وكان الناس قد تألبوا من خارج البناية وداخلها ومن الجوانب والأعالي يتفرجون على البطلين - بطلي الشريعة - يتشارعان على أمر لم يكن من سبيل لأحدهما أن يرى منه مخرجا، حتى أخذت المسألة دورا جديا انتهى معه دور المماحكة، وذهب عن جماعة المتفرجين دور التسلية أيضا؛ لأن الاثنين تماديا بعدما أسمع كل منهما الآخر أشياء غليظة، فتدافعا وكادا يتلاكمان، فتدخل بعض المتفرجين بينهما، وكبرت المسألة إلى حد أن فريقا احتمل جبرة، وفريقا آخر اختطف داود، فأدخل الأول أحد المنازل والثاني غيره، وكل منهما مطبق بقبضتيه والدم على أهبة التفجر من وجنتيه، وفمه يخرج حمم الكلام والصعقات على الآخر.
والتف قسم من الجمهور حول جبرة وآخر حول داود يهدئون روع كل منهما، حتى آن الأوان للصلح بينهما، وبعد الأخذ والرد قر القرار أن يقترب كل منهما خطوة نحو الآخر، فنقل جبرة من المنزل الذي أدخل إليه إلى آخر محاذ له، ونقل داود من ذاك الذي دخل إليه أيضا إلى الذي أدخل فيه جبرة من جديد، وهناك تجددت الشئون والشجون؛ لأن الاثنين رفض كل منهما القيام إلى ناحية الآخر لمصالحته، مدعيا أن الحق معه وعلى رفيقه، ومن كان على هذه الصفة يجب أن تحترم مكانته، فلا ينهض لمصالحة الآخر قبل أن يأتي هو إليه.
عندئذ، صاح أكثر القوم تقدما بالسن صيحة هدأ لها المكان، ولما تم له ذلك وقف بين المتخاصمين وقال: «الحق على الاثنين ...»
وما كاد يبدأ بالكلام حتى نهض الاثنان، يريدان محاجة المتقدم، ولكنهما أعيدا بالقوة كل إلى مكانه، وبعدئذ تابع ذلك المتقدم كلامه فقال: «نحن كلنا إخوان، وما على أحد منا الحق ...»
وما كاد المتقدم يصل إلى هذه العبارة حتى عاد الاثنان فنهضا، وكل مد ساعده نحو الآخر وقال: «بل الحق عليه.»
فأعيد الاثنان ثانية إلى مكانهما بقوة الجذب، ولما عاد الهدوء من جديد تبسم المتقدم وتابع كلامه فقال: «يا إخوان، أنا أكبركم سنا، أطلب من الاثنين شيئا واحدا، وهو أن يرضى كل منهما عن الآخر إذا وصل إليه حقه؛ ولهذا أرى أن لوح الزجاج انكسر وللوح الجديد ثمن، فلا المستأجر يغرم بثمنه ولا الوكيل يدفع عنه، فأرجو منهما أن يسمحا بأن أدفع من جيبي ثمنه، فنفض المشكل، وينتهي الأمر وتعود المياه إلى مجاريها.»
قال هذا ومد يده إلى جيبه، وأخرج كل ما كان فيه من النقود، ثم فتح عليها يده أمام داود وقال له أن يأخذ منها ثمن اللوح المكسور، فأجاب داود، معتذرا بأن ثمن اللوح وصل من زمان ولا حاجة إلى خسارته.
وكان أن جبرة أيضا شد العم المتكلم لناحيته، وأخبره بأن اللوح المكسور ليس من منزله ليتكرم بدفعه، بل هو من منزل غير منزله.
عندئذ قهقه القوم، وصار الجميع في شبه غيبوبة من الضحك الذي سرت عدواه إلى المتشرعين أيضا، فابتسم كل منهما أولا، ثم ضحكا مع الجمهور، وعندئذ قال الوسيط وهو دون الباقين ضحكا فقد كان منذهلا متحيرا بما سمع ورأى: «إذن تخاصمتما على لا شيء.»
فقال داود: «نعم يا عم، على لا شيء، ولو أن جبرة استوعى كلامي لما توصلنا إلى كل هذا.»
Página desconocida