Sabiduría Occidental
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
Géneros
مقدمة المترجم
في تصديرنا للجزء الأول من هذا الكتاب، حرصنا على أن نشير إلى موقف برتراند رسل من مشكلة ارتباط الفلسفة بالحضارة الغربية، وهو الارتباط الذي يؤكده عنوان الكتاب ذاته. وسوف يرى القارئ، في خاتمة هذا الكتاب أن المؤلف يعود إلى تأكيد هذا المعنى ذاته ويبرزه في الصفحات الأخيرة من كتابه. فهو يقدم سببين رئيسيين لاقتصاره في الكتاب على معالجة حكمة الغرب، وعدم إفساحه مجالا «لما يطلق عليه عادة اسم حكمة الشرق»: الأول هو أن العالمين، الغربي والشرقي، قد سارا في طريقين منفصلين بحيث تطور كل منهما بمعزل عن الأخر. والثاني هو أن تطور الفلسفة في الغرب قد اتسم بسمة فريدة، هي أنه سار في طريقه منذ أيام اليونانيين، مرتبطا بالعلم، وكان هذا الارتباط هو الذي أضفى على الحضارة الغربية ذلك الطابع الذي يميزها عن «تأملات العقل الشرقي».
هذان التعليلان يثيران اعتراضات لا أول لها ولا آخر، ولو أطلق المرء لفكره العنان لاحتاجت مناقشته لهذا الموضوع إلى دراسة كاملة. ولكن، حسبنا أن نورد بعض الملاحظات على آراء رسل هذه؛ كيما نحفز ذهن القارئ إلى مزيد من التفكير في هذا الموضوع الهام.
إن القول بأن الحضارتين الشرقية والغربية قد نمت كل منهما في اتجاه مستقل من اتجاهات التطور، لا يمكن قبوله إلا بكثير من التحفظات. فمن الجائز أن هذا الحكم يصدق على حضارات الشرق الأقصى، كالهندية والصينية، ولكنه لا يسري بالقطع على حضارة الشرق الأوسط. فقد كان التداخل بين هذه الحضارة والحضارة الغربية وثيقا على مر التاريخ، حتى ليمكن القول أن مسار التطور في هذه الحالة إنما كان سلسلة طويلة من حالات التأثير والتأثر، ومن التفاعل الذي يجعل من المستحيل رسم خطوط قاطعة تفصل بين اتجاهات النمو في كلتا الحالتين. ويكفينا في هذا الصدد أن نشير إلى تلك الحقائق التي أصبحت معروفة عن تأثر اليونانيين القدامى بالحضارات الشرقية القديمة، ثم تأثير الحضارة اليونانية ذاتها، علما وفلسفة، في عالم الإسلام، وأخيرا، ذلك الدور الفعال الذي مارسته الثقافة العربية في إرساء القواعد الأولى للنهضة وهدم عالم العصور الوسطى في أوروبا.
وهكذا يستحيل القول بوجود مسارين منفصلين كل الانفصال حين نتحدث عن نمو الحضارة الأوروبية في علاقته بنمو حضارات الشرق الأوسط. وإذا تذكرنا أن المسيحية التي تمثل إحدى الدعامات الرئيسية لحضارة الغرب، إن لم تكن هي محورها الأساسي، هي ذاتها عقيدة نشأت ونمت واكتسبت سماتها المميزة في تربة شرقية، وارتبطت تاريخيا بعقائد الشرق القديمة أوثق الارتباط - عندئذ يتضح لنا أن الحكم الذي أصدره رسل لا يمكن أن يقبل على علاته. ولا سبيل إلى فهم موقف رسل في هذا الموضوع إلا على أساس أنه أسقط حضارات الشرق الأوسط من حسابه، ولم يكن في ذهنه إلا حضارات الشرق الأقصى، أو أنه كان يعتقد أن التفاعل بين الغرب وبين الحضارات الشرقية كان تأثيره من الضآلة بحيث لا يجوز الاعتداد به - وفي كلتا الحالتين لا نعتقد أنه كان على صواب.
أما التعليل الثاني فربما كان يثير مزيدا من الإشكالات. فمن الصحيح بالطبع، أن جذور الفلسفة والعلم كانت في العصر اليوناني واحدة، وأن البدايات الأولى لتاريخ الفلسفة، في ذلك العصر، كانت هي ذاتها البدايات الأولى لتاريخ العلم. ولكن هذا الارتباط لم يدم طويلا. فقد سكت صوت العلم طوال الجزء الأكبر من العصور الوسطى الأوروبية، وتحول اهتمام الفلسفة إلى المسائل اللاهوتية. وحين استعاد الفكر الأوروبي حيويته في مطلع العصر الحديث، افترق طريقا الفلسفة والعلم. وكل من درس مقررا مبسطا في تاريخ الفلسفة والعلم يعلم أن العلوم، بعد أن كانت مندمجة في الفلسفة في العصور القديمة، أخذت تستقل عنها، الواحد منها تلو الآخر، منذ بداية العصر الحديث؛ بحيث لم يعد القول بأن «الفلسفة أم العلوم» يعني أن الفلسفة أم تقدم الرعاية المستمرة للعلوم، بقدر ما أصبح يعني أنها أم بالمعنى التاريخي، أي «أصل»، وأن أبناء الفلسفة قد استقلوا عنها، وأصبحت لهم حياتهم المستقلة، وتجاوزوها بمراحل، تماما كما يحدث بين الأبناء وأمهاتهم في الحياة الواقعية.
ولكن ، هل تعني ملاحظتنا هذه أن الفلسفة الغربية قطعت صلتها بالعلوم نهائيا منذ مطلع العصر الحديث؟ لا شك أن الأمر يختلف عن ذلك كل الاختلاف؛ فمعظم الفلسفات الحديثة الكبرى في الغرب لا تفهم إلا في ضوء موقف معين اتخذته من العلم، تستوي في ذلك فلسفة بيكن وديكارت واسبينوزا وليبنتس وكانت، وحتى هيجل وهوسرل. ولكن من الواجب أن نفرق بين هذا النوع من الارتباط بالعلم، وبين شكل الارتباط الذي كان قائما في العصر اليوناني. ففي المرحلة اليونانية كانت بدايات العلم وبدايات الفلسفة واحدة، وكان الإنتاج الفلسفي هو ذاته إسهام في إنتاج العلم. أما في العصر الحديث، حين أصبحت للعلوم مناهجها وموضوعاتها الخاصة، فقد أصبح دور الفلسفة إما ممهدا للعلم وإما لاحقا له، ولكنه لا يسير معه على طريق واحد، ولا يستهدف معه غاية واحدة. قد تحاول الفلسفة «تأسيس» العلم، وقد تحاول جمع نتائجه في نظرة شاملة إلى الكون، ولكنها لا تدعي في أية حالة أنها «تصنع» العلم. إنها قد تتولى مهمة التمهيد له، أو التعليق عليه، ولكنها لا تزعم أبدا أنها تشاركه في سعيه التدريجي الدءوب من أجل كشف قوانين الطبيعية.
وهكذا فإن الحكم العام الذي أصدره رسل عن ارتباط الفلسفة الغربية بالذات، منذ نشأتها، بالعلم، ينبغي أن يفهم في ضوء أبعاد أعقد بكثير من الصيغة المبسطة التي استخدمها المؤلف.
ولكن لنفرض جدلا أن قضية رسل هذه صحيحة على إطلاقها، وأن الفلسفة الغربية تميزت عن غيرها من الفلسفات بارتباطها الوثيق بالعلم منذ نشأتها الأولى (على حين أن الحكمة الشرقية - كما يفهم ضمنا - كانت تفكيرا في مسائل أخلاقية أو دينية فحسب)، فما الذي يدل عليه هذا الحكم. إن أقصى ما يستنتج منه هو أن الفلسفة في الغرب قد اختارت لنفسها طريقا معينا، مرتبطا بالعلم، ولكن هذا لا يمنع على الإطلاق من تصور فلسفات أخرى تسير في طرق مغايرة، ترتبط فيها بالأخلاق أو الدين أو السياسة أو المجتمع. إننا نستطيع أن نسلم، مع رسل، بأن الفلسفة الغربية انفردت، دون غيرها، بارتباطها بالعلم منذ البداية ، ولكن النتيجة التي يخلص إليها من ذلك، وهي أن هذه هي الفلسفة الوحيدة الجديرة بالاهتمام، لا تلزم عن هذه المقدمة على الإطلاق. فالفلسفة الغربية قد «اختارت» طريق الارتباط بالعلم، وهو طريق لا ينبغي أن يكون ملزما لكافة الفلسفات الأخرى. وحين يتخذ رسل من هذا الاختيار مقياسا عاما يحكم به على بقية الفلسفات، فهو في الواقع يحاسب الفلسفات الأخرى على أسس لا شأن لها بها، ويبدأ باتخاذ وجهة نظر الفلسفة الغربية ثم يعيب على الآخرين عدم تحقيقهم لوجهة النظر هذه! وليس من الصعب أن يلمح المرء ها هنا مظهرا من مظاهر تمركز الفكر الأوروبي حول ذاته، وعجزه عن إدراك العالم من منظور غير منظوره الخاص.
إن الهدف من هذا الحديث كله ليس توجيه النقد بقدر ما هو إيضاح حدود الموضوعية في الفكر الفلسفي. فقد تبين منذ وقت طويل أن المؤرخ لا يستطيع أن يكون موضوعيا، أو يقف إزاء الأحداث التي يعرضها موقفا محايدا لا شأن لأفكاره وتوجهاته وميوله الخاصة به. ولكن الفيلسوف كان يرى نفسه على الدوام مختلفا عن المؤرخ؛ إذ إن الحقيقة المنزهة، الخالصة، التي تسمو على كافة العوامل الذاتية، هي هدفه المعلن دائما. ومع ذلك فإن الفيلسوف إنسان، ومن ثم فهو لا يستطيع أن ينسلخ كلية عن حضارته، وعن بيئته، وعن بلده، وعن تربيته.
Página desconocida