Sabiduría Occidental
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
Géneros
وتمشيا مع هذه النظرية، ينظر اسبينوزا إلى عقولنا البشرية الكثيرة على أنها جزء من العقل الإلهي. وهو يشارك ديكارت تأكيده للوضوح والتميز؛ إذ يقول: «إن قوام الخطأ أو البطلان هو افتقار إلى الإدراك، تنطوي عليه الأفكار غير الكافية، أي المضطربة المختلطة.» وما إن تتكون لدينا أفكار كافية، أو مطابقة، حتى نصل على نحو مؤكد إلى معرفة نظام الأشياء وترابطها، الذي هو ذاته نظام الأفكار وترابطها. ومن طبيعة العقل أن يتأمل الأشياء لا من حيث هي عرضية، بل من حيث هي ضرورية. وكلما ازددنا قدرة على ذلك، ازددنا اقترابا من التوحد بالله، أو التوحد بالعالم وهو ما يعني نفس الشيء، وفي هذا السياق وضع اسبينوزا عبارته المشهورة التي يقول فيها: «إن من طبيعة العقل أن يدرك الأشياء من وجهة نظر لا زمانية معينة.» وتلك في الواقع نتيجة تترتب على القول إن العقل يرى الأشياء من حيث هي ضرورية.
وفي الباب الثالث من كتاب الأخلاق، يبين اسبينوزا كيف يمنع الذهن من الوصول إلى رؤية عقلية كاملة للكون، بسبب تأثير الانفعالات الذي يحول دون ذلك. فالقوة الدافعة لنا، من وراء كل أفعالنا، هي حفظ الذات. وربما اعتقد البعض أن هذا المبدأ الأناني الصرف يدمغنا جميعا بأننا منافقون لا نفكر إلا في مصالحنا، غير أن هذا الفهم يغفل كلية عن المقصود. ذلك لأن الإنسان في بحثه عن مصلحته الخاصة، يجد لزاما عليه، عاجلا أو آجلا، أن يسعى إلى الوحدة مع الله. وهو يحقق مسعاه هذا كلما تمكن من رؤية الأشياء «من منظور الأزل»، أي من وجهة نظر لا زمانية، كما ذكرنا من قبل.
وفي البابين الأخيرين نجد فلسفة اسبينوزا الأخلاقية بمعناها الصحيح. فالإنسان يكون في حالة عبودية ما دام خاضعا للمؤثرات والأسباب الخارجية. وهذا يسري في الواقع، على كل شيء متناه. ولكن بقدر ما يستطيع الإنسان تحقيق الوحدة مع الله، لا يعود خاضعا لهذه المؤثرات، لأن الكون في مجموعه لا يخضع لتحكم شيء. وهكذا فإن المرء، بتوافقه أكثر فأكثر مع الكل، يكتسب قدرا مناظرا من الحرية. ذلك لأن الحرية هي بعينها الاستقلال، أو التحكم الذاتي
Self-Determination ، وهو لا يصدق إلا على الله، وعلى هذا النحو نستطيع أن نحرر أنفسنا من الخوف. ولقد رأي اسبينوزا، مثل سقراط وأفلاطون، أن الجهل هو العلة الأولى لكل شر، بينما المعرفة، بمعنى الفهم الأفضل للكون، هي الشرط الأساسي الذي يوصلنا إلى الحكمة والسلوك القويم، ولكنه، على خلاف سقراط، لم يكن يفكر في الموت. «إن أقل ما يفكر فيه الإنسان الحر هو الموت، وحكمته إنما هي تأمل في الحياة لا في الموت.» ولما كان الشر سلبا أو عدما، فمن المحال أن يكون الله أو الطبيعة متصفين بالشر، لأنهما لا يفتقران إلى شيء، وكل شيء إنما هو على أفضل وجه في هذا العالم الوحيد الممكن. ولما كان الإنسان متناهيا فإن عليه أن يسلك في الشئون العملية، على نحو يؤدي به إلى حفظ ذاته، كيما يحتفظ بأقوى ما يستطيع الاحتفاظ به من الصلات مع الكون.
هذه، باختصار شديد، هي الخطوط العامة لمذهب اسبينوزا. وتكمن أهميته بالنسبة إلى الحركة العلمية في القرن السابع عشر فيما يوحي به ضمنا من تفسير حتمي على مستوى واحد لكل ما يحدث في الكون. والواقع أن هذا المذهب هو المشروع الأولى الذي سيتم التوسع فيه مستقبلا لنسق موحد للعلم، على أن مثل هذه المحاولة لا يمكن أن تقبل في أيامنا هذه إلا بعد إبداء بعض التحفظات الهامة. وبالمثل لا يمكن من الناحية الأخلاقية، الاعتراف بأن الشر شيء سلبي فحسب، فكل عمل من أعمال القسوة المتعمدة، مثلا، هو وصمة إيجابية ودائمة على جبين العالم ككل. ومن الجائز أن هذا هو ما تشير إليه المسيحية من طرف خفي في نظرية الخطيئة الأولى، ولو وجه اعتراض كهذا إلى اسبينوزا، لكان رده هو أن أية قسوة لا يمكن أن تكون متعمدة إذا تأملناها «من منظور الأزل»، غير أن هذا شيء لا يسهل إثباته. ومع ذلك فإن مذهب اسبينوزا يظل واحدا من الإنجازات الكبرى للفلسفة الغربية، وعلى الرغم من أن صرامة لهجته تحمل شيئا من طابع العهد القديم، فإنه يمثل إحدى المحاولات الكبرى، على طريقة اليونانيين العظام، لإظهار العالم بوصفه كلا شاملا قابلا للفهم.
لقد أدت مشكلة الجوهر، كما رأينا من قبل، إلى حلول شديدة الاختلاف فيما بينها. وإذا كان اسبينوزا قد تمسك بمذهب واحدي متطرف فإن الإجابة التي أتى بها ليبنتس تذهب إلى الطرف المضاد، وتفترض عددا لا نهائيا من الجواهر، ومع ذلك فإن بين النظريتين صلات من بعض النواحي، مشابهة للصلات التي تربط بارمنيدس بالمذهب الذري، وإن كان من الواجب ألا نذهب في تشبيه الحالة الأولى بالثانية أبعد مما ينبغي. فنظرية ليبنتس ترتكز في النهاية على الفكرة القائلة إن الجوهر، إذا كان واحدا، لا يمكن أن يكون له امتداد، لأن الامتداد يوحي بالتعدد، ولا يمكن أن توصف به إلا مجموعة من الجواهر. ومن ذلك استدل على أن هناك جواهر كثيرة إلى حد لا متناه، كل منها غير ممتد، ومن ثم فهو لا مادي. وهو يطلق على هذه الجواهر اسم الذرات الروحية، التي تتسم بسمة أساسية هي كونها نفوسا بمعنى عام لهذه الكلمة.
وقد ولد ليبنتس (1646-1716م) في ليبتسج، حيث كان أبوه أستاذا جامعيا، وقد كشف منذ سن مبكرة عن مواهب عقلية نقدية متدفقة. وفي سن الخامسة عشرة التحق بالجامعة، حيث درس الفلسفة، وتخرج بعد عامين، ثم انتقل إلى «يينا
Jena » لدراسة القانون. وفي سن العشرين تقدم للحصول على الدكتوراه في القانون من جامعة ليبتسج، ولكن طلبه رفض بسبب صغر سنه. أما جامعة آلتدورف
Altdorf
فكانت أكثر تسامحا، ولم تكتف بمنحه الدرجة بل عرضت عليه كرسيا جامعيا. غير أن ليبنتس، الذي كانت في ذهنه أشياء مختلفة كل الاختلاف، لم يستجب لهذا العرض. وفي عام 1667م التحق بالسلك الدبلوماسي مع كبير أساقفة مينتس
Página desconocida