أجد لنا طيب المكان وحسنه
منى فتمنينا فكنت الأمانيا
عرفت جنة ذات أنهار حذاء نهر جرار، وحوض ثرثار، ذات أشجار باسقة، وغصون متقاربة متلاصقة، قد كساها الجمال ثوبا قشيبا باهرا، وحباها الحسن نصيبا وافرا؛ فخضرتها تسر الناظرين، ومنظرها يبهج الرائين، سيما وقد ازدانت مروجها بالأزهار كما تزدان بالعقود النحور، فقصدتها في يوم النيروز وإذا بالبلابل تغرد على الأغصان، والطيور تسبح باسم المهيمن الديان، فكأن تلك الجنة جامع فسيح، وتلك الطيور خطباء تصيح بالوعظ الصحيح، وكأن قطر الندى على الشجر دموع انهملت من عين عابد في السحر، أو بكاء عاشق بان عنه معشوقه وبان له القمر.
قضيت مع صديق لي في تلك الجنة ليلة لا تحسب من العمر، بين الغصون والرياحين والزهر، وكنا إذا سرنا خيل لنا أن حصاها من البلور، وأن قطوفها جوهر، وأن ماء أنهارها من زبرجد، وأزهارها من عسجد، ومن رأى زهر الخزامى وهو يميل نحو الورد للتقبيل، أو لحظ النرجس وهو ينظر إلى السماء بمقلته النجلاء، ورأى الماء أزرق كعين السنور، صافيا كقضيب البلور، بل كلسان الشمعة في صفاء الدمعة، قال: لا ريب في أن هذه روضة من رياض الجنان، وهبها الرحمن لبني الإنسان؛ ليتحدثوا بنعمته، وليسبحوا بحمده.
فلما هزمت جيوش الصباح جنود الظلام، وولى الليل مدبرا، وجاء الفجر مقبلا بسلام، وعزمنا على الانصراف عن تلك الحديقة الأنيقة، عز علينا فراق ذلك الجمال، ووددنا لو أننا نبقى فيها سبع ليال نمتع أثناءها الطرف والشم، ونفرج في خلالها الكرب والهم، ولكن هيهات أن يتم لنا ما نرجو في تلك الدنيا الفانية، أو ننال في الأولى ما نمتع به في الثانية، فنهضنا والأسف ملء القلوب، واستسلمنا للقضاء استسلام أيوب.
وإني لكذلك أتحفز للمسير، وإذا بصاحبي يشد ثيابه ليملأ أهدابه بالأزهار الزكية، كالورد الذي أسكرنا عطره، والنرجس الذي ملأ المكان عبيره ونشره، فقلت له: ماذا أنت صانع، يا أخي، بتلك الأزهار البهية؟ قال: أحملها لإخواننا ممن لم يسعدهم الله بمثل ما أسعدنا، فأجبته لساعتي: ألست تعلم أن الأزهار النضرة سوف يئول أمرها إلى الذبول؟! وأن عطرها لا يدوم أكثر مما يدوم أثر الشمول؟! فلا نفع والحال كما ذكرت بتعزيز ما كان مصيره للفناء، فقال صاحبي: بماذا نعود إذن إلى أصحابنا بعد أن غبنا عنهم، وكان نصيبنا من الخير أوفر من نصيبهم؟
فوعدته بأن أكتب كتابا يكون كتلك الحديقة، غير أنه سهل المنال، وتبقى أزهارها على الدوام نضرة، لا يؤثر فيها تقلب الأيام والليالي، فإذا أنجزت ذلك الكتاب استغنى الناس عن البساتين؛ لأن وردها يبقى غضا يوما وليلة، أما ورد روضتي فسيبقى غضا على كر القرون والسنين.
أخلاق الملوك
غرور الحياة الدنيا
عجبا لي ومن رضاي بدنيا
Página desconocida