Sabiduría Occidental

Fuad Zakariyya d. 1431 AH
146

Sabiduría Occidental

حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي

Géneros

ويعرض ماكيافيلي في المناقشة العامة لكتاب «الخطابات» نظرية الضوابط والتوازنات. فلا بد أن تكون لكافة فئات المجتمع سلطة دستورية ما حتى تستطيع هذه الفئات أن تمارس فيما بينها قدرا من الرقابة المتبادلة. وترجع هذه النظرية إلى محاورة «السياسي» عند أفلاطون، وقد أصبحت لها مكانة بارزة بفضل جون لوك في القرن السابع عشر، وبفضل مونتسكيو في القرن الثامن عشر. وهكذا فإن ماكيافيلي كان له تأثيره في نظريات الفلاسفة السياسيين الليبراليين في العصر الحديث، مثلما كان له تأثيره في ممارسات الحكام المستبدين المعاصرين. فالكثيرون يمارسون نظرية الازدواجية إلى المدى الذي توصلهم إليه، وإن كانت لها حدودها التي لا تتعداها، والتي لا يبحثها ماكيافيلي.

لقد استغرقت حركة النهضة، التي اكتسحت إيطاليا خلال القرن الخامس عشر، بعض الوقت لكي تمارس تأثيرها شمال جبال الألب، وقد طرأت على قوى الأحياء بعض التغيرات الهامة عندما انتشرت شمالا، من هذه التغييرات أن النظرة الجديدة ظلت في الشمال أمرا يهم أهل العلم والمعرفة وحدهم إلى حد بعيد، بل إننا لو شئنا الدقة لما كان من حقنا أن نتحدث عن نهضة بمعنى البعث أو الإحياء، إذ لم يكن يوجد في الشمال شيء كان موجودا من قبل وأصبح من الممكن الآن أن يولد من جديد، وعلى حين أن تراث الماضي كان له معنى غامض ما في نظر الناس عامة في الجنوب، فإن تأثير روما في الشمال كان مؤقتا أو غير موجود. وهكذا قاد الحركة الجديدة أهل العلم في المحل الأول، ومن ثم كان الإقبال عليها محدودا بقدر ما. ولما كانت هذه الحركة الإنسانية الشمالية لا تستطيع التعبير عن ذاتها بنفس القوة في الميدان الفني، فقد اتخذت في بعض جوانبها طابعا أكثر جدية. وفي النهاية كان انفصالها عن سلطة العصور الوسطى أشد حدة وأكثر وضوحا مما حدث في إيطاليا. وعلى الرغم من أن كثيرا من باحثي الحركة الإنسانية لم يكونوا راضين عن الانشقاق الديني الذي أحدثته حركة الإصلاح، فقد كان من المتوقع على نحو ما، أن يحدث ذلك إن حدث في أعقاب حركة النهضة في الشمال.

ومنذ عصر النهضة أصبحت وظيفة الدين في حياة الناس مختلفة كل الاختلاف على جانبي جبال الألب. ففي إيطاليا كانت البابوية تمثل بمعنى ما الارتباط المباشر بماضي الإمبراطورية الرومانية. أما عن ممارسة العقيدة ذاتها، فقد أصبحت أقرب إلى طابع النظام الرتيب المتكرر، وجزءا من الحياة العادية يتم أداؤه بنفس الطريقة غير المكترثة التي يتم بها الأكل أو الشرب، وحتى اليوم تجد الممارسة الدينية في إيطاليا مشوبة بهذا الطابع غير المتحمس، إذا ما قورنت بنظائرها في البلاد الأخرى. وهكذا كان هناك سببان جعلا من المستحيل حدوث انشقاق تام عن التراث الديني الموجود؛ أولهما هو أن الكنيسة كانت بمعنى ما جزءا من المؤسسة، حتى لو كانت البابوية، كما أشار مكيافيلي، عقبة في طريق الوحدة الوطنية الإيطالية، وثانيهما هو أن المعتقدات لم تكن تعتنق بنفس الاقتناع العميق الذي كان يمكن أن يؤدي إلى تغيرات جذرية إذا اقتضى الأمر. أما رجال الحركة الإنسانية في الشمال فكان لديهم اهتمام أصيل بالدين وبالإساءات التي أصبح يعاني منها. وهكذا كانوا في كتاباتهم الجدلية معادين بشدة للممارسات الهابطة التي كانت تقوم بها المستويات العليا في الكنيسة. ولنضف إلى ما تقدم ذلك الشعور بالعزة الوطنية الذي لم يكن كبار رجال الدين الإيطاليين يعملون حسابه دائما. فلم تكن المسألة مجرد حرص على تلك الأموال التي كانت تدفع من أجل إعاشة روما وتجميلها، بل كانت أيضا مسألة سخط مباشر على الطريقة المترفعة التي كان الإيطاليون المرحون ينظرون بها إلى النيوتونيين أكثر جدية في الشمال.

كان أعظم شخصيات الحركة الإنسانية الشمالية هو إرازموس

Erasmus

من مدينة روتردام (1466-1536م). وكان والدا إرازموس قد توفيا قبل أن يبلغ العشرين، فحال ذلك على ما يبدو بينه وبين الالتحاق مباشرة بالجامعة. وبدلا من ذلك أرسله الأوصياء عليه إلى مدرسة للرهبان، والتحق عندما حان الوقت بدير أوغسطين في شتاين

Steyn . وقد ولدت هذه التجارب المبكرة لديه كراهية دائمة للنزعة المدرسية الصارمة الجامدة التي وقع في حبائلها. وفي عام 1494م عينه أسقف كامبراي

Cambrai

سكرتيرا له، وبذلك ساعده على التخلص من عزلة الرهبنة في شتاين. وتلت ذلك عدة زيارات لباريس، ولكن الجو الفلسفي في السربون لم يكن مشجعا على اكتساب معرفة جديدة. ذلك لأن الفرق المتنازعة التي تدين بالولاء لتوما الأكويني ولوليام الأوكامي قد تناست أحقادها في مواجهة حركة الإحياء، وأصبحت تقف صفا واحدا في مواجهة رجال النزعة الإنسانية.

وفي نهاية عام 1499م قام بزيارة قصيرة لإنجلترا، حيث قابل كولت

Página desconocida