Sabiduría Occidental
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
Géneros
وإن مشكلة البقاء لتعني في المحل الأول أن على الإنسان أن يحاول تشكيل قوى الطبيعة وفقا لإرادته، ولكن قبل أن يتحقق ذلكم بطرق نستطيع اليوم أن نصفها بأنها علمية، مارس الإنسان السحر. والواقع أن الفكرة العامة الكامنة من وراء العلم والسحر كانت واحدة؛ ذلك لأن السحر إنما هو محاولة للحصول على نتائج خاصة على أساس طقوس محددة بدقة. وهو مبني على الاعتراف بمبدأ السببية، أي المبدأ القائل إنه إذا توافرت نفس الشروط المسبقة، ترتبت عليها نفس النتائج. وهكذا فإن السحر شكل أولي للعلم
. أما الدين فينبثق من مصدر آخر؛ ففيه تبذل محاولة للوصول إلى نتائج مضادة للتعاقب المنتظم أو معاكسة لها، فهو يمارس عمله في نطاق المعجزات، التي تنطوي ضمنا على إلغاء السببية، وهكذا فإن طريقتي التفكير هاتين مختلفتان كل الاختلاف، برغم أننا كثيرا ما نجدهما ممتزجتين في الفكر البدائي.
ومن خلال الأنشطة المشتركة التي تمارسها الجماعات سويا، تنمو وسيلة الاتصال التي نطلق عليها اسم اللغة، والتي تنحصر مهمتها الأساسية في أن تتيح للناس العمل من أجل هدف مشترك؛ فالفكرة الأساسية فيها هي فكرة الاتفاق، وهذه الفكرة ذاتها يمكن أن ينظر إليها بالمثل على أنها نقطة بداية المنطق. وهي تنشأ من أن الناس عند تبادل الاتصال بينهم يصلون آخر الأمر إلى اتفاق، حتى لو اكتفوا بأن يتفقوا على الاختلاف، ولكن أجدادنا كانوا عندما يصلون إلى مثل هذا الطريق المسدود، يسوون المسألة بممارسة القوة، فعندما تجهز على محدثك، يستحيل أن يناقضك. غير أنهم كانوا أحيانا يلجئون إلى بديل آخر، هو متابعة المسألة بالمناقشة، إن كانت تقبل المتابعة على الإطلاق ، وهذا هو طريق العلم والفلسفة.
وللقارئ أن يحكم بنفسه على مدى تقدمنا في هذه الناحية منذ عصور ما قبل التاريخ.
إن فلسفة اليونانيين تكشف طوال مراحلها عن تأثير عدد من الثنائيات. وقد ظلت هذه الثنائيات، في صورة أو أخرى، تشكل حتى اليوم موضوعات يكتب عنها الفلاسفة أو يتناقشون حولها. وأساس هذه الثنائيات جميعا التمييز بين الصواب والخطأ، أو الحقيقة والبطلان. ويرتبط بها ارتباطا وثيقا، في الفكر اليوناني، ثنائيتا الخير والشر، والانسجام والتنافر أو النزاع، ثم تأتي بعد ذلك ثنائية المظهر والحقيقة، التي ما تزال حية إلى حد بعيد في يومنا هذا. وإلى جانب هذه نجد مسألتي العقل والمادة، والحرية والضرورة. وهناك فضلا عن ذلك مسائل كونية تتعلق بكون الأشياء واحدة أم كثيرة، بسيطة أم معقدة، وأخيرا ثنائية الفوضى والنظام، والحد واللامحدود.
والحق إن الطريقة التي عالج بها الفلاسفة الأوائل هذه المشكلات هي طريقة ذات دلالة بالغة؛ فقد تنحاز إحدى المدارس إلى أحد طرفي الثنائية، ثم تظهر بعدها مدرسة أخرى تثير اعتراضات وتتخذ وجهة النظر المضادة. وفي النهاية تأتي مدرسة ثالثة، وتقوم بنوع من الحل الوسط الذي يتجاوز الرأيين الأصليين. والواقع أن هيجل قد توصل أول الأمر إلى فكرته عن الجدل (الديالكتيك) عن طريق ملاحظة «معركة الأرجوحة» هذه بين المذاهب المتنافسة لدى الفلاسفة السابقين لسقراط.
وهناك صلات متبادلة - على أنحاء ما - بين كثير من هذه الثنائيات، على أننا سوف نتجاهل هدف الدقة التامة فنعزل كلا منها عن الأخريات حتى نكشف عن مختلف أنواع المشكلات التي كانت تعالجها الفلسفة؛ فثنائية الصواب والخطأ قد نوقشت في المنطق. أما مسائل الخير والشر، والانسجام والتنافر، فتنتمي إلى الأخلاق. وأما مشكلات المظهر والحقيقة، والعقل والمادة، فيمكن النظر إليها على أنها هي المشكلات التقليدية لنظرية المعرفة أو الإبستمولوجيا.
وأخيرا فإن الثنائيات المتبقية تنتمي - بدرجات متفاوتة - إلى مبحث الوجود (الأنطولوجيا). وبطبيعة الحال فليس في هذه التقسيمات فواصل قاطعة، بل إن الحدود الفاصلة بينها قد تعبر، وربما كان عبور الحدود هذا من السمات المميزة للفلسفة اليونانية.
لقد ظهرت أول مدرسة للفلاسفة العلماء في ملطية
Miletus ، وهي مدينة كانت تقع على ساحل أيونية، وكانت مركزا نشطا للتبادل التجاري، توجد في جنوبها الشرقي قبرص وفينيقيا ومصر. وفي شمالها بحر إيجه والبحر الأسود، وإلى الغرب عبر بحر إيجه توجد أرض اليونان الأصلية وجزيرة كريت. ولقد كانت ملطية تتصل اتصالا وثيقا في الشرق بإقليم ليديا
Página desconocida