إن أنكر الأصوات لصوت الحمير ، ولما كان هذا الخطيب ذا مكانة في نفوس قومه ، كانوا يحتملون الضيم في سماعه، ويفضلون أن يؤلموا أنفسهم على أن يؤلموه في نفسه.
فحدث أن خطيبا نزل بالبقعة التي كان فيها صاحب الصوت الفظيع، وكان بينهما حقد، فقال له يوما: رأيتك فيما يرى النائم تخطب في الناس بصوت لطيف يبهج السامعين، فكانوا مقبلين على صوتك إقبالهم على قولك، فدعوت الله أن يحقق ذلك الحلم، ويا حبذا لو صحت الأحلام، فقال الخطيب ذو الصوت المزعج: لعل الله يجيب دعاءك، ويحقق رؤياك؛ فقد نبهتني إلى عيب في نفسي كنت عنه غافلا، فجعلتني أفطن منذ اليوم إلى قبح صوتي، وسوف أبدأ بتخفيف وطأته على الأسماع، فيكون في ذلك تحقيق لحلمك وراحة للناس.
قرناء السوء
سئل حكيم عن قرناء السوء، فقال: هم الذين إذا جالسوك ذبحوك بمدحهم، وأغمضوا عيونهم لعيوبك، وغضوا أبصارهم عن ذنوبك، وبدلوا سيئاتك حسنات، ورذائلك خلالا فاضلات، وقالوا عن باطلك إنه حق، وعن سمك إنه ترياق، ولا خير في هؤلاء وإن كانوا من الأصدقاء، وإن عدوا جسورا لا يملقك ولا يداجيك أفضل من صديق يخدعك ويغشك، فلا يكون الرجل كاملا إلا إذا عرف عيوب نفسه، فأخذ في إصلاحها. أما من لا يود أن يسمع عن نفسه إلا الثناء فهو فريسة الغرور، وهيهات أن ينتبه من غفلته، أو يصحو من نشوته قبل أن يفوت الأوان، وتصير الأغصان أخشابا؛ فيعجز عن تقويم اعوجاجها.
خطيب المسجد
يحكى أنه كان في مسجد من مساجد سنجار مؤذن تجزع النفوس من قبح صوته إذا دعا الناس إلى الصلاة، وكان صاحب المسجد أميرا فاضلا؛ فلم يشأ أن يسيء الرجل في نفسه فقال له: إن في هذا المسجد غيرك من المؤذنين ثلاثة شهد لهم بالحذق والبراعة وحسن الصوت، ولا يزالون في عنفوان الشباب. أما أنت فقد بلغت سنا ينبغي أن تلزم فيه دارك، فإذا أردت ذلك أعطيتك ضعف ما تناله الآن، فقبل المؤذن الثقيل تلك العطية، وأراح المصلين من أذى صوته.
وقد لقيه صاحب المسجد بعد حين فسأله عن حاله، فقال: قصدت مسجدا غير مسجدك وشرعت أؤذن، فلما أن قضيت يومي قال لي صاحب المسجد: إنه في غنى عني، ففطنت إلى أنك لم تجعل لي جعلا إلا لقبح صوتي، وذكرت ذلك لصاحب المسجد فمنحني عشرين دينارا، على أن أولي عنه، فقال صاحب المسجد الأول: تشدد يا بني في الطلب؛ فإن مولاك الجديد لا يألو جهدا في صرفك عن مسجده، ولا يدخر وسعا في الخلاص منك ولو كلفه ذلك خمسين دينارا مشاهرة.
الشيخوخة
يا عجبا للناس لو فكروا
وحاسبوا أنفسهم أبصروا
Página desconocida