Brandeis ، ثم انتقل إلى جامعة كاليفورنيا، حيث لا يزال يعمل حتى اليوم.
ولو شئنا أن نستخلص أهم المعالم في هذا العرض الموجز لحياة هربرت ماركيوز، أعني تلك المعالم التي تلقي ضوءا على فكره وتفسر اتجاهاته المتباينة، لكانت أبرز هذه المعالم في رأيي هي: (1)
انتماؤه إلى أسرة يهودية، وهو الانتماء الذي ظل ماركيوز متمسكا به، ولم يحاول أن يعلن تحرره منه، كما فعل ماركس بصورة قاطعة، وكما فعل فرويد بصورة تكاد تكون قاطعة. وليس أدل على ذلك من تلك المدة الطويلة التي قضاها في جامعة برانديس بالولايات المتحدة.
ذلك لأن هذه الجامعة يهودية بحكم نشأتها. وهي معقل الثقافة اليهودية في أمريكا، وجميع أعضاء هيئة التدريس والطلبة فيها من اليهود. (2)
اتجاهه إلى التعاطف مع الحزب الديمقراطي الاشتراكي في ألمانيا، ثم إعلانه بعد ذلك استقلاله عن جميع الأحزاب؛ ذلك لأن هذا الاستقلال أتاح له أن يتخذ مواقف تبدو كأنها تعبر الحواجز بين الأيديولوجيات المتعارضة، دون أن يجد في ذلك ما يتناقض مع معتقداته السياسية والاجتماعية الأصلية. (3)
اشتغاله لمدة طويلة في أعمال تخدم نشاط الحكومة الأمريكية المتعلق بالشئون الروسية وشئون أوروبا الشرقية بوجه عام، مما يحمل على الاعتقاد باستحالة أن يكون موقفه الحقيقي هو موقف الحياد بين المعسكرين. (4)
اتخاذه الولايات المتحدة وطنا ثانيا أقام فيه منذ عام 1934م؛ أي حوالي نصف عمره، مما أتاح له فرصة الاطلاع الكامل عن كثب على أحوال الحياة في أكثر البلاد الرأسمالية تقدما، وزوده بمعرفة مباشرة عن طبيعة المجتمع الصناعي المتقدم، لا سيما وهو قد رحل إليها في سن النضوج، وفي وقت كانت فيه قدراته الفكرية قد بلغت مستوى يتيح له القيام بتحليلات عميقة للمجتمع الذي يعيش فيه.
ولسنا نود، في الوقت الحالي، أن نبحث في مدى الاتساق بين هذه المعالم الرئيسية الأربعة في حياة ماركيوز، ولا سيما الثالث والرابع منها؛ ذلك لأنه يبدو أن هناك تناقضا بين قبوله الاشتغال في خدمة النشاط الأمريكي الموجه ضد أوروبا الشرقية عامة وبين نقده الحاسم للمجتمع الصناعي المتقدم كما يتمثل في الولايات المتحدة الأمريكية بوجه خاص. وتلك بالفعل مسألة جديرة بالبحث؛ لأنها تلقي ضوءا على موقفه العام من الأيديولوجيات المعاصرة وتكشف عن التيارات الخفية الكامنة وراء كثير من آرائه ذات المظهر التقدمي البراق. غير أننا لن نستطيع خوض موضوع معقد كهذا - هو في واقع الأمر متعلق بتقييم ماركيوز من حيث هو مفكر أيديولوجي بوجه عام - إلا بعد أن نكون قد عرضنا الجوانب الرئيسية لتفكيره.
النقد الفلسفي
تبلور تفكير ماركيوز من خلال حوار صامت أجراه مع «هيجل وماركس ونيتشه وفرويد» ومن خلال حوار حقيقي أجراه مع «هيدجر». وإذا كان من المعترف به أن هذه هي الشخصيات الرئيسية التي تحكمت في تشكيل فكر الإنسان المعاصر، فمن الصعب أن نتصور كيف يستطيع عقل واحد أن يستوعب كل هذه المؤثرات المتعارضة ويعترف صراحة بأنه كان بالفعل تلميذا لكل هؤلاء في آن واحد. على أن كل شيء - كما هو معروف - يتوقف على نوع «التلمذة» التي ربطت بين ماركيوز وبين هؤلاء الأقطاب. والأمر المؤكد أنه كان تلميذا خلاقا، وأن شخصيته كانت هناك دائما، أيا كانت قوة المصادر التي أثرت في تفكيره.
Página desconocida