تبين كيف يمكن إدارة هذا النوع من النظم، وكيف ينبغي انتخاب أصحاب الوظائف المختلفة. كذلك تقدم في ميدان التعليم تفصيلات كثيرة عن الوقت الذي يقدم فيه ما نسميه الآن بالتعليم الثانوي، ومضمون هذا التعليم، وقد أصبحت المدارس الثانوية في العصور الهلينستية مرحلة راسخة من مراحل تعليم الشباب، بعد أن أرسيت دعائم هذا النوع من المدارس في «القوانين».
وعلى حين أن المثل العليا لمحاورة «الجمهورية» لم تكن كما قلنا من قبل توصيات ينبغي ترجمتها إلى واقع، فإن تفكير أفلاطون المتأخر يختلف عنها في هذه الناحية اختلافا بينا؛ إذ تصبح اقتراحاته السياسية والتعليمية عملية وواقعية إلى أقصى حد. وقد تم تنفيذ الكثير من هذه الاقتراحات في العصور اللاحقة، وسرعان ما نسي الناس أصلها الأول، على أن الأمر يختلف في حالة «الجمهورية»، فقد أسيء فهمها بوجه عام بوصفها نظاما وإن كانت أفكارها الأكثر إثارة قد وجدت من آن لآخر مؤيدين شديدي التحمس، لسوء حظ حيوانات التجارب البشرية التي حلت على رءوسها النتائج. وهذه الحقيقة هي التي جعلت أفلاطون يوصف أحيانا بأنه هو الذي مهد الطريق لأولئك الذين أساءوا فهمه أولا، ثم سارعوا إلى القيام بتصرفات خرقاء بناء على هذا الفهم السيئ.
ومع هذا كله ينبغي أن نعترف بأن أفلاطون ذاته قد كشف عن نوع من ضيق الأفق في تفكيره السياسي. وهو في ذلك إنما يشارك في الشعور اليوناني العام، الذي يحفظ المسافة بينه وبين الأجنبي، ولكن ليس من السهل أن نحدد إن كان ذلك ناجما عن إحساس واع بالتفوق، أو عن مجرد طريقة طبيعية في التفكير نشأت عن التفوق المؤكد للثقافة اليونانية. وعلى أية حال فإن أفلاطون في «القوانين» ظل يعتقد أنه عند تأسيس مدينة جديدة - وهي الذريعة المصطنعة لكتابة المحاورة - ينبغي اختيار موقع بعيد عن البحر؛ تجنبا للتأثير المفسد للتبادل التجاري والاتصال بالأجانب، وبالطبع فإن ذلك يخلق صعوبات، ما دام من الضروري ممارسة قدر معين من النشاط التجاري، كما أن من الضروري بالنسبة إلى أولئك الذين لا يملكون موارد مستقلة أن يكسبوا رزقهم على نحو ما. ومما له دلالته أن أفلاطون حينما تحدث عن المعلمين في مدارسه الثانوية المقترحة، قال إنهم ينبغي أن يتلقوا أجرا، ومن ثم يجب أن يكونوا من الأجانب.
ولقد كان موقف العزلة في الشئون السياسية هذا هو الذي أدى في النهاية إلى عجز العالم اليوناني عن تحقيق تنظيم قادر على البقاء، على نطاق أوسع، فقد كان نوع الحياة السياسية الذي تصوروه ساكنا راكدا، على حين كان العالم المحيط بهما يتغير بسرعة. ولقد كانت هذه هي نقطة الضعف الكبرى في التفكير السياسي اليوناني. وفي النهاية تمكنت الإمبراطورية الرومانية من تأسيس دولة عالمية. وإذا كان الرومان قد افتقروا إلى الأصالة اليونانية، فإنهم كانوا أيضا متحررين من الفردية المفرطة لدولة المدينة.
Página desconocida