واختلف القوم على معنى الكلمة، وإبراهيم الصالح يتنحنح، وقد غاب عن الحضور بفكره ليأتي لهم بمعنى الكلمة، فيكون كلامه فصل الخطاب. وأما أخوه الصغير فريد فكان الحال عنده كالتياترو، فما كان يهدأ من الضحك بكل ما استطاع شدقاه وبكل ما في رئتيه من القوة.
وأخيرا صاح صائح وقال: «عندنا إبراهيم الصالح ونتجاسر على تفسير الكلمة، فلنسمعه الآن يحل لنا المشكل.»
وسكت الحاضرون، ووقف الفونغراف، وصاروا كلهم آذانا صاغية، مستعدة للسماع وعيونهم مصوبة على نقطة واحدة هي وجه إبراهيم الصالح.
عندئذ، لم يعد لإبراهيم من مهرب؛ فعار عليه ألا يحل مشكلة صغيرة كهذه، وهو لم يعودهم ذلك، ففتح أولا فمه ببطء كلي وعيناه محملقتان ووجهه يتطاول، وكان بطرف نظره يحدج أخاه فريدا؛ لهذا تلعثم قليلا، ولما تحنن الله على صبر القوم خرجت من فمه كلمة «أظن» خمس مرات، وبين كل مرة وأخرى فرصة دقيقتين، حتى أخيرا أفاض بحل المشكلة طارحا عنه التردد المصنع وقال: «إن السمار هو السامري عذول اليهودي، ويظهر أن قائل تلك الأبيات يهودي، فيكون المعنى أن العدو نام، وهو لم ينم بل أرقه الألم.»
ويظهر أن فريدا نسي أن أخاه الأكبر كان المتكلم؛ ولهذا استعان بكل ما في قدرته من الضحك حين كان الكل صامتين، على وجوههم سيماء الرصانة، يتوقعون القول الفصل من رب العرفان عندهم، وهذا ما دعا إبراهيم أن يستشيط غيظا من أخيه فشتمه، ولولا حرمة الناس لكان ضربه، فانتبه فريد لأمره، وعقب ضحكاته الطويلة عبوسة فجائية، فاستصفح أخاه، وأقر بأنه مخطئ، وأنه نسي نفسه لتفاسير القوم كلمة «سمار» بعيدة عن الصواب.
عندئذ قال له أخوه: «أنت يا فريد مثل كل ولد يأتي من سوريا مملوء دعوى، ولا تحترم معارف الآخرين، بل تظن أن ما تلقنته في المدرسة هو كل العلم مع أنه ينقصك تهذيب كثير. والآن - يا عيب الشوم - دعوتنا نخجل أمام الناس، فقم بنا قم.»
وقد ألح الحاضرون على إبراهيم أن يعدل عن فكره بالرحيل، وأن يهدئ روعه قليلا؛ فإن أخاه سيتعلم فيما بعد فيحسن سلوكه، ويعرف كيف يجالس الناس.
وكان أحد الحاضرين الذين فسروا الكلمة شديد الاستياء من جواب فريد لأخيه بأن تفاسير القوم أضحكته، فخاطبه بملء الاشمئزاز قائلا: «وهل عندك تفسير أحسن؟ إي نعم، نحن لم نتعلم في المدارس مثلك، ولكن لا أظن أن كلامنا يوجب ضحك الناس إلا إذا كان ضحكك بلا سبب، والضحك بلا سبب من قلة الأدب.»
هنا تبدلت هيئة فريد الصغير، فقال بصوت لطيف والحيرة آخذة منه مأخذا: «اعذروني يا إخوان على ما بدر مني، فأنا لم أقصد بضحكي الحط من كرامة الذين فسروا كلمة «سمار»، بل إن تفاسيرهم جعلتني أضحك؛ لأننا في مجلس سرور، ويجوز فيه لأي كان أن يضحك.»
أما إبراهيم، فظل واقفا يشد بذراع أخيه ليخرج من تلك الجلسة؛ لئلا يحدث ما يكدره أكثر. ولكن رجلا متقدما في السن أعجبه منطق فريد، فنهض باسما وتقدم إلى إبراهيم بلطف، سائلا إياه أن يعود إلى مكانه لمحو أثر الخلاف؛ خوفا على خاطر الصغير القادم من البلاد؛ فقد شعر بنفسه أن فريدا انكسر خاطره، فاضطر إبراهيم إلى الجلوس، وعاد الرجل المتقدم في السن فقال لفريد: «يا فريد، لا تزعل يا ابني، لا بأس عليك، مسألة صغيرة، لا تستح، فكل الحاضرين إخوان، أي يا ابني، اقعد وقل لنا الآن كيف تفسر كلمة سمار؛ لنضحك نحن عليك كما أنت ضحكت علينا.»
Página desconocida